بقلم لواء ركن يوسف المنقوش

تمر ليبيا اليوم بالعديد من التحديات علي رأسها التحدي الأمني فالوضع الأمني الخطير المتمثل في محاولات السيطرة علي الحكم بالقوة وفرض دكتاتورية عسكرية جديدة.

بالإضافة إلي الانقسام الحاد في الأجهزة العسكرية والأمنية والتدخل الأجنبي المتمثل في وجود المرتزقة الأجانب والتدخلات الخارجية غير القانونية من دول تدعم التمرد وتحاول فرض أجندتها ومصالحها على البلاد وعدم قدرة الأجهزة العسكرية والأمنية الرسمية على حماية الدولة وتأمين الأمن والأمان للمواطنين والمجتمع وانتشار الكتائب المسلحة سواء كانت كتائب لثوار 17 فبراير أو كتائب أخرى تمثل تيارات دينية متشددة وجهوية وانتشار العصابات الخارجة عن القانون.

كل هذا يستدعي أن تكون هناك رؤية وإرادة حقيقية لتنظيم هذا القطاع المهم ولذي لا يمكن للدولة أن تقوم وتستقر وتنفذ مشاريع التنمية بدونه.

أولا: واقع المؤسسة العسكرية الليبية اليوم

لمعرفة حقيقة الوضع في المؤسسة العسكرية الليبية اليوم وحجم التحديات التي تنتظر القائمين عليها في طريق التأسيس  والتفعيل والإصلاح والتطوير لهذه المؤسسة لابد من معرفة الخلفيات والمراحل التي مرت بها هذه المؤسسة حتى يتسنى وضع أفضل الخطط والبرامج للنهوض بها.

التأسيس الأول:

تم تأسيس الجيش الليبي الحالي علي يد الأباء المؤسسين عام 1940م خلال الحرب العالمية الثانية وشارك قوات الحلفاء في معارك الحرب ضد قوات المحور (إيطاليا وألمانيا) في شمال أفريقيا إلى أن تم إخراج هذه القوات من الأراضي الليبية في يناير 1943م حيث خرجت إيطاليا من ليبيا ودخلت البلاد تحت الإدارة البريطانية وقد تم حل هذا الجيش وسرح أفراده بعد الحرب وبقيت مجموعه صغيرة منه تعمل كقوة شرطة.

التأسيس الثاني:

في ديسمبر 1951م حصلت ليبيا على استقلالها عن طريق الأمم المتحدة واتخذ قرار إعادة بناء الجيش الليبي في سنة 1952م وبالرغم من أن الدولة في ذلك الوقت لم تكن تملك أي مقومات بشرية ومادية إلا أنه تم الشروع في تأسيس هذا الجيش على أسس وعقيدة سليمة وكان جيشا صغيرا في الحجم وتنقصه الإمكانيات والأسلحة الحديثة إلا أنه كان على درجة عالية من التنظيم والانضباط والتدريب وقد بلغ حجم الجيش في عام 1969م وهو العام الذي قام فيه القذافي بالانقلاب على الدولة بلغ حجم هذا الجيش عشرة آلاف منهم ستمائة وخمسون ضابطا.

مرت عملية بناء الجيش الليبي بمحطات مهمه حيث تم في سنه 1953م إنشاء مدرسة عسكرية في الزاوية تخرج منها مجموعه من الضباط عملوا كقيادات للجيش وـرسلت مجموعة أخرى للخارج لكي يتم تأهيلهم كضباط وفي سنة 1957م تم إنشاء الكلية العسكرية حيث تخرجت الدفعة الأولى منها عام 1958م وفي سنة 1962م أسست القوة البحرية وفي عام 1963م أسس سلاح الطيران وقد استمر هذا الجيش الصغير في النمو والتطور على أسس مهنية صحيحة وعلى عقيدة واضحة وسليمة.

الجيش الليبي في عهد النظام السابق:

استعمل الانقلابين هذا الجيش المنضبط في تنفيذ انقلابهم ولم تمض فترة طويلة حتى سيطر القذافي علي كل مقاليد الأمور وفي بداية سعي النظام إلى تكبير حجم الجيش والتعاقد على كميات كبيرة من الأسلحة والمعدات والتي كانت تفوق قدرات الجيش ونتيجة لحدوث بعض محاولات الانقلاب على القذافي أصبح يتملكه يقين بضرورة أن لا يكون في ليبيا مؤسسة عسكرية قوية ومنضبطة وعقيدتها سليمة وولائها للوطن لأنها ستكون قادرة على تغيير نظام حكمه إذا ما انحرف في الحكم.

مرت المؤسسة العسكرية بتحولات رئيسية لعل من أهمها محاولات الانقلاب في سنة 1975م ثم حرب تشاد في الثمانينات من القرن الماضي ووصولا إلى بدء تكوين الكتائب الأمنية الخاصة وتهميش باقي قطاعات الجيش في مطلع التسعينيات.

