بقلم عماد قدورة

تعد تركيا دولةً بحريةً، ليس من منظور جغرافي يتعلق بموقعها على سواحل طويلة فحسب، وإنما أيضًا من منظور تاريخي ممتد ارتبط بسياسات وممارسات بحرية، وبخاصة في القرنين السادس والسابع عشر، أدت إلى الهيمنة على البحار الواقعة عليها، مثل البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، وإلى وجودٍ فاعلٍ في البحر الأحمر والخليج العربي، فضلًا عن الانخراط بتأمين الطريق البحرية التجارية إلى سواحل الهند.

الجزء الأول

في عام 2019، وبعد انقطاع طويل امتد أكثر من قرنٍ على انحسارها في البر التركي، أعادت أنقرة رسميًا تنفيذ سياسة بحرية جديدة، عبر توقيع اتفاقيتين بحرية وعسكرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية.

فقد حددت الاتفاقية الأولى خطًا على مسافة 18.6 ميلًا بحريًا (35 كيلومترًا) سيشكل الحدود البحرية التي تفصل بين المناطق الاقتصادية الخالصة للبلدين، وتسعى تركيا من خلالها إلى إضفاء الشرعية على عمليات الحفر والتنقيب عن النفط والغاز الطبيعي التي تقوم بها سفنها مثل يافوز (Yavus) والفاتح (Fatih) وعروج رئيس (Oruc Reis)، رغم اعتراض الاتحاد الأوروبي واليونان وقبرص.

أما الاتفاقية الثانية فتتعلق بالتعاون العسكري والأمني بين البلدين. وفي حين أتاحت لها الأولى رسم خريطة بحرية جديدة منحتها مساحات واسعة في شرق المتوسط، سيتبعها بالضرورة الدفاع عما تعتبره الآن وطنها البحري وأمنها القومي، فإن الثانية أدت إلى تدخل عسكري واسع في ليبيا، دفاعًا عن مصالحها البحرية والاقتصادية، وعن حلفائها الذين وقعوا معها الاتفاقيتين وجعلوا رسم حدودها البحرية الجديدة ممكنًا.

لم يكن الانقطاع الطويل بين السياستين البحريتين التاريخية والحالية، رغم الفوارق بينهما، إلا لغياب القدرات اللازمة لممارسة تركيا مثل هذه السياسة بمفردها طوال تاريخ الجمهورية، وكذلك غياب رؤية للسياسة البحرية ما وراء حدودها، فضلًا عن غياب الحافز الاقتصادي للسيطرة على مناطق بحرية لم تكن معروفة بغناها الهيدروكربوني الهائل مثلما أصبحت عليه اليوم.

ومع تنامي القدرات الاقتصادية والصناعية والعسكرية التركية، ومع الاكتشافات الكبيرة للنفط والغاز في شرق المتوسط التي رافقها عقد تحالفات إقليمية مثل الشراكة بين إسرائيل واليونان وقبرص ومصر التي أنشأت “منتدى غاز شرق المتوسط”، وتوقيع اتفاقية تحديد الحدود البحرية بين اليونان ومصر، وفي سياق تنافس أنقرة في الشرق الأوسط مع أطراف إقليمية أخرى مثل مصر والإمارات والسعودية، ومع فرنسا وروسيا، بدأت تتبلور سياسة أنقرة البحرية الجديدة المرتبطة قانونيًا باستمرار اتفاقها مع ليبيا، كما نبين لاحقًا.

ونظرًا إلى الأهمية التي توليها أنقرة إلى تلكما الاتفاقيتين، اعتبر نائب الرئيس التركي فؤاد أقطاي (Fuat Aktay) أن مضمونهما يؤسس لمرحلة مختلفة عن السابق، فقد قال: “في شرق البحر الأبيض المتوسط، نحن نمزق الخرائط التي تهدف إلى حشرنا في البر الرئيس. إننا نصنع التاريخ في ليبيا”.

