إن اندلعت مواجهة “محدودة” مصرية تركية فلن تعدو أن تكون مدخلا لتمكين قبائل الشرق من لعب دور الحامي للنفوذ المصري في شرق ليبيا.

الجزء الثالث

الجزائر وتونس وخطاب القبائل

كان منطقيا أن يؤدي فقر الفكر السياسي لنخبة نظام السيسي الحاكمة إلى اللجوء مباشرة لخيار العسكرة والحشد القتالي للقبائل. أما الأوضاع في تونس والجزائر، والتي تشهد حراكا على مستوى عالمي الأفكار والسياسة، فكان الأمر مختلفا، حيث كان المنهج الاجتماعي السياسي غالبا على تصور تونس، في حين كان المنهج الجزائري منهجا سياسيا بالأساس.

  • فمن جهة تونس، بدأت تونس توجهها نحو الحل القبائلي في ليبيا في 23 ديسمبر/كانون الأول 2019، مع اجتماع الرئيس التونسي قيس سعيد بوفد من زعماء القبائل الليبية، وهو ما أفادت تونس أنه اجتماع أتى بعد تفويض للرئيس التونسي من المجلس الأعلى للدولة الليبي، “للتدخل العاجل لحقن الدماء ولم الشمل بين أبناء الوطن الواحد”.

وتجدد الحضور التونسي في الثلث الأخير من شهر فبراير /شباط 2020، بدعوة “سعيد” إلى مؤتمر لرؤساء القبائل الليبية، واعتبر أن التلاقي القبلي، والحوار، كفيلان بوضع أساس لمعالجة الأزمة الليبية على نحو ما حدث في أفغانستان، مرتئيا أن “جمع القبائل الليبية الذين يتمتعون بشرعية شعبية يمكن أن يمهد لشرعية انتخابية”.

وكان لافتا أن التصريح الأخير يحدث خلال زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثان، ما يشي باحتمال استغلال الزيارة لتبدو كما لو كان أمير قطر وراء هذه الدعوة.

وخلال زيارته لفرنسا في 22 يونيو /حزيران 2020، صرح الرئيس التونسي بأنه “يجب على الليبيين وضع دستور مؤقت، على غرار الدستور الذي جرى وضعه في أفغانستان سنة 2020″، ولفت إلى ضرورة الإسراع بهذا الترتيب، لأن “الشرعية الدولية في ليبيا هي شرعية مؤقتة”. وهو التصريح الذي بدا غريبا لدى أطراف ليبية وتونسية ما زالت ترى أن الموقف الرسمي التونسي يتمثل في الوقوف مع الشرعية الليبية. غير أن ما بدا محاولة لاستغلال زيارة أمير قطر لتونس انتهى بصدور هذا “المشروع” من باريس.

في رد فعل على “لقاء قرطاج” في ديسمبر/كانون الأول 2019، أعلن المجلس الأعلى للقبائل والمدن الليبية تبرؤه من هذا الاجتماع، ونشر الوزير الليبي السابق فوزي بن عبد الرحمن، نسخة من البيان الصادر عن المجلس الأعلى للقبائل والمدن الليبية، مع تأكيده بأن الوفد الذي التقى الرئيس التونسي لا يمثل المجلس، باستثناء عضوين من الغرب وعضو من الجنوب “غير مكلفين أو مخولين لتمثيل المجلس”. وبرغم هذا الموقف الاستهلالي، لم يصدر عن “مجلس القبائل” أي رد فعل تجاه تصريحات الرئيس التونسي من فرنسا.

الموقف في طرابلس أتى على النقيض. فبينما تحفظت حكومة الوفاق الوطني الليبية على زيارات وتصريحات قيس سعيد حتى نهاية فبراير، فإنها رفضت إعلانه المتأخر في يونيو /حزيران 2020، واعتبر رئيس المجلس الليبي الأعلى للدولة في طرابلس خالد المشري دعوة الرئيس التونسي غير مقبولة، وأكد: أن “القبيلة في ليبيا مظلة اجتماعية وليست طرفا سياسيا”، وأضاف: أنه “لا يمكن تطبيق تجربة أفغانستان في البلاد”، وصرح بأن “وفد القبائل الذي استقبله قيس سعيد سابقا لا يمثل القبائل الليبية”.