هذه الوحدات الأمنية الخاصة التي تم تدريبها وتسليحها بشكل جيد ولاقت اهتماما ودعما خاصا وكانت قياداتها من الدائرة المقربة جدا والموالية لرأس النظام وأغلب منتسبيها يتم اختيارهم من مجموعات سكانية معينة لديهم موالاة كبيره للنظام وكانت عقيدة هذه الوحدات هي الولاء للنظام وحمايته واعتبار كل من يعارضه بأي وسيلة حتى وإن كانت سلمية خائنا، هذه الوحدات قامت بالدور الأكبر في محوله قمع الثوار ومحاولة القضاء على الثورة وبعد انتصار الثورة تلاشت هذه الوحدات وانتهت.

باقي الوحدات العسكرية بخلاف الكتائب الأمنية كانت تعاني من التهميش والإهمال وتعاني خلل كبير في منظومة الرتب حيث أن أغلب ضباطها تخرجوا في الثمانينات أو قبلها وحرموا من الدورات والتطوير حيث بلغت نسبة الضباط ذوي الرتب العالية أكثر من 75% بينما تعاني ندرة في الضباط الأصاغر والذين هم من يقومون بالدور الأكبر في أعمال التدريب ورفع الكفاءة للمؤسسة العسكرية كما عانت هذه المؤسسة من إهمال كبير في البنية التحتية وتلاشت برامج التدريب ورفع الكفاءة والتمارين التعبوية وتمارين الرماية الحية وكل ما يمت بصلة لجعل هذه المؤسسة قادرة على القيام بمهامها تجاه الوطن.

المؤسسة العسكرية بعد ثورة 17 فبراير:

عند قيام الثورة في 17 فبراير كان هذا حال المؤسسة العسكرية حيث بلغ عدد الضباط أكثر من 18 ألف ضابط أكثر من 75% منهم من رتبة مقدم فما فوق بالإضافة إلى أكثر من 90 ألف ضابط صف وجندي أغلبهم من ضباط الصف من رتبة عريف فما فوق باستثناء الوحدات الأمنية الخاصة التي لم تعاني من خلل في منظومة الرتب حيث أغلب ضباطها ومنتسبيها من الرتب الصغيرة ومن الأعمار الشابة.

نتيجة لمعركة التحرير إبان الثورة انهارت المنظومة العسكرية للنظام التي كانت تعتمد على الوحدات الأمنية الخاصة أما بقية وحدات الجيش فقد كانت مشتتة والعديد من أفرادها اللذين حملوا فكر الثورة وكان لديهم نشاط واستعداد للعمل القتالي الميداني أو القيادي أو الدعم اللوجستي ضد النظام السابق فقد عملوا فرادى مع التشكيلات المسلحة التي تشكلت من الثوار المدنيين.

بعد انتصار الثورة سيطرت كتائب الثوار على المقرات والأسلحة والذخائر بشكل عام وخاصة فيما يتعلق بالقوات البرية وانهارت تقريبا منظومة الأمن الداخلي والخارجي وحل محلها عمل أمني غير منظم قامت به بعض المجموعات من الثوار.

والنتيجة تكونت منظومة من مئات الكتائب والمجموعات المسلحة بدون سلسلة قيادة واضحة وتحكمها رؤى غير واضحة وإن كان الطابع العام هو الحفاظ على مسيرة الثورة وتحقيق أهدافها.

ثانيا: أهم العوامل التي جعلت من مهمه إعادة بناء المؤسسة العسكرية مهمه صعبة

أ – العوامل الخاصة بالمؤسسة العسكرية

لقد واجهة المؤسسة العسكرية صعوبات في إعادة بناء نفسها بسبب الإجراءات التي اتخذها النظام السابق في سبيل تحطيم الجيش وكذلك تدني نظرة القيادة وتدني مستوى الضبط والربط والتضخم في الرتب وسلبية العدد الكبير من المنتسبين وارتفاع مستوى الأعمار للعسكريين والبنية التحتية المتهالكة بالإضافة إلى انعدام التدريب والتأهيل والجم الضخم للمؤسسة العسكرية حيث بلغ إجمالي القطاع العسكري (205119) منتسبا حسب بيانات الرقم الوطني وفقا لتقرير ديوان المحاسبة لسنه 2015م منهم (18134) ضباط أكثر من 75% منهم ذوي الرتب العالية.

ب – العوامل المرتبطة بثورة 17 فبراير

من بين هذه العوامل أن المؤسسة حرمت من معظم عناصرها الشابة والمؤهلة لكون هذه العناصر كانت معظمها في الوحدات الأمنية الخاصة والتي كانت في الصف المعادي للثورة وبعد انتصار الثورة أصبحت هذه العناصر خارج المؤسسة العسكرية، وأغلب العسكرين اللذين انضموا للثورة عملوا غالبا فرادى مع التشكيلات المسلحة التي تشكلت من الثوار المدنيين.

بعد انتصار الثورة انهارت المؤسسة العسكرية بشكل كامل وكان أغلب المعدات من الدفاع الجوي والطائرات والسفن الحربية قد تم تدميرها أثناء الثورة.

