يبدو أن الخلافات بين فرنسا وحلف الناتو بشأن ليبيا مرشحة للتفاقم، في وقت تسعى فيه باريس لتوريط أوروبا في موقفها من الأزمة الليبية، بصرف النظر عن المصالح الحقيقية لدول القارة.

.الجزء الثاني

يبدو أن هذه الأزمة سوف تنتقل إلى حلف الناتو. إذ قالت الرئاسة الفرنسية إن باريس دعت لمشاورات مع شركائها في حلف شمال الأطلسي، لبحث الدور التركي في ليبيا.

وتأتي هذه التصريحات في وقت تُجري فيه تركيا محادثاتٍ مع حكومة الوفاق، بشأن احتمال استخدام قاعدتي الوطية الجوية غربي البلاد، ومصراتة البحرية شرق طرابلس، وفق ما نقلت وكالة رويترز عن مصدر تركي.

كما تأتي في وقت قال فيه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، اليوم خلال مؤتمر صحفي مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف، إن بلاده وتركيا على تواصُل لدفع الأطراف الليبية إلى التفاوض.

ماذا فعلت باريس عندما حطَّم حفتر مؤتمر برلين؟

تجدر الإشارة إلى أن هذا الموقف الفرنسي التصعيدي لم يظهر على الإطلاق عندما حطم حفتر عملية السلام، بهجومه على طرابلس قبل أكثر من عام، بينما كان الأمين العام يزور المدينة لوضع اللمسات الأخيرة على مسار التسوية السلمية برعاية أممية.

كما لم نرَ انتقاداً فرنسياً عندما انتهك حفتر اتفاقَ وقف إطلاق النار ومؤتمرُ برلين لم تنفضّ جلساتُه بعدُ.

وقبل ذلك، عندما زار حفتر حاملة طائرات روسية لم نرَ باريس تتحدث عن أن حفتر يتحالف مع العدو التقليدي لأوروبا، ولم تصرخ فرنسا اعتراضاً على طفو الحاملة الروسية أمام سواحل ليبيا مثلما فعلت مع الفرقاطات التركية.

 ما يتجاهله الرئيس الفرنسي ماكرون أن تركيا من آخر المتورطين في ليبيا، وأن تدخلها الواسع النطاق جاء بعد سنوات طويلة من تسامح دولي مريب، ولكنه موثّق أممياً، مع انتهاكات الجنرال الليبي خليفة حفتر لجملة قرارات أممية وتفاهمات دولية لتسوية الأزمة الليبية، ووقف إطلاق نار.

وإذا كانت باريس وحلفاؤها يحاولون جعل مدينة سرت خطاً أحمر، وهي مجرد مدينة ليبية مهما كانت أهميتها، فلماذا لم تكن طرابلس بالنسبة لهم خطاً أحمر، وهي العاصمة التي يسكنها نحو ثلث سكان ليبيا.

إن ما يتجاهله الرئيس ماكرون أن تدخل تركيا الواسع النطاق هو نتيجة مباشرة لفشل مؤتمر برلين، الذي عُقد في يناير/كانون الثاني الماضي.

وإن المبادرة الألمانية في المؤتمر لم تفعل الكثير لردع التعبئة الهائلة للإمارات لدعم حفتر، حسبما يقول تقرير للمجلس الأوروبي للشؤون الخارجية.

ويبدو أن تدخل تركيا في ليبيا يتبع كتاب اللعب الروسي في سوريا، عبر الاستناد لدعوة رسمية من حكومة معترف بها دولياً (في تناقض صارخ مع التدخل السري لجميع الدول الأخرى المشاركة في الحرب)، إلى استغلالها للانقسامات بين الدول الأوروبية كلما شعرت بالتهديد من قِبلها، حسبما يقول التقرير الأوروبي.

الأهم أن الولايات المتحدة قائدة الكتلة الغربية العازفة عن المشاركة في الأزمة الليبيةترى في التدخل التركي موازنة للدور الروسي، الذي يسعى على ما يبدو لوراثة الدور المصري والإماراتي والفرنسي في ليبيا.

فخروج تركيا من ليبيا لن يفضي إلى الاستقرار أو تعزيز النفوذ المصري أو الإماراتي، أو حتى الفرنسي؛ بل سينتهي في الأغلب بأن تتحول ليبيا إلى مستعمرة روسية جديدة، على غرار سوريا، ولكنها ستكون أقرب للعتبة الجنوبية لأوروبا.

السؤال الذي يجب أن يوجه إلى الرئيس الفرنسي الذي علّمت بلاده العالمَ المنطق والعدالة هو: أين المنطق والعدالة في العملية البحرية الأوروبية إيريني، التي تهدف إلى تطبيق الحظر الأممي على الأسلحة على ليبيا، رغم أن الاتحاد الأوروبي لم يحصل على تفويض أممي بذلك.

والأهم أن منظّمي العملية يعترفون بأن هدفها هو منع نقل السلاح عبر البحر، ولكنهم  يقرّون بأنهم لا يستطيعون منع تهريب السلاح عبر الحدود المصرية الليبية لحفتر.

إذ أن جوزيف بوريل، مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، كان واضحاً إذ سبق أن أجاب عن هذا التساؤل، بأنه لا يمكن نشر قوات على الحدود المصرية الليبية؛ فهما دولتان ذواتا سيادة.

أليس من العدالة أن يُمنع السلاح عن الطرفين أو يُترك للطرفين أو يتم تغيير اسم العملية إلى عملية حظر توريد السلاح إلى حكومة الوفاق المعترف بها دولياً.

