بقلم زاهي المغيربي و نجيب الحصادي

نقف في هذه الورقة على الأطر النظرية المقترحة في أدبيات العلوم السياسية لتحليل عملية التحول الديمقراطي، كي نستعين بها في تشخيص التحديات التي تواجه هذه العملية في ليبيا، ثم نعرض مآلات قد يفضي إليها الفشل في إتمامها، وفرصا متاحة للحول دون فشلها، ونختتم بمحاولة تفسير تأخر الليبيين عن جيرانهم في طي صفحتهم الانتقالية.

.الجزء الثاني

الأطر النظرية لتحليل عملية التحول الديمقراطي .. تتمة

ج ـ الإطار المناسب للحالة الليبية

ثمة إذن إطار نظري بعينه، يتعين في المقاربة الانتقالية، ننحو إلى اعتباره الأقدر على تفسير عملية التحول الديمقراطي المحلية والتنبؤ بقادم مسارها.

غير أنه ليس هناك نمط بعينه، نعتبره الشكل المناسب لوصف الظروف الذي أسهمت في تشكل هذه العملية، فقد تمظهرت فيها مختلف أنماط الانتقال الديمقراطي.

على ذلك، تظل المقاربات النظرية، بسبب كونها نظرية، عاجزة عن تفسير خصوصيات أي تجربة وطنية، فالمقصود منها وضع إطار عام يندرج تحته العدد الأكبر من التجارب البشرية، ولذا فإنها عرضة لهدر الكثير من التفاصيل المهمة لفهم أي تجربة بعينها، ومجمل ما نستطيع أن نخلص إليه من مثل هذه المقاربات النظرية هو وجود صعوبات كأداء تواجه عملية التحول الديمقراطي في ليبيا.

ولأن تخطي أي صعوبة يستوجب تحديد طبيعتها، والبحث عن الأسباب التي أورثها، ولأن طي الصفحة الانتقالية تمظهر رسمي لتخطي بعض صعوبات التحول الديمقراطي، سوف نعنى في الجزء التالي بالعوامل التي أسهمت في تأخر الليبيين في طي صفحتهم، وحالت دون قطعهم شوطا كافيا في طريق التحول الديمقراطي.

ثانيا: تحديات التحول الديمقراطي في ليبيا

بينما تتضارب المؤشرات في تحديد ما سوف تؤول إليه المراحل الانتقالية، لا شك في أن ليبيا تحتاج إلى قطع شوط طويل حتى تتمكن من معالجة العواقب والآثار المترتبة على مساوئ حكم القذافي.

ذلك أن تركته لم تقتصر على انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب، أو إهدار الأصول الطبيعية والمالية الوطنية، بل طالت المنظومة القيمية الحاكمة في المجتمع الليبي.

وعلى حد تعبير عياض بن عاشور، فإن إرساء نظام قيمي جديد نادرا ما يجري إلى تمامه، فهو يبقى دائما قابلا للتراجع والسير إلى خلف، والتبديل لا يكتسب نهائيا، إذ إنه لا يجري على خط سوي، بل يمشي على طريق مليء بالتناقضات والتمزقات والآلام.

ويبدو أن لتغيير المنظومة القيمية الليبية أثمانا باهظة قد لا تقل عن الدم والخراب وأن الليبيين قد بدأوا بالفعل في دفعها.

وتواجه عملية الدمقرطة في ليبيا عوائق وصعوبات نجملها، دون الجزم بحصرها، في ستة تحديات رئيسة هي: الثقافة السياسية الشائهة، وضعف مؤسسات الدولة، والأوضاع الاقتصادية المتردية، والعوامل الاجتماعية المفرقة، وهشاشة المجتمع المدني، والفشل في التوافق حول قواعد العملية السياسية والسياسات العامة، والتدخل الأجنبي.

وفيما يسهم كل تحد بطريقته ونصيبه في إعاقة عملية التحول المرجوة، قد تتضافر التحديات مجتمعة في ترجيح احتمالات نسفها بالكامل.

ولعلنا بالنظر إلى العوائق بوصفها تحديات نضمر رؤية تفاؤلية مؤداها أنه ليس هناك ما يحول دون قدرة الليبيين على تخطي هذه العوائق عبر مجابهة التحديات التي تفرضها.

الحال أن المواقف التي اتخذتها بعض الشرائح في اتجاه تعزيز الدولة المدنية، ونجاح التجربة الانتخابية أربع مرات متتالية، إنما تشهد على أن قطاعا لا بأس به من الليبيين يراهن على الحلول السلمية، رغم انتشار السلاح، ويفضل الخيارات الديمقراطية، رغم حداثة العهد بها.

غير أن أثر المنظومة القيمية الراهنة، بكل ما تؤسس له من سلوكات سلبية، وحقيقة أن تركة الخراب التي أورثها النظام السابق، بكل تداعياتها المؤسية، أثقل من أن تزاح خلال عقود، إنما تفرضان علينا الإمساك عن الإسراف في التفاؤل، والوقوف عند حد وصف العوائق بالتحديات.

