بقلم كرستينا كاوش

الأمور لا تسير على ما يرام للدبلوماسية الأوروبية في الحرب الأهلية الليبية؛ إذ جمعت آخر مبادرة، تلك التي دعت إليها الحكومة الألمانية، في يناير/كانون الثاني الماضي، كبارَ الداعمين الأجانب للفصيلين المتحاربين بليبيا في برلين، بهدف دفعهم إلى التراجع.

لكن على الرغم من صدور بيان ختامي مشجع يوافق على وقف نقل الأسلحة والقتال، نُكِثَت الالتزامات الشاملة في غضون أيام فقط من جانب أطراف عديدة.

وفي ظل دعم القوات التركية الآن لحكومة الوفاق الوطني، مقابل روسيا المنحازة إلى الجيش الوطني الليبيبقيادة خليفة حفتر، وعدم استعداد الإمارات التي تتخذ نهجاً أكثر حزماً للخضوع إلى تسوية تفاوضية، يُنتَظر أن يسوء الصراع أكثر.

مصالح مكتسبة

يُعَد هذا خطأ أوروبا من نواحٍ عدة، فبعد تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 2011، لم تكن هناك رغبة تُذكَر في وجود قوات دولية على الأرض لمساعدة الليبيين على إدارة العملية الانتقالية، وكانت سلطات ما بعد الثورة مترددة، وكذلك كان الحال بالنسبة لقوى الناتو.

ومنذ 2015 فصاعداً، دعم الاتحاد الأوروبي حكومة الوفاق والعملية السياسية التي تشرف عليها الأمم المتحدة، لكنَّها لم تقم بالكثير على الأرض.

وأسهمت فرنسا وإيطاليا اللتان منحتا الأولوية لمصالحهما الاقتصادية والأمنية المكتسبة، في نهاية المطاف، في تقويض عملية الأمم المتحدة من خلال دعم فصائل متعارضة، ما قلَّص الضغوط من أجل التوصل إلى تسوية وأبقى الصراع مستمراً. كانت فرنسا، على وجه الخصوص، مذنبة باللعب غير النزيه من خلال دعم حفتر باستمرار، على الرغم من الاعتراف رسمياً بحكومة الوفاق.

وأظهر الأوروبيون رؤيةً قاصرةً صادمة تجاه ليبيا، تُركِّز إلى حدٍّ كبير على الهجرة والتطرف العنيف. وعلى عكس الوضع في سوريا، لم يصِغ الاتحاد الأوروبي استراتيجية لبناء هياكل حكم محلية كانت مطلوبة لإعادة المجتمع الليبي ككل إلى وضعٍ أكثر استقراراً.

دعم الاتحاد الأوروبي حكومة الوفاق، لكنَّه لم يقم بشيءٍ يُذكَر لمساعدتها على العمل من خلال دعم عملية محلية أوسع لإرساء الاستقرار.

وعقب سنوات من الانقسامات الأوروبية الداخلية حول ليبيا، أوضح زحف حفتر في أبريل/نيسان 2019 نحو طرابلس كيف فقد الأوروبيون قدرتهم على تشكيل الأحداث هناك.

نفوذ متضائل

ومنذ ذلك الحين، تضاءل النفوذ الأوروبي على مدار الساعة. وأعقب التصعيد دخول المرتزقة الروس إلى جانب حفتر، في سبتمبر/أيلول الماضي، والمسلحين السوريين والقوات التركية إلى جانب حكومة الوفاق، في يناير/كانون الثاني الماضي، وهي التطورات التي طغت عملياً على دور أوروبا المحوري في ليبيا.

بحثت حكومة الوفاق في عام 2019 عن دعمٍ دولي ملموس، لكن لم يكن لدى أوروبا إلا البيانات العاجزة لتقدمها.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني، صُدِم الاتحاد الأوروبي بتوقيع اتفاقٍ تركي مع حكومة الوفاق بشأن الحدود البحرية، وهو ما منح حقوق التنقيب البحرية المثيرة للجدل إلى تركيا وربط بين ساحتين جيوسياسيتين صعبتين، وأدَّى إلى تشابُك مصير ليبيا مع مستنقع غاز شرق المتوسط ومسألة قبرص.

نتيجة لذلك، ظهر قدرٌ أقل من الوحدة؛ إذ باتت اليونان وقبرص داعمتين صريحتين لحفتر، في حين تبنَّت إيطاليا سياسة واقعية تتمثل في الوقوف على مسافة واحدةلاسترضاء كلا الطرفين، وهو ما لم يؤدِ إلا لفقدان حكومة الوفاق الثقة في روما.

وفوق كل ذلك، أكَّدت محاولة روسية تركية للتفاوض على وقفٍ لإطلاق النار بين حفتر ورئيس الوزراء الليبي فايز السراج بموسكو، في يناير/كانون الثاني الماضي، دون أي مشاركة أوروبية، إلى أي مدى جرى إقصاء الأوروبيين فعلاً.

ولهذا السبب أسرع مؤتمر برلين لإعادة الأوروبيين إلى اللعبة، وتأمين العملية متعددة الأطراف، لكنَّ ذلك كان أقل من المطلوب وبعد فوات الأوان. لقد جعلت أوروبا نفسها، بسبب الانقسامات والجمود، حشواً زائداً.