  • أما من جهة الجزائر، فإن جهود الجزائر تبدو سياسية تقليدية، تلعب فيها الدبلوماسية الدور الأكبر، مع وجود إرهاصات للعب دور عسكري كذلك. فمنذ وصول كل من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لمنصبه في 19 ديسمبر /كانون أول 2019، ووصول رئيس الأركان الجزائري السعيد شنقريحة لمنصبه بعده بأيام (في 23 من الشهر نفسه)، بدا الطرفان يسعيان لاستعادة الدور الإقليمي الجزائري، وبخاصة حيال الجوار الليبي المأزوم، والذي تتخوف مؤسسات الدولة في الجزائر من أن يؤدي النزاع فيها إلى المساس بأمن الجزائر التي تتصل مع ليبيا بحدود تبلغ نحو 1000 كيلومتر.

الأزمة الليبية دفعت الرئيس الجزائري لدعوة “المجلس الوطني للأمن” لبحث الأزمة الليبية في 27 من نفس الشهر، وكان هذا الانعقاد هو الأول منذ سنوات، ثم زيارة رئيس الأركان الجزائري “شنقريحة” للحدود في اليوم التالي للاجتماع.

ويرتبط بهذا الأمر كذلك سعي الجزائر لتعديل الدستور بما يسمح للجيش الجزائري بالمشاركة في عمليات خارج البلاد.

ومع استهلال 2020، بدأت الجزائر حضورها الدبلوماسي، بعد زيارة متزامنة لكل من رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السراج، ووزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو للعاصمة الجزائر، وما أعقب ذلك من زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للجزائر، وذلك قبيل انعقاد “مؤتمر برلين” الذي شاركت فيه الجزائر، عارضة استضافة حوار ليبي – ليبي.

وإثر “مؤتمر برلين”، شرع وزير الخارجية الجزائري صبري بوقادوم في لقاء الطرفين، العسكري “حفتر” في 7 فبراير /شباط 2020، ثم برئيس الحكومة المعترف بها من الأمم المتحدة فايز السراج في 21 من نفس الشهر، ليعلن الرئيس الجزائري إثر تلك اللقاءات أن بلاده كانت “قاب قوسين من مسار حل بليبيا” عبر مبادرة بتشكيل مجلس أعلى يجمع الفرقاء تنبثق عنه حكومة توافق لتبدأ العملية السياسية، قبل أن يضيف: أن جهود الجزائر لم تثمر بسبب اعتراض طرف إقليمي لم يسمه، وإن حملت عباراته خلال مقابلة مع وسائل إعلام محلية بثها التلفزيون الرسمي، إشارة إلى “القاهرة”، وبخاصة مع تلميحه بأن بلاده تتحرك في صمت ولا تبحث عن البروز أو الابتزاز أو طلب المقابل.

كانت الكويت – قبل أيام من هذه التصريحات – قد اتهمت القاهرة بالابتزاز، عندما طلبت الأخيرة مبالغ مالية مقابل إعادة المصريين العالقين هناك.

وفي خطاباته المتكررة عن معالجة الأزمة الليبية، حرص تبون على الإشارة إلى أن غالبية قبائل الجنوب الليبي ومصراتة والزنتان والطوارق قبلت وساطة الجزائر.

وبرغم أن الموقف الجزائري يبدو غير منحاز، وبرغم أنه يمكن استشفاف وقوف مصر ضد احتمال توصل الجزائر لمبادرة فعالة حيال الأزمة الليبية، وهو ما يعزز موقف الجزائر الوسيط في هذه الأزمة. وبرغم أن التبعية الجزائرية لفرنسا تشهد اهتزازا ملموسا اليوم بعد إقدام الجزائر على شكاية فرنسا بالأمم المتحدة بخصوص جرائم قتل وألغام لأول مرة منذ إعلان استقلال الجزائر، برغم كل ذلك فإن موقف الجزائر ما زال قيد التشكل، لأن انتصار تيار الأصالة التوافقي في ليبيا، والذي تمثله حكومة الوفاق المعترف بها دوليا، من شأنه أن ينتج تواصلا فعالا مع المغرب الذي يحكمه نفس التيار، وهو ما يمثل تهديدا للجزائر.