كما أشار تشاتاي إرجياس (Cagatay Erciyes)، مدير عام شؤون الحدود البحرية في وزارة الخارجية، إلى أن الاتفاق مع ليبيا: “يرقى إلى مستوى رسالة سياسية مفادها أنه لا يمكن تهميش تركيا في شرق البحر الأبيض المتوسط، ولا يمكن تحقيق أي شيء في المنطقة دون مشاركة تركيا”.

تعتمد الدراسة في مقاربتها لهذا الموضوع على النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، إذ تحولت السياسة التركية في السنوات القليلة الماضية نحو استخدام سياسة القوة، بدلًا من الاقتصار فقط على الدبلوماسية والقوة الناعمة التي سادت في العقد الأول من القرن الحالي.

في الواقع، تسعى الدول في سياستها الخارجية إمّا إلى الأمن (security seeking) بالحفاظ على الوضع الراهن، وإمّا إلى السلوك الاستباقي والتدخل (pro-action seeking) بتغيير هذا الوضع اعتمادًا على قوتها. في هذا السياق، يذهب كليفتون مورغان وغلين بالمر إلى أنّ ثمة دولًا، خاصة الضعيفة، تعمل على منع التغيير طالما أن الوضع القائم ينطوي على استمرار تأمين الاستقرار لها، بينما تعمَد دولٌ أخرى، خاصة القوية، إلى تغيير الواقع ليتسق مع مصالحها المتزايدة.

ومن العوامل المؤثرة في اختيار السلوك الثاني: قوة الدولة وقدراتها مقارنة بقدرات الدول الأخرى، وطبيعة البيئة الخارجية، والسياسات التي تتبناها الدول الأخرى.

وتشدّد المدرسة الواقعية إجمالًا على النزعة الدائمة للصراع بين الدول، وتعتقد بأن سياسة القوة، وتعزيز القدرات، وعقد التحالفات؛ لزيادة قوة الدولة ومكانتها، هي ما يحقق أهدافها ويضمن أمنها ومصالحها القومية؛ لأن الفوضى تدفع الدول إلى القلق بشأن توازن القوى، بينما يجبر هيكل النظام الدولي، والإقليمي، الدول على إيلاء اهتمام دقيق لهذا التوازن. بناءً على ذلك، تُظهر هذه الدراسة التغيرات التي دفعت أنقرة باتجاه تبني مقاربة واقعية في سياستها البحرية الجديدة وفي تدخلها في ليبيا.

وإزاء تطور خطاب السياسة الخارجية التركية وسلوكها الحازم لتحقيق أهدافها، تناقش الدراسة:

ـ السياسة البحرية التركية الجديدة في شرق المتوسط؛ من حيث جذور الرؤية التاريخية والحالية، وابتداع مفهوم الوطن الأزرق، وتوسيع سياستها إلى أعالي البحار وارتكازها على الأمن القومي والطاقة، وأسباب سعيها لعقد اتفاقات بحرية مع مصر وليبيا، والعوامل الاقتصادية والقانونية والجيوسياسية المؤثرة في السياسة البحرية الجديدة، مثل اكتشافات الغاز الكبيرة، وطبيعة الخلافات القانونية، والمشاريع المتنافسة لنقل الغاز إلى أوروبا. 

ـ التدخل العسكري في ليبيا، من حيثالأهمية التي يمثلها بالنسبة إلى تركيا، والسياق الليبي والإقليمي الذي دفع أنقرة إلى هذا التدخل، ومواقف القوى الدولية والإقليمية الأساسية المتضررة من هذا التدخل وتداعياته المحتملة عليها، والسياسة التركية إزاءها. ونختم بأهم استنتاجات الدراسة.

أولا: السياسة البحرية التركية الجديدة في المتوسط

تعود رؤى السيطرة البحرية وإظهار نفوذ الدولة في تركيا إلى العهد العثماني، فمع امتداد الإمبراطورية على مساحات جغرافية واسعة تطل على بحار رئيسة تتوسط العالم، مثل البحر الأسود والبحر الأحمر والخليج العربي، فضلا عن البحر الأبيض المتوسط، عمل العثمانيون على أن يكونوا جزءا من شبكة التجارة الدولية.