أـ الثقافة السياسية الشائهة

يفترض أن تتضاعف احتمالات الدمقرطة في البلدان التي تكون فيها الثقافة السياسية معززة للتوجهات الديمقراطية. غير أن التنشئة السياسية الشائهة التي روج لها النظام السابق تشكل عائقا رئيسا لعملية التحول الديمقراطي في ليبيا، فقد أنتجت، ضمن ما أنتجت، وعيا سياسيا متخلفا وميولا إقصائية تخوينية.

ـ تخلف الوعي السياسي

أسوأ عطب يمكن أن يصيب التنشئة السياسية هو الفشل في جعل المعرفة المعين الرئيس لوعي الأفراد والجماعات. ذلك أن الوعي المؤسس علميا أقدر على توسيع المدارك من الوعي القائم على الخرافة والدجل، كما أن الوعي المستريب والمنفتح على الثقافات الأخرى أقدر على توسيع الآفاق من الوعي الواثق والمنكفئ على ذاته.

ووفق ذلك، ليس بالمقدور إنجاز أي تحول ديمقراطي حقيقي إلا بجعل المعرفة العلمية والأداء الثقافي المتفتح ضمن عوامل تشكيل الذهنية الحاكمة للسلوك الاجتماعي. ولأن المؤسسات التعليمية، أحد أهم قنوات التمكين العلمي والمعرفي، تعاني في بلادنا من اختلالات بنيوية، فإن لنا أن ننحو إلى إقرار تخلف الوعي السياسي عند الليبيين.

وقد اتخذ النظام السابق اتخذ موقفا انغلاقيا تجاه كل وافد ثقافي، ووصمه بالغزو والاغتراب والاستلاب الثقافي، فرسخ بذلك توجسا من الانفتاح على الثقافات الأخرى، ما أسفر عن ضيق واضح في الأفق الفكري عموما والأفق السياسي تحديدا.

وفي الأثناء سيطرت أيديولوجيا طوباوية تعد بفراديس أرضية وحلولا نهائية لكل ما عانت منه البشرية من مشاكل عبر تاريخها المديد، وارتبطت هذه الأيديولوجيا بشخص اعتلى سدة الحكم، وتولى زمام نظام أمني اتخذ موقفا إقصائيا من كل النخب السياسية والثقافية، باستثناء تلك التي دارت في فلكه، فكانت النتيجة وعيا سياسيا شائها ومعيبا بامتياز.

وبعد قيام ثورة فبراير، حال ضيق الفترة المنقضية واستحقاقات التحول وحداثة التجربة الديمقراطية دون اتخاذ خطوات مهمة صوب الإصلاح من شأن هذا الوعي.

ففجأة فُتِّحت كل الأبواب، وشُرعت كل النوافذ، فتدافعت الرؤى السياسية والأيديولوجيات الفكرية في بيئة لم تكن حاضنة لثقافة الحوار ولا لقيم التسامح وقبول الرأي الآخر، وما لبث العنف، الذي امتلك أدواته المسلحة، حتى أصبح وسيلة في فرض التوجهات، وما فتئت تهم التكفير والتخوين، المؤدلجة دينيا أو سياسيا، تُرمى في وجه كل موقف مخالف.

وبطبيعة الحال، ليس للوعي السياسي أن يتشكل على نحو يحابي القيم الديمقراطية في ظروف كهذه وبيئة كتلك.

وحسبنا للاستشهاد على عطب المنظومة القيمية التي يتأسس عليها الوعي السياسي المحلي أن نذكر موقف الليبيين من قيمة الطاعة وبعض التوجهات السياسية كما رصده “المسح الشامل لآراء الليبيين في القيم”، وأن نقارنه بموقف شعوب الربيع العربي وبعض الشعوب راسخة الديمقراطية.

والطاعة قيمة سكونية في أنشطة عديدة، كالبحث العلمي والابتكار التقني والإبداع الفني والمشاركة السياسية، فهي تكرس تقليد السلف وتحض على الانصياع للسلطة والتسلط، في سياق يعد فيه التقليد والانصياع تحلل من المسؤولية وعائق للمبادرة.

وتشير بيانات المسح القيمي إلى أن الطاعة تحظى بأهمية كبيرة في منظومة الليبيين القيمية، حيث يرغب ستة من كل عشرة منهم في غرسها في نفوس أبنائهم، بينما لا يرغب في ذلك سوى 6.4% في أذربيجان؛ وإلى أن نسبة من يرون أن طاعة الحاكم خاصية مهمة للديمقراطية في ليبيا 24%، وفي تونس 23.2%، وفي مصر25.7%، وفي اليمن 45.8%، وهذه نسب بعيدة عن نظائرها في بعض الدول راسخة الديمقراطية، فهي 8.2% في الولايات المتحدة، 2.8% في ألمانيا، 3.2% في السويد، و1.1% في هولندا.