ويتحوّل تهميش روسيا وتركيا لأوروبا جيوسياسياً في البحر المتوسط إلى نمط متكرر. ففي سوريا أيضاً تفوقت الثنائية الروسية التركية على الأوروبيين في الاستراتيجية الجيوسياسية حين بدأت عملية أستانا، التي تضم روسيا وتركيا وإيران، في تسوية الصراع السوري دون إشراك الأوروبيين، أو أي قوة غربية.

قصور رد الفعل

وفي حين كان يوجد توافق واسع داخل الاتحاد الأوروبي على أنَّه من الصواب عدم الانخراط بصورة مباشرة في ليبيا أو سوريا، سمح هذا لروسيا وتركيا باتخاذ إجراءات تَحمَّل الاتحاد الأوروبي في النهاية عواقبها.

ويدفع الاتحاد الأوروبي أيضاً ثمن تراجعه عن وعوده بضم تركيا إلى الاتحاد، وهي التي بات واضحاً أنَّها تُمثِّل الآن منافساً وليس شريكاً في هذا المسرح الاستراتيجي.

مع ذلك، فإنَّ المشكلة الأكبر التي تلوح في الأفق هنا هي إظهار أوروبا لقصورٍ في رد الفعل في الأزمات التي تقع في الجوار، وهو ما يتناقض مع حزم القوى الإقليمية الأخرى. وتظل الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي قصيرة النظر ومُركِّزة على الداخل.

وفي ليبيا، كان أحد محاور هذه الفكرة هو أنَّ أوروبا، على العكس من روسيا وتركيا والإمارات، حتى الآن غير مستعدة لنشر جنود على الأرض، وتُهمِّش نفسها في مقابل الفاعلين الإقليميين الآخرين المستعدين لذلك.

وتجعل الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي أيضاً أوروبا شريكاً أقل حسماً بكثير وأكثر تناقضاً.

وكما هو الحال في سوريا، بدا النفوذ الأوروبي هامشياً على نحوٍ متزايد ونحى باتجاه الاحتواء السطحي للصراع. وأصبحت ليبيا وسوريا مثالين على الوهن الأوروبي.

ماذا الآن إذاً؟ تجاوز الزمن عملية برلين، وأظهرت العملية أنَّ اتخاذ نهج استرضائي تجاه حفتر لا يؤدي إلى نتائج. ويتفق معظم المحللين العسكريين على أنَّ أياً من الطرفين لن يكون قادراً على الانتصار في الحرب بالوسائل العسكرية؛ لأنَّ الضغط ليس كبيراً بما يكفي لدفع الطرفين إلى تسوية حقيقية، لذا يستمر القتال بلا هوادة.

وحين ينجح، إذا نجح، الفصل الليبي الجديد من عملية أستانا في دفع الوكلاء للاتفاق على وقفٍ حقيقي لإطلاق النار، فيمكن بسهولة أن تتحول خطوط التماس إلى صراعٍ دائم مُجمَّد إذا تُرِك أمر مراقبة وقف إطلاق النار لروسيا وتركيا.

انحياز متأصل

تعالت مؤخراً أصوات في أوروبا –بما في ذلك من منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، وحتى من وزيرة الدفاع الألمانية أنغريت كرامب كارينباوربشأن احتمالية النظر في نشر بعثة من الاتحاد الأوروبي إلى ليبيا لمراقبة وقف إطلاق النار في حال تحققه.

لكن في كثير من الأحيان يبدو أنَّ جذور تلك الدعوات تعود إلى الرغبة في تعزيز الوضع الجيوستراتيجي الأوروبي وليس إلى تقييمٍ متعمّق لما تحتاجه أو تريده ليبيا. ومثلما أشار المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا، غسان سلامة، ليس لدى الليبيين رغبة في مزيدٍ من الوجود العسكري الأجنبي.

أطلق المجلس الأوروبي في مارس/آذار الماضي مهمة عملية إيرينيللمساعدة في تطبيق حظر الأسلحة (الذي يجري تجاهله إلى حدٍّ كبير) المفروض على ليبيا.

فُسِّرَت المهمة على نطاقٍ واسع باعتبارها تمثل الحد الأدنى من القواسم المشتركة بين الدول الأعضاء بالاتحاد، بدل أن تكون أداة فعالة لمراقبة حظر الأسلحة؛ لأنَّها تراقب فقط الشحنات التي تصل عبر البحر والجو، ولكن ليس عن طريق البر، حيث تستمر الكثير من الأسلحة في الوصول.

علاوة على ذلك، اتُّهِمَت المهمة على نطاقٍ واسع بأنَّها منحازة انحيازاً متأصلاً؛ لأنَّ تركيا تشحن إمداداتها بالأساس عن طريق البحر، في حين لا يفعل داعمو حفتر ذلك.

وبناءً على الكيفية التي يتطور بها الصراع في الأشهر المقبلة، قد تبحث أوروبا جدياً تجريب شيء جديد ونشر جنود على الأرض في ليبيا، إذا ما طلبت السلطات الليبية ذلك. وإن كان التحول إلى فاعل جيوسياسي أكثرسيُمكِّن أوروبا من إرساء الاستقرار في جوارها على نحوٍ مستدام، فقد تكون ليبيا مكاناً جيداً للبدء بذلك.

لكن لا تخطئوا تفسير ذلك: لا يجب أن تسيء أوروبا استغلال ليبيا لتكون ساحة لنضوجها الجيوسياسي.

***

كرستينا كاوش ـ زميلة مقيمة أولى بمركز جيرمان مارشال فاند في بروكسل

___________

هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني

مواد ذات علاقة