إلا أن ذلك لا يعني استعداد الأخيرة للميل للعسكري “حفتر” بجهوده ضد قبيلة الطوارق التي تعد أحد أهم مكونات المجتمع الجزائري، وبينهما ملفات اشتباكات حدودية ضخمة.

لكن التدخل التركي أدى لتعقيد القرار بالنسبة للجزائر التي كانت تتجه لدعم السراج لعدم وجود ارتباط خارجي له. وفي هذا الإطار قد يكون المدخل القبلي أحد مداخل الجزائر نحو إحداث توازن حيال مخاوفها في ليبيا، وهو ما يرتبط بضغوط فرنسا، ويبقى القيد على الجزائر متمثلا في أن ورقة القبائل سلاح ذو حدين، قد يجرحها في حال التوظيف الخاطئ.

أفريكوم.. هل تتمكن من إحباط المسعى الفرنسي أم تدعمه؟

بعد أكثر من عام على الإجلاء الميداني لقواتها من ليبيا إثر إعلان “حفتر” شن هجومه على العاصمة “طرابلس”، عادت قوات القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا “أفريكوم” للمشهد في ليبيا مجددا، وكما الإجلاء، فإن العودة ترتبط بحفتر أيضا، وبخاصة مع وجود تخوفات أوروبية وأميركية من تدخلات روسيا لدعم العسكري المتمرد.

ففي 26 مايو /آيار 2020، نشرت “أفريكوم” بيانا على موقعها، أعلنت فيه أن روسيا قد أرسلت مؤخرا مقاتلات عسكرية إلى ليبيا لدعم مرتزقة شركة “فاجنر” التي تقاتل لصالح العسكري “حفتر”. الكشف الأميركي يمثل إعلانا عن تزايد المخاوف الأوروبية ومن ورائها – بطبيعة الحال – المخاوف الأميركية، حيث إنه في حال نجحت روسيا في الوجود عسكريا على الساحل الليبي، فإنها ستتجه تاليا – كما في سوريا – لنشر معدات عسكرية ذات قدرات كبيرة لوقت طويل في المنطقة، وهو ما تراه أوروبا تهديدا صريحا.

هذا الشعور بالتهديد دفع فرنسا – الطرف الأوروبي المغامر في علاقته بروسيا على المسرح الليبي – لإعلان تخليها عن العسكري “حفتر”، ثم إدانتها وجود مرتزقة “فاجنر” في اتصال هاتفي مع بوتين.

وبما أن الانتشار لا بد أن يقابله انتشار مضاد، فقد كشفت القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا “أفريكوم”، في 30 مايو /آيار 2020، عن احتمال نشر قواتها في تونس على خلفية الأنشطة العسكرية الروسية في ليبيا، وهو ما توافقت عليه وزارتا الدفاع الأميركية والتونسية.

وفي “لقاء زوارة”، الذي جمع رئيس حكومة الوفاق الليبية بوفد من قيادة القوات الأميركية في إفريقيا ضم قائد القيادة العسكرية الأميركية نفسه الجنرال ستيفين تاونسند، والسفير الأميركي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، أدار السفير الأميركي اللقاء من باب التخوفات من أن يؤدي العنف بين طرفي النزاع إلى عودة “تنظيم الدولة”، و”تنظيم القاعدة”. وطالب بالعودة للحوار السياسي، وهي إشارة تأتي للرد على تصريحات القاهرة التي تتهم حكومة الوفاق بالإرهاب، ليأتي البيان الأميركي موجها الحديث لمحور الثورة المضادة بأن العنف سيكون مصدرا للإرهاب وتدخل “جهات أجنبية” (ذكر البيان عمليات فاجنر تحديدا، لكنه كان أكثر عمومية)، وأن حكومة الوفاق شرعية وشريك في مكافحة الإرهاب.

كما ذكرت السفارة الأميركية في بيانها حول اللقاء أنها “ستعمق مشاركتها مع مجموعة كاملة من المحاورين من جميع أنحاء البلاد من أجل دعم السيادة الليبية والاستقرار السياسي والأمن والازدهار الاقتصادي”، وهو ما قد يحمل توجها يدعم التوجه التركي – الليبي بفتح آفاق حوار مع نخب مغايرة لتلك النخب التي استدعت روسيا وطلبت دعمها.

