هنا المحاكاة التي قد تبدو للكثير من الناس محاكاة خيالية لقصص تراجيدية, ولكن الحقيقة واضحة على كل جدران وأسوار طرابلس من خلال مشاهدات و شهادات حية لقاطنيها الذين غادروها مكرهين و عادوا إليها محبطين.

هكذا يبدو المشهد هنا في أحياء جنوب طرابلس التي أنهكتها الحرب التي شنها المارشال خليفة حفتر في أبريل 2019, حيث وضعت هذه الحرب علامات حادة و بارزة على كل بيت من بيوتها وكل زاوية من زوايا هذه البيوت.

هنا المحاكاة التي قد تبدو للكثير من الناس محاكاة خيالية لقصص تراجيدية, ولكن الحقيقة واضحة على كل جدران وأسوار طرابلس من خلال مشاهدات و شهادات حية لقاطنيها الذين غادروها مكرهين و عادوا إليها محبطين.

كل الأبواب مقفلة

من مكان نزوحها الحالي والذي لا يزال مستمراً منذ غرة أبريل 2019. لم تتردد رتاج العيساوي -20 سنة في مشاركة قصة عائلتها التي تعيش أحلك الظروف الإنسانية بسبب الحرب.
هنا رتاج لم تجد ضالتها بين حوائط محترقة وزوايا بيتهم المسروق الذي لم يتبقى منه إلا قطع أثاث صغيرة حوّلتها ألسنة النيران والتخريب المتعمد إلى رماد و فتات. هنا لم تتصور رتاج وأسرتها أن يصل حجم الضرر الواقع على المنزل الذي لطالما اشتاقوا للعودة إليه إلى هذا الحد.

تقول رتاج أنها و عائلتها غادروا منزلهم منذ أكثر من عام في الأيام الأولى للحرب عندما اشتدت المعارك على تخوم المدينة في منطقة وادي الربيع تحديداً, حيث اضطرت العائلة المكونة من أب وأم وأخت كبرى وأخ بالإضافة إلى أخ مفقود منذ أكثر من عامين للنزوح, دون أخذ اي مقتنيات أو أوراق من المنزل تاركين خلفهم كل ما يملكون.

تواصل رتاج حديثها عن مأساتهم التي تفاقمت بسبب حالة الشتات التي عاشوها طيلة فترة النزوح فبعد توقف المعارك وبدء العودة التدريجية للنازحين تلقت أسرة رتاج الخبر الصادم بالنسبة لهم, حينها كانت الأخبار تفيد بأن منزلهم تحول إلى ركام بعد احتراقه وسرقته. الخبر الذي كان بالنسبة لوالدة رتاج الفاجعة الكبرى التي ألمتها وسببت في تدهور وضعها الصحي مما أدى إلى تعرضها لجلطة بالإضافة لمعناتها الأساسية من مشاكل صحية أخرى كالفشل الكلوي ومشاكل ضغط الدم, ما جعل من عائلة رتاج لا تفكر سوى في علاج والدتهم كأولوية بالنسبة لهم, أما منزلهم المتهالك فهو خارج حسابات العائلة لعدم قدرتهم المادية على إعادة صيانته ولو بشكل بسيط.

احنى نفكروا كيف نلقطوا مبالغ العلاج لأمي حتى الحوش ما فكرناش فيه

بالإضافة لمأساة فقدان منزلهم وشتات أسرتهم لمدة عام فهم اليوم يعيشون داخل قبو ( ريفودجو ) تحت الأرض تم تحويره الى منزل في منطقة بئر الاسطى ميلاد بإيجار مرتفع نسبياً مقارنة بوضعهم المادي, كما المكان يفتقر للتهوية الجيدة و المقومات المعيشية الأساسية ومع ذلك فإن العائلة تفكر جدياً في الانتقال لمنزل أخر لربما يكون أقل تكلفة و أكثر بُعداً عن وسط المدينة.