وقد بلغت الهيمنة العثمانية على البحار أوجها في عهد السلطان سليم الأول والسلطان سليمان القانوني. فمع تقديم العالم الجغرافي بيري ريس خريطته العالمية إلى السلطان سليم بعد سيطرته مباشرة على مصر عام 1517، قام باستخدامها لتخطيط العسكرية في المحيط الهندي.

كما بدأ السلطان سليمان بإنشاء قوة بحرية بقيادة القائد البحري خير الدين بربروسا أدت إلى الهيمنة على البحر المتوسط. النفوذ العثماني تقلّص بعد الهزيمة البحرية في معركة ليبانتو في عام 1571، مع الحلف المقدس الذي دعا إليه البابا بيوس الخامس، والمكوّن من ائتلاف دول أوروبية كاثوليكية، على رأسها أسبانيا والبندقية.

،ومع ذلك فإنه بقى قائما نسبيا حتى نهاية القرن الثامن العشر على الأقل، حيث ظلت الدولة العثمانية تسيطر على سواحل البحرالمتوسط الشمالية الشرقية والجنوبية من اليونان إلى الجزائر، بينما بقت تسيطر على الساحل الشرقي كاملا حتى بداية القرن العشرين.

واللافت أن ليبيا كانت آخر البلدان التي خسرها العثمانيون في الساحل الجنوبي، وذلك في عام 1911. واكتسب مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، شهرته لأول مرة بسبب قيادته معركة شبه بحرية حاسمة في التاريخ التركي، تمثلت بانتصاره في منطقة جناق قلعة الواقعة على مضيق الدردنيل عام 1915، ما منع سيطرة بريطانيا حينذاك على المضائق التركية والعاصمة اسطنبول.

كما تكتسب معاهدة مونترو لعام 1936 أهمية للأتراك بوصفها الضامن للسيطرة التركية على المضائق، أو على الأقل ما تبقى لهم من مضائق بحرية. ويحظي التدخل العسكري في قبرص عام 1974 برمزية عالية لدى الأتراك أيضا بوصفه، في جانب منه، انتصارا على اليونان والقبارصة اليونانيين، المدعومين غربيا، ومحاولاتهما حصر تركيا في الشريط البحري الضيق، الذي لا يتجاوز تلك الجزيرة.

لم يكن حزب العدالة والتنمية، الحاكم منذ عام 2002، خلوا من التفكير في السياسة البحرية الفاعلة. فحتى قبل تأسيسه، كان لدى بعض من سينتمون إليه إدراك وتنظيم لأهمية السياسة البحرية، وإن كان ذلك ضمن رؤية عامة.

فقد وصف أحمد داود أوغلو في عام 1994 المضائق والممرات البحرية التي تسيطر عليها الدول الإسلامية، وأبرز أهميتها العالمية في حال تضامنها، ودور تركيا في ذلك. وعندما كان وزيرا الخارجية في 2010، أشار إلى أهمية إظهار الدولة مكانتها البحرية، فقال: “لتحديد السياسة البحرية التركية من خلال الإشارة إلى الأحواض البحرية القريبة، حاولنا أظهار مناطق نفوذ الدولة في البحر الأسود وشرق البحر الأبيض المتوسط وبحر قزوين وخليج البصرة.

وقد تزامن هذا الإهتمام الأخير مع اكتشافات الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، وبخاصة بعد أن كشف تقرير هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، أن الاحتياطات القابلة للأستخراج تقدر بنحو 122 تريليون قدم مكعب (نحو 3420 مليار متر مكعب)، كما تزامن مع محاولة إظهرا تركيا أهميتها للخليج العربي وتعميق العلاقات مع دوله آنذاك.