غير أن لقاء “زوارة” حمل دلالة أخرى، حيث يرى فيه مراقبون اتجاها أميركيا لكبح الرغبة الفرنسية المحمومة للحصول على قاعدة عسكرية على الجانب التونسي من الحدود التونسية الليبية.

فضلا عن تخوفات من منهج فرنسا في دعم الوجود الروسي، وهي التخوفات التي مهدت لها الولايات المتحدة منذ مايو /آيار 2020 بإرسال وحدات من قوة “أفريكوم” إلى تونس.

غير أن التدخل الأميركي كان له بعد آخر، فمع اتصال أنقرة بواشنطن، حدث اتصال مصري بواشنطن كذلك، ويفيد مراقبون بأن التواصل الأميركي مع كل من القاهرة وأنقرة كان يهدف إلى خلق تنافس على تقليص الدعم للوجود الروسي في ليبيا.

ويتزايد القلق الأميركي من هذا الدور مع الانسحاب التكتيكي الفرنسي من المشهد الليبي لصالح استدعاء روسيا بصورة رسمية عبر بوابة عقيلة صالح وما أسفر عنه ذلك من معاودة تدفق السلاح والمرتزقة الروس لقوات “حفتر”.

خاتمة

تتصاعد نذر التوتر في ليبيا، وقد بلغت ذروتها مع مناورات متبادلة بين كل من مصر وتركيا، وإن كانت المناورات التركية لم تجر حتى تاريخ كتابة هذه السطور، غير أن أيا من هذه التفاعلات لا يلغي مستقبل توظيف ورقة القبائل. وإن اندلعت مواجهة “محدودة” مصرية تركية فلن تعدو أن تكون مدخلا لتمكين قبائل الشرق من لعب دور الحامي للنفوذ المصري في شرق ليبيا، وحاجزا يحول دون بلوغ ما تراه القاهرة تهديدا إسلاميا لأراضيها.

وهذه المواجهات قد تنشب فعلا، وقد يحركها بحث المؤسسة العسكرية المصرية عن أية شرعية عسكرية تغطي تغولها في الداخل المصري، ولعل هذا سبب تبادل الردع بين الجانبين التركي والمصري.

إن خروج فرنسا من الساحة الليبية ليس سوى تمظهر لعقدة  فيتنام. فرنسا لا تريد البقاء فوق تراب ليبيا، وإن بقيت في قاعدة عسكرية في الجنوب فسوف تحتاج إلى اتفاق سياسي لا يجعلها طرفا محتلا على نحو ما ستنظر به القبائل للوجود الروسي في حال خروج حفتر وصالح من المشهد السياسي.

فالقبائل التي ساعدت “القذافي” في مواجهة ثوار 17 فبراير /شباط 2011 قد وجدت باعثها لذلك في رفض تدخلات الأجانب، وهو الأمر الذي تعالجه اتفاقية سياسية كتلك التي تجمع تركيا بحكومة الوفاق الليبية.

وفي المستقبل، تراهن فرنسا – على الأرجح – على أن تبقى القبائل مفتاحا لزعزعة استقرار حكومة الوفاق، وربما دفعها للقبول بنفوذ فرنسي واسع في ليبيا مستقبلا درءا لاحتمال طول أمد الصراع.

وتستغل فرنسا في هذا الصدد حاجة القبائل في جنوب ليبيا للمال، وهي الحاجة التي طالما دفعتها لتجارة المخدرات والسلاح وإدارة الهجرة غير الشرعية. هذا المدخل لفرنسا ربما يمثل للجزائر صمام أمان يحول دون ارتداد ملف القبائل في وجهها لاحقا، فإرضاء قبائل التبو وأولاد سليمان، وبخاصة الطوارق، ربما يضمن نجاتها من توظيفات فرنسية لهذا الملف.

أما تونس، فيكفيها إدارة لعب دور يتيح للقبائل لعب دور أكبر من مدخل سياسي غير صراعي، وربما التنصل من أية تداعيات صراعية مستقبلية. كما ستبقى المشكلات المحدودة المترتبة على سيولة الحدود الجنوبية الغربية لمصر مع ليبيا كما هي، طالما أن ملفات تهريب المخدرات والسلاح لا يبلغ درجة تهدد الجبهة الداخلية المصرية.

_____________

مواد ذات علاقة