بقلم محمود الريماوي

تثبت التطورات التي شهدتها ليبيا على مدى الأسبوعين الماضيين أن الحلول العسكرية والانقلابية التي يعتمدها الجنرال خليفة حفتر لن تؤدي إلى خلاص الليبيين، واستعادة بلادهم عافيتها، وتعترضها عقبات كؤود.

فقد قامت الثورة في ليبيا في يناير/ كانون الثاني 2012 ضد الحكم العسكري العائلي الذي كان يقوده معمر القذافي وأبناؤه وحفنة من شركائه في الجيش وأجهزة الأمن، وظلت البلاد يقودها أربعين عاماً مجلس قيادة الثورة، وهو هيئة تختزل كل المؤسسات السياسية والأمنية.

استعادت قوات الجيش التابعة لحكومة الوفاق المعترف بها دولياً مدن الساحل الغربي خلال أيام: صرمان، صبراته، العجيلات، الجميل، رقدالين، وزلطن، مروراً بمدن ومناطق ساحلية أخرى، وصولاً إلى الحدود التونسية في أقصى الغرب.

تم ذلك الاندحار لأن مقاتلي حفتر يفتقدون الدافعية والاحتراف، ولأنهم يدركون أن الجنرال المذكور رهين مغامراته وأهوائه بإعادة إنتاج حكم القذافي، بما يتسم به من تسلط وعشوائية وحكم عائلي.

لقد أعدّ الجنرال حفتر أبناءه على رأس بعض الفرق ليؤدوا مستقبلاً أدواراً شبيهة بأدوار أبناء القذافي، ولكن بحد أدنى من الانضباط العسكري وبمزاجية أقل.

وقد أتى خطاب الرجل، يوم الاثنين الماضي (27 إبريل/ نيسان)، بما يحمله من شطط سياسي، ومن تفويض ذاتي ينتحل اسم الشعب وإرادته، في محاولة للهرب إلى الأمام، بعد أن أعياه الرد على تقدّم قوات الوفاق، وبعد أن خسر انفراده بالسيطرة على الأجواء.

وإن تلقى خطوته تسميته نفسه قائماً بأعمال قيادة البلاد ردود فعل دولية ساخطة، جمعت الأمم المتحدة إلى أوروبا إلى روسيا وأميركا، فقد كان ذلك متوقعاً، مع القناعة المتزايدة بأن الرجل يناصب المشاريع والاتفاقيات السياسية العداء، ويرفض كل جهد دولي وإقليمي ترعاه الأمم المتحدة لتمكين الليبيين من تقرير مصيرهم.

وقد كان مثيراً للاهتمام أن الرجل قد أدار ظهره مجدّداً، وكما هو دأبه، للاتفاقيات، ومنها ما تم التوصل إليه في برلين وموسكو وجنيف في شتاء العام الماضي.

لقد امتد قفزُه عن الحلول إلى تجاهل مبادرةٍ طرحها، قبل أيام من خطابه، رئيس مجلس نواب شرق ليبيا عقيلة صالح، على الرغم من أنها لا تصبّ في صالح الاعتراف بالشرعية القائمة، وتثير مخاوف من تقسم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم: طرابلس في الغرب، برقة في الشرق، فزّان في الجنوب.

ومع ذلك، كان من شأن المبادرة تكريس الهدنة خلال شهر رمضان على الأقل، وكان حفتر قد سارع إلى خرق هدنةٍ مماثلةٍ أدّت إلى انطلاق عملية عاصفة السلامالتي تمت فيها استعادة مدن الساحل الغربي، وتهديد ثم تحييد قاعدة الوطية، مركز العمليات الرئيسي لمليشيات حفتر.

وفي واقع الحال، لم يأت خطاب الرجل بجديد يذكر، سوى تجديد الرغبة الذاتية في الحكم والانفراد به، مع تجاهل الانقسام القائم، وطموح الليبيين إلى دولة مدنية (لا دينية ولا عسكرية).

ومع الاستخفاف بالجهود الدولية، والتي أدّت إلى استقالة مبعوث الأمم المتحدة، غسان سلامة، في مطلع مارس/ آذار الماضي، بعد أن بذل جهداً فائقاً أزيد من عامين لوقف إطلاق النار، ومحاولة وضع البلاد على سكّة الحلول السياسية، وبعد تذمّره من عدم جدّية المجتمع الدولي في تهيئة البلاد لحل سياسي.