كغيرها من النازحين الذين لم يتمكنوا من العودة بسبب دمار بيوتهم, كل الأبواب مقفلة في وجه عائلة رتاج, رغم محاولاتهم في التواصل مع بلديتهم أو الحصول على فرص تعويض و لو مستقبلية – ولكن تروي آسفة: لم نجد حلولاً لترميم المنزل أو تعويضات مادية للرجوع أو إعادة صيانته أو حتى توثيق لوضعنا الحالي, حيث أن المنطقة أصبحت غير مؤهلة للسكن مجدداً فالبنية التحتية من كهرباء وطرق مدمرة بشكل كامل كما أن مخلفات الاسلحة والبيوت منتشرة كل مكان. 

دخل عامر رفقة جيرانه لتفقد منزله في منطقة الخلة جنوب طرابلس لأول مرة بعد مرور حوالي سنة من النزوح ، كل شيء ثمين قد سرق من المنزل وأيضاً بعض الاشياء الأخرى كـ صنابير المياه و أسلاك الكهرباء الداخلية، حتى تلك المقتنيات التي لم تنهب نالت منها النيران بشكل كامل. في إحدى الغرف يتفقد عامر أي شيء سليم متبقي في منزله، حتى النافذة أمامه قال “أنها أيضا لا تصلح ولايمكن صيانتها”. تجول في بيته الذي كان أحد نقاط التمركز على خط الجبهة الأمامية لأشهر،  وهو يحاول حساب التكلفة التي تكبدها ثمناً للحرب.
خرج للشارع وهو يلتفت وينظر للمنازل الأخرى في الحي  والمتضررة بشكل أكبر من بيته لمواساة نفسه، ويقول أن حاله أفضل من بعض الناس التي لم تجد من منزلها إلا الحطام.

سيمفونية الحروب المتكررة

ما بين وطأة الحروب السابقة و كارثية الحرب الأخيرة يقع المدنيون ضحية كل هذا. هنا يصور المهندس المعماري – محمد بشين مشاهدته من خلال رحلة نزوحه من منطقته ( مشروع الهضبة) والتي اعتبرها منطقة ضمت العديد من مقرات وثكنات التشكيلات المسلحة الموجودة في العاصمة مما جعلها منطقة غير مستقرة على مدار التسع سنوات الماضية. 

يقول بشين أن منطقتهم تعتبر آخر المناطق التي اضطرت للنزوح عند مطلع يناير 2020, حيث كان وقع النزوح على قاطني هذه المنطقة كغيرهم من النازحين في المناطق الأخرى, فهناك أشخاص كانت لديهم خيارات وبدائل آخرى وهناك أشخاص يعتبرون أكثر إستضعافاً من غيرهم فيضطرون للبقاء في المدارس أو أماكن عامة (مراكز النازحين), أما عن عائلته فكان لديهم خيار البقاء في بيت العائلة الكبير (بيت الجد) مع امكانية تفقد منزلهم متى أتيحت لهم الفرصة رغم المخاطر المحفوفة بالمنطقة كونها منطقة عسكرية و مقفلة.

بخيبة أمل يخبرنا محمد أنهم كانو يتوقعون أن يجدوا المنزل على حالته الأولى منذ أخر مرة تفقدوه فيها في شهر رمضان الماضي, مع وجود بعض الأضرار البسيطة و السرقات, و لكن المفاجأة كانت عندما وجدوا أكثر من نصف منزلهم محترقاً مع فقدان كل محتوياته تقريباً خاصة بعد تعرضه لمقذوف ساهم في سقوط السقف وبعض من حوائط البيت.

 أما الصدمة الأكبر حسب وصفه كانت فقدان البحوث و الأعمال لوالده “د.عبد الله بشين” البروفيسور في مجال الكيمياء الحيوية , بالإضافة لفقدان العديد من الأوراق الثبوتية والشهائد و الذكريات التي تخص العائلة.

أما بالنسبة لخطتهم بعد توقف الحرب و تمكنهم من العودة, يقول محمد أنهم بصدد التوثيق القانوني بفتح محضر يتم من خلاله توثيق كل الأضرار الواقعة بالمنزل ونوعها, ثم الشروع في تقييم الضرر و أعمال التنظيف والصيانة رغم أنها ستكلف مبلغاً ضخماً حسب تعبيره, إلا أن أسرة محمد تقبلت الأمر الواقع وبدأت بالتعامل معه بشكل مباشر وعملي دون انتظار أي مساعدات من الحكومة.