جـ – العوامل السياسة والإدارية:

كان للتجاذبات السياسية التي حصلت على مستوي السلطة التشريعية دور الإعاقة الأكبر ذلك أن كل فريق في هذه السلطة كان يريد بناء جيش حسب مواصفاته يدين له بالولاء ويسير حسب رؤيته ولقد كان لتداخل  الاختصاصات بين وزارة الدفاع ورئاسة الأركان وحرس الحدود وكل تلك المكونات تأثير واضح في إعاقة بناء المؤسسة العسكرية بعد الثورة، بالإضافة إلى عدم توفر الإرادة السياسية لدى الحكومات المتعاقبة في بناء هذه المؤسسة.

وأخيرا فإن الانقسام السياسي وعملية الكرامة المشؤومة وما نتج منها من أعمال ومحاولة الهجوم على العاصمة ومحاولة عودة الحكم العسكري الدكتاتوري بدد كل الآمال في تفعيل وتكوين مؤسسة عسكرية موحدة عقيدتها صحيحة وقادرة على القيام بمهامها تجاه الوطن.

ثالثا: السياسات المثلى لبناء المؤسسة العسكرية في ليبيا

أ- لا يمكن أن تنجح عملية بناء مؤسسة عسكرية ليبية موحدة صحيحة في ظل الانقسام السياسي وفي ظل تعبئه عسكرية وفق رؤى متضاربة، ولكن يجب أن يكون هناك شعور مشترك بضرورة الإسراع بإنقاذ الوطن قبل فوات الأوان ولو بالعمل على بناء مؤسسة عسكرية صحيحة على جزء من الوطن أملا بالتحاق باقي الأجزاء.

ب- يجب أن تكون عملية بناء المؤسسة العسكرية ضمن رؤية شاملة تشمل المؤسسات العسكرية والأمنية بحيث يتم وضع نظرية شاملة للدفاع والأمن تصيغ مشروع يستجيب للواقع والتحديات والتهديدات القائمة ويؤسس على أسس فكرية وسياسية جديدة ركائزها دولة دستور واحترام حقوق الإنسان واحترام الجوار ويصف ويحدد بدقة مؤسسات الأمن والدفاع من حيث: مهامها \ حجمها \ خصائصها \ تبعيتها \ العلاقة بينها \ منظومة القيادة بها.

جـ – إصلاح النظام العام في المؤسسة العسكرية وتحقيق إصلاحات إدارية ومالية بما فيها إصلاح نظام التقاعد وتحسين ظروف الانتساب للمؤسسة العسكرية مع وضع معايير صارمة للانتساب إلى هذه المؤسسة وإعادة تنظيم التقاعد بهدف خلق توارن بين الرتب العسكرية والتركيز على تطوير الرتب الصغيرة من ملازم ثاني إلى نقيب وكذلك الجنود وضباط الصف.

د – التركيز على العقيدة العسكرية الصحيحة من خلال غرس مبادئ وضوابط تُحدد دور ووظيفة المؤسسة العسكرية في السلم والحرب وبما يحقق الأهداف والمصالح الوطنية وتأكيد الولاء لله ثم الوطن دون غيرهما.

هـ – التركيز على مقاربة الجيش الذكي والذي لا يعتمد على العدد بل على التقنية العالية والمعارف والمهارات المطلوبة لأداء الدور المنوط بالمؤسسة العسكرية.

ويجب أن تتصف المؤسسة العسكرية بالخصائص التالية:

  • أن تكون قوة وطنية موحدة وغير سياسية
  • أن تكون ذكية وعصرية ومزودة بتقنيات ملائمة
  • أن تتمتع بحجم وشكل مناسبين
  • أن تكون قادرة من ناحية تنفيذ العمليات
  • أن تكون لديها ترتيبات واضحة ومناسبه للسيطرة والقيادة
  • أن تكون ملتزمة بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني
  • أن تكون لديها أهداف واضحة بشان التعليم والتدريب والعقيدة العسكرية

و – يجب أن يكون حجم المؤسسة العسكرية ملائما لإنجاز المهام المطلوبة بما يرعى الآتي:

  • التهديدات والتحديات المختلفة
  • المساحة الجغرافية الشاسعة
  • عدد السكان المحدود
  • الموارد الاقتصادية للدولة
  • استخدام التقنية الحديثة
  • المستوي الثقافي للسكان

بناء على المعايير الدولية والدراسات السابقة فإن حجم المؤسسة العسكرية ينبغي أن يكون في حدود ستون ألف فرد آخذاً في الاعتبار النقاط المذكورة سابقا بالإضافة إلى مدى قابلية الشباب للانضمام للمؤسسة العسكرية في حالة الاستقرار وازدهار الأوضاع الاقتصادية مستقبلا.

***

لواء ركن يوسف المنقوش ـ رئيس الأركان العامة الأسبق في الجيش الليبي

______________

مواد ذات علاقة