وما لم يقله سلامة، لاعتبارات دبلوماسية، أن التنصّل الفعلي من الالتزامات التي تضمنها اتفاق الصخيرات لعام 2015 قد أدى إلى الفوضى العسكرية، وبروز المطامح الذاتية المفرطة لأمراء الحرب، وخصوصاً لدى الجنرال حفتر.

وقد ترافق ذلك مع مطامع في السيطرة على ثروات البلاد، وظهور مشاريع ذات نزعة تقسيمية، واستسهال الاعتماد على دعم خارجي إلى درجةٍ باتت معها الاستعانة بالمرتزقة، مثل مرتزقة فاغنر الروسية، أمراً علنياً لا يحتاج إلى التستر عليه، وسبق لروسيا أن شقّت طريقها للتدخل المباشر في سورية بإرسال مرتزقة فاغنر إلى ذلك البلد.

وبينما تبدو حكومة الوفاق في طرابلس، هذه الآونة، في وضع سياسي وعسكري أفضل من الطرف الآخر، وأفضل مما كانت عليه قبل شهر، إلا أنها، ومعها المجلس الرئاسي، ما زالت تفتقد الدينامية المطلوبة لتزخيم الاعتراف الدولي بها.

فهي تترك للطرف الآخر فرصة إطلاق المبادرات، أياً كانت الملاحظات أو ردود الفعل عليها، إلا أنها تعكس حيوية سياسية، ويتقدّم أصحابها، مثل عقيلة صالح، لمحاولة ملء الفراغ وتحريك المياه الراكدة.

وفي وضع معقد مثل الوضع الليبي، فإن الدعم الذي يتلقاه حفتر لا يمكّنه من الظفر بالسيطرة على البلد، وسط انقسامات مناطقية واجتماعية، والافتقار إلى جيش محترف، فيما لا تكفي الشرعية التي تتمتع بها حكومة الوفاق، كي تتحوّل من تلقاء ذاتها إلى قوة سياسية فاعلة ومتماسكة في الداخل، وتحظى بالقبول الشعبي الواسع المطلوب.

وهكذا، إذ يبدو الحل السياسي الخيار المتاح الوحيد لإنقاذ ليبيا من أزمتها المتطاولة، فإن الليبيين عاجزون، في هذا الظرف، عن اللقاء في ما بينهم، وشق الطريق إلى الحل الذي يرتضونه بإرادتهم الذاتية وقناعتهم الحرّة.

وينقسم المجتمع الدولي بين:

ـ من يرغب في هدوء الأوضاع، بدون بذل جهد جدي لذلك، بما فيه حظر الأسلحة على جميع الأطراف،

ـ ومن يرغب في أي حل كان، يضمن للشركات أن تنال حصتها في استخراج ثروات البلاد النفطية،

ـ ومن يرغب في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإعادة تنصيب أبناء القذافي على رأس البلاد والإقامة على شواطئ المتوسط هناك.

وبهذا، تتبدّى محنة الليبيين، في وقوعهم ضحية نظام دولي رجراج، تتناهشه المصالح الذاتية والطموحات القومية وسياسات القوة، تحت زعم مريح لأصحابه، إنه عالم متعدّد الأقطاب، بلا اعتبار لحقوق الشعوب أو لقيم العدالة ورفع التسلط عن الشعوب المستضعفة.

وقد ظهر ذلك خلال جائحة كورونا التي لم تحرّك المجتمع الدولي إلى تعاون فعال إلا بقدر يسير، وبعدما بلغ الوباء درجة عالية من الخطورة.

أما في ليبيا، فإن انتشار الوباء من حولها، وداخلها مع ضعف الجهاز الطبي (وقبله الانهيار الاقتصادي في الداخل)، لم ينعكس على سلوك المغامرين فيها، وعلى تحويلهم بلادهم أشلاء.

***

محمود الريماوي ـ كاتب، معلق سياسي، قاص وروائي أردني/ فلسطيني. عمل في الصحافة منذ أواخر الستينيات، في صحف لبنانية وكويتية وأردنية كاتباً ومحرراً ورئيس تحرير. صدرت له 13 مجموعة قصصية وروايتان وكتابا نصوص. كاتب متفرغ ويدير الصحيفة الثقافية الالكترونية قاب قوسين“.

____________

مواد ذات علاقة