كما يضيف أن المسؤولية الأخلاقية بجانب المسؤولية القانونية مهمة جداً في هذه الظروف, فالمسؤولية الأخلاقية تقع على المعتدي وهذا لا شك فيه ولكن في المقابل لابد للجميع بأن يساهم في إعادة بناء هذه الأضرار ومحاولة التعاون جميعاً لتضميد هذا الجرح.

لا إجابات واضحة 

في مقابلة مع د.محمد الفاضل جبران رئيس اللجنة العليا لعودة النازحين والمهجرين التي تم تشكيلها بناءً على القرار 523 لسنة 2017 عن المجلس الرئاسي.

يقول د. محمد أن اللجنة ساهمت بفتح مسارات وأماكن لإستقبال النازحين بالتنسيق مع البلديات. كما تعمل اللجنة على التنسيق مع وزارة الداخلية و مديرية آمن طرابلس ومركز دراسات الشؤون الاجتماعية بإعداد نموذج أو إستبيان من أجل حصر عدد العائلات المتضررة و الراغبة في العودة لبيوتها.

كما أكد لنا د.محمد بأن جميع البلديات تعاونت مع اللجنة في تسجيل العائلات ضمن منظومة هيئة التضامن الاجتماعي والتي بلغ عدد النازحين المسجلين فيها حتى تاريخ إجراء هذا الحوار قرابة 56 ألف نازح. أما عملية الرجوع لازالت معلقة نسبياً في بعض المناطق بسبب الألغام و عدم ضمان آمن وسلامة العائلات النازحة.

و لتوثيق الأضرار قال د. محمد أن كل بلدية لها منظومة تقوم من خلالها بتسجيل البيوت المتضررة بعد جلب إيفادة من مختار المحلة للمنطقة التي يقطن فيها النازح تفيد بأنه متضرر من الحرب و ملئ كافة بياناته المطلوبة ضمن النموذج المستخدم حيث سيجعل من النازح مسجل رسمياً لدى المنظومة.

كما أضاف د.محمد أن اللجنة قامت بتقديم مقترح للمجلس الرئاسي من أجل منح النازحين مساعدة مالية لمجابهة غلاء الاسعار و الايجارات تقدر ما بين 1000- 1500 دينار. ولكن لم يتم الشروع في تنفيذ هذا المقترح وصرف المساعدات بسبب ما وصفه د. محمد بالماراثون من أجل تنفيذ المقترح من قبل لجنة الطوارئ, حيث تم تقديم المقترح في شهر يونيو 2019 و إحالته من قبل المجلس الرئاسي إلى لجنة الطوارئ التي استقر بها الحال في نهاية المطاف على أن تولي مهمة تنفيذ المقترح لصندوق التضامن الاجتماعي دون وجود أي تأكيدات تفيد بتقديم اي مساعدات للنازحين.

أما عن سؤالنا ما اذا كانت الدولة ستقوم بالتعويض المباشر للمتضررين من الحرب قال د.محمد بأن اللجنة قامت بتقديم مقترح لرئيس المجلس الرئاسي “فائز السراج” من أجل إنشاء “صندوق جبر الضرر” الذي وصفه بأنه صندوق من أجل مساعدة المتضررين من كل النزاعات المسلحة منذ عام2011 و تعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم ولو بشكل جزئي. حيث تم التصديق على هذه المذكرة من قبل رئيس المجلس الرئاسي و إقرار هذا الصندوق ضمن مقترح الميزانية العامة, ولكن لم يتم تشكيل الجسم التنفيذي لتسيير عمل الصندوق ما يجعل من هذا المقترح غير مفعل بشكل رسمي.

بالرغم من كل الاجابات التي تحصلنا عليها من رئيس اللجنة العليا لعودة النازحين إلا أننا لم نجد من خلال كل القرارت غير المفعلة و المقترحات المُعلقة واللجان المُشكلة! الإجابة الواضحة التي تؤكد متى أو كيف سيتم تعويض المتضررين من الحرب. ليبقى هذا الملف مفتوحاً مع الاف المتضررين غير القادرين على العودة بسبب وضع منازلهم المدمرة أو شبه المدمرة بسبب الحرب.

____________

مواد ذات علاقة