وأبتدع قوميون أتراك أيضا، وهم حلفاء حزب العدالة والتنمية اليوم، مفهوم “الوطن الأزرق” وهو مفهوم جديد نسبيا يتعلق بالدفاع الوطني، ويشير إلى “الوطن” لم يعد يشر إلى الأرض فحسب، وإنما أيضا إلى البحر، أو “الوطن المائي”. وهو تعبير استخدمه أول مرة الأدميرال رمضان جيم غوردينيز في عام 2006، وانتشر في آذار/مارس 2019 عندما أجرى الأسطول التركي مناورات في شرق المتوسط تحت إسم “الوطن المائي”.

ويبدو أن تصور السياسة القائمة على هذا المفهوم لا ينحصر بالدفاع عن السواحل والمضائق التركية فقط، كحال السياسة التقليدية، بل يمتد إلى أعالي البحار، كما أن تلك السياسة تتمركز حول الأمن القومي والطاقة معا. فقد عبر الأدميرال البحري مراد بيلجل، في آذار/مارس 2012، عن الهدف من استراتيجية تركيا البحرية، فقال: “ليس العمل في المناطق الساحلية فقط، وإنما أيضا في أعالي البحار لتحقيق وجود متقدم، وتعزيز القدرة على حرمان الآخرين (من استغلال مناطقنا البحرية)، والقدرة على إظهار القوة”.

كما أكد قائد البحرية، الإدميرال بوستان أوغلو، في أيلول/ سبتبمر 2013، أن “تصور تركيا للتهديد البحري “قائم على الطاقة” وأن الدفاع عن مصالح تركيا في شرق البحر المتوسط يمثل أولوية قصوى للقوة البحرية”.

ومن أجل توسيع المناطق البحرية الاقتصادية الخالصة والوصول إلى أعالي البحار والدفاع عما تعتبره أنقرة مصالحها في التنقيب عن مصادر الطاقة، فقد احتاجت إلى دول ساحلية في شرق المتوسط كي توقع معها اتفاقية ترسيم الحدود وتحديد الولاية القضائية البحرية وبخاصة بعد توقيع الاتفاقية القبرصية-الإسرائيلية في عام 2010 التي رسمت حدودهما البحرية وسهلت قانونيا استقطاب الشركات العالمية للتنقيب عن الغاز.

وقد دفع ذلك أنقرة إلى التوقيع على اتفاقية مع جمهورية شمال قبرص، في أيلول/ ستبمبر 2011، للاستكشاف عن النفط والغاز في شرق المتوسط. لكن هذه الاتفاقية لا تلبي كل ما تستهدفه تركيا، إذ تظل تلك الجمهورية غير معترف بها دوليا إلا من قبل تركيا فقط، كما أن هذه الإتفاقية لا تزال تحصرها في مناطق ضيقة وقريبة.

لذلك، حاولت أنقرة عقد اتفاقيات ترسيم حدود بحرية مع مصر وليبيا، إذا كانت هناك مساع تركية لتوقيع اتفاقيات مع القذافي ومبارس كان من شأنها أن ترسخ مطالبها، لكن الثورات العربية في عام 2011 قطعت هذه المخططات بعد إطاحة كل منهما، وما تبع ذلك من عدم استقرار.

وكان المحرك الفكري وراء حاجة تركيا إلى توقيع اتفاق مع ليبيا لترسيم حدود ثنائية ووضع المعايير البحرية التي ينبغي أن تقوم عليها هو الأدميرال جهاد يايجي، الذي كانت أفكاره الأساس لمقترح قدمته تركيا إلى القذافي على هامش قمة الإتحاد الأوروبي مع أفريقيا في عام 2010، وهي الأفكار نفسها التي تم على أساسها توقيع اتفاقية التفاهم “حول ترسيم مناطق الولاية القضائية البحرية في المتوسط” مع حكومة الوفاق الوطني في ليبيا عام 2019.

البقية في الجزء الثاني

***

عماد قدورة ـ مدير قسم التحرير في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. عمل باحثًا ومحرر أول في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، وباحثًا في مركز دراسات الشرق الأوسط، والمركز العلمي للدراسات السياسية . تتركز اهتماماته البحثية حول العلاقات الدولية، والدراسات التركية.
____________

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

مواد ذات علاقة