ولذا لم يكن غريباً قرار مالطة المفاجئ باستخدام حق النقض (الفيتو) في الاعتراض على تخصيص أموال الاتحاد الأوروبي للعملية، وأن ترفض القيادة الإيطالية للعملية إيريني اعتراض سفن تحمل السلاح إلى ليبيا، لأنها محمية بقطع بحرية تركية.

تجدر الإشارة إلى أن فرنسا خضعت مراراً وتكراراً لتدقيق دولي، بسبب دورها في الحرب الأهلية في ليبيا، حيث انتهكت الحظر المفروض على الأسلحة من قِبل الأمم المتحدة في عدة مناسبات

وفي يوليو/تموز 2019، خلص تحقيق في البنتاغون إلى أن باريس زوَّدت قوات حفتر بصواريخ أمريكية مضادة للدبابات. تبلغ قيمة كل صاروخ 170 ألف دولار، ولا تبيعه الولايات المتحدة إلا لحلفاء مقربينمثل فرنسا.

 ووفقاً لصحيفة لوموند الفرنسية، فقد بذلت باريس قصارى جهدها لضمان تسليح حفتر بالكامل، حتى إنها نشرت قوات خاصة فرنسية لتدريب ميليشياته.

وأدت هذه السياسة بباريس إلى استعداء شريكتها في الناتو وجارتها الجنوبية إيطاليا، حيث اتهم ماتيو سالفيني نائب رئيس الوزراء الفرنسي، العام الماضي، فرنسا بدعم حفتر وعدم اهتمامها باستقرار الوضع.

يقول تقرير المجلس الأوروبي للشؤون الأوروبية، إنه بالنسبة لفرنسا واليونان (الأخيرة انضمت فقط إلى معسكر حفتر في الأشهر الأخيرة) فقد حان الوقت للاعتراف بأن مصالحهما لن تُخدم من خلال مواصلة طريقهما الحالي.

ويضيف التقرير يجب على الدول الأوروبية الأخرى وخاصة ألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدةالضغط على فرنسا واليونان للهرب من سفينة غرق حفتر، ويمكن أن يسمح ذلك للأوروبيين بالعمل بقوة أكبر من خلال الأمم المتحدة، لإنشاء مجموعة من الصفقات المحلية، بناءً على المبادرات الليبية الأخيرة التي تجمع المجتمعات المتحاربة في غرب ليبيا لاستئناف حوار جنيف بين الفصائل السياسية الليبية.

وتحاول وسائل إعلام محسوبة على مصر والسعودية والإمارات التركيز على التنافس التركي الفرنسي، وتقديم باريس كممثل لأوروبا، لأن خسارة فرنسا هي خسارة لأوروبا، وهي نفس المقولة التي تروجها باريس.

المشكلة أن محاولة فرنسا فرض هذه الرؤية على حلف الناتو أيضاً تبدو أمراً مخالفاً لفلسفة الحلف نفسه.

فهل تطلب باريس من الحلف أن يتخلى أو يعاقب دولة عضوة، ولديها ثاني أكبر جيش بالحلف، وأن يقف في المعسكر ذاته الذي توجد به روسيا، التي أُنشئ الحلف من أجل مواجهتها، وللتصدي لغزو محتمل من قِبلها لأوروبا.

وسبق أن قال نائب رئيس الوزراء الإيطالي عن هذه المطالبات الفرنسية إن باريس تخالف موقف الناتو بشأن ليبيا؛ لأن مصالحها النفطية تتعارض مع مصالح إيطاليا.

ماذا ستقول أمريكا لفرنسا؟

يأتي هذا الموقف الفرنسي في وقت أصبح القلق من النفوذ الروسي أحد الشواغل الرئيسية للسياسة الأمريكية، متزامناً مع رغبة أمريكية في عدم التورط في النزاعات، الأمر الذي يجعل التدخل التركي في ليبيا هو وسيلة قليلة التكلفة بالنسبة لواشنطن لموازنة الدور الروسي في ليبيا.

هذا الوضع جعل موقف الإدارة الأمريكية أقرب لتركيا من فرنسا، كما بدا من الاتصالات بين أردوغان وترامب.

إذ قالت الرئاسة التركية إن أردوغان وترامب اتفقا على مواصلة التعاون لتحقيق السلام في ليبيا، ونُقل عن أردوغان أنه أبلغ ترامب بأن تركيا هي الداعمة للجهة الشرعية في ليبيا، التي تعترف بها الأمم المتحدة، كما نُقل عنه قوله إن أنقرة مستمرة في دعم الشرعية دون النظر إلى مَن يقف وراء حفتر.

وقال الرئيس أردوغان إن ترامب أكد له خلال الاتصال أن تركيا حققت نجاحات في ليبيا.

وقال موقع إنسايد أوفرالإخباري الإيطالي إن هناك بوادر لاتفاقات بشأن ليبيا، بدأت تلوح في الأفق بين الرئيسين.

وأضاف أن تلك الاتفاقيات التي لم ترشح بشأنها تفاصيل من الرئيسين التركي والأمريكيتوحي بأنه ما زال بإمكان الولايات المتحدة أن تلعب دوراً إيجابياً في القضايا الدولية، رغم أن صورتها ساءت بسبب تدخلها في شؤون منطقة الشرق الأوسط طوال العقود الأخيرة.

وكانت تركيا قد طالبت الولايات المتحدة بتعزيز دورها في الأزمة الليبية.

ويرى الموقع أنه لهذا السبب فإن تدخل ترامب في ليبيا مرحب به في الوقت الحالي من وجهة نظر أمريكية، لأن حفتر يمثل تهديداً للمصالح الأمريكية.

_____________

مواد ذات علاقة