ولا يخفى أن اعتبار طاعة الحاكم خاصية مهمة للديمقراطية ناجم عن تنشئة سياسية شائهة، أنتجت ثقافة توقر الانصياع لمن تولى الحكم، بصرف النظر عن حسن إدارته.

أما فيما يتعلق بالمشاركة الفعلية في العملية السياسية، فإن 92.9% من السويديين و90.8% من الأمريكيين قاموا أو قد يقوموا بالتوقيع على عريضة التماس، بينما لا يسري ذلك إلا على 21.5% من الليبيين و25% من التونسيين و20.2% من اليمنيين و4.3% من المصريين.

وبخصوص المشاركة في مظاهرات سلمية كانت النسب 73.2% في السويد و68.5% في الولايات المتحدة وانخفضت إلى 49.9% في ليبيا و32.5% في اليمن و31.2% في تونس و10.6% في مصر، رغم التحولات السياسية الجائحة التي تمر بها بلدان الربيع العربي هذه.

أما فيما يتعلق بالمشاركة في إضرابات فكانت النسب 22.1% في اليمن و21.8% في تونس و20.9% في ليبيا و3.3% في مصر، بينما ارتفعت إلى 49.1% في الولايات المتحدة و72.5% في السويد.

وما يفسر هذا التفاوت هو أنه في البلدان راسخة الديمقراطية تسود ثقافة المشاركة التي تغرس في المواطن الإحساس بقدرته على التأثير في العملية السياسية، بينما لا يزال المواطن في بلدان الربيع العربي تحت هيمنة نمط ثقافة رعية تغذي الشعور بعدم قدرته على التأثير على هذه العملية وعدم جدوى مشاركته فيها.

ـ غلبة الميول الإقصائية

لا سبيل للمبالغة في أثر وخطر الميول الإقصائية على مسار ومآل عملية التحول الديمقراطي. وقد تمظهر هذا الصنف من الميول عند الليبيين في سلوكات مناوئة صراحة لعملية الدمقرطة، ويشهد على ذلك أن أكثر من نصف الليبيين، وفق استطلاع أجري في يونيو 2014، يعبرون عن موافقتهم على عزل كل من تولى منصبا سياديا في النظام السابق .

ويشهد عليه أيضا نوع الفئات التي لا يفضل الليبيون جيرتها، وهو مسلك ذو علاقة مباشرة بالنزوع صوب الإقصاء، بحسبان أن من لا يفضل جيرة فئة أميل إلى عدم التسامح معها، وأنزع من ثم إلى إقصائها.

ومناط أهمية الاعتقاد في جدارة الآخرين بالثقة أن التوجس في الآخر لا يسهم في تعزيز المشاركة المدنية ولا حتى الشراكة التجارية، ولا يجدي نفعا في التواصل الدولي ولا حتى المحلي، وهو لا يعين على الحوار، الاستحقاق الرئيس في أي مصالحة وطنية، وهذا يعني أنه قد يسهم بأكثر من طريقة في إعاقة عملية التحول الديمقراطي.

وتستبان غلبة الميول الإقصائية في هرمية المنظومة القيمية الليبية، مقارنة بهرميات نظائرها عند شعوب أخرى، من حقيقة أن الاعتقاد في جدارة الآخرين بالثقة لا يَقر إلا في نفوس أقلية ضئيلة من الليبيين (10%)؛

أما في هولندا فيعتقد 66.1% من السكان أن معظم الناس جديرون بالثقة؛ ونسبة من لا يرغب في أن يكون جاره من عرق آخر تبلغ في إسبانيا، 4.8%؛ أما في ليبيا فتصل إلى 55.1%، وهي نسبة لا تتفوق عليها سوى أذربيجان (58.1%)؛

ونسبة من لا يرغب في نيوزيلاندا في أن يدين جاره بدين آخر تبلغ 1.4%؛ أما في ليبيا فتصل إلى 54.1%، وهي نسبة لا تتفوق عليها سوى أرمينيا (56.6%)؛

ونسبة من لا يرغب في أن يكون جاره عاملا أجنبيا تبلغ في الأرجواي 1.7%؛ أما في ليبيا فتصل إلى 59%، وهي نسبة لا تتفوق عليها سوى ماليزيا (59.7%)؛

وأخيرا فإن نسبة من لا يرغب في السويد في أن يتحدث جاره لغة أخرى تبلغ 3.5%؛ أما في ليبيا فتصل إلى 39.3%؛ وهي نسبة يتفوق فيها الليبيون بلا منازع على كل شعوب الأرض.

يتبع في الجزء التالي بدءً بـ (ضعف مؤسسات الدولة)

***

محمد زاهي المغيربي ـ أستاذ العلوم السياسية ـ جامعة بنغازي

نجيب الحصادي ـ أكاديمي ومترجم ليبي، له العديد من المؤلفات، أستاذ في جامعة بنغازي

_____________

المنظمة الليبية للسياسات والاستراتيجيات

مواد ذات علاقة