بقلم د. نزار كريكش

جولة الحوار بين الفرقاء الليبيين في مدينة بوزنيقة المغربية تمثل فرصة هائلة لإنهاء الأزمة الليبية، المغرب وسيط نزيه، وهناك تأييد دولي لحل سياسي، والحل العسكري يبدو غير متاح لأي من الطرفين، لكن هناك أيضاً مؤشرات مقلقة بأن الأطراف ربما تستغل الحوارات لاستكمال الاستعداد لجولة أخرى من الصراع المسلح، فإلى أين تتجه الأمور؟

الجزء الأول

حوارات بدأت سرية وخرجت للعلن

اجتمع وفدا المجلس الأعلى للدولة الليبي ومقره طرابلس، ومجلس النواب من أعضائه في مدينة طبرق الليبية في مدينة بوزنيقة المغربية، الساحلية على المحيط الأطلسي بين الرباط والدار البيضاء، وفي منتجعها كانت اللقاءات بين الوفدين الليبيين إثر مبادرة قدّمها عقيلة صالح، الذي شغل منصب رئيس مجلس النواب قبل العدوان على طرابلس.

حيث انقسم مجلس النواب بين طبرق وطرابلس، وقد كان من المقرر أن يكون اللقاء سرياً تشاورياً بين الوفدين، بعد دعوة وزير الخارجية المغربي “ناصر بوريطة” للفرقاء الليبيين للتشاور حول إمكانية استئناف الحوارات بين الوفدين.

وكانت هذه الحوارات قد بدأت بالفعل مع مجيء المبعوث السابق غسان سلامة، واستمرت خلال العام 2018، لكنها لم تسفر عن أي نتائج تذكر، وفي سياق فشل دخول قوات حفتر لطرابلس وانسداد الأفق أمام الحل العسكري، كانت مبادرة عقيلة صالح، والتي تهدف لتغيير المجلس الرئاسي وتكوين حكومة تنفيذية منفصلة عن المجلس الرئاسي وتقليل عدد أعضاء المجلس من تسعة أعضاء إلى ثلاثة أعضاء.

لكن المبادرة كان ينقصها الكثير قانونياً، لذا قامت الخارجية المغربية بتهذيب هذه المبادرة، لجعلها تتناسق مع اتفاق الصخيرات، الذي وقع في 17 ديسمبر/كانون الأول عام 2015، وعدّل على أساسه الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس الانتقالي الذي حكم ليبيا، أثناء ثورة السابع عشر من فبراير/شباط عام 2011.

اللقاء خرج من السر للعلن، بعد أن أعلن عنه السيد عقيلة صالح ونشرته وسائل إعلام مختلفة، ويبدو أن المغرب قد نجح في التوفيق بين وجهات النظر، ولأسباب تبدو واضحة اتّجه الجدل حول الحديث عن تولي المناصب السيادية، وهي المادة 15 من الاتفاق السياسي، وتأجيل النقاش حول قضايا أخرى وهي محاولة -فيما يبدو- لاتباع سياسة الخطوة بخطوة بنقاش القضايا الممكنة، وتأجيل كل الإشكالات التي قد تعيق الحوار.

لم يدع للحوار في بوزنيقة أي من الأطراف الدولية، ولكنهم دعوا لمباركتها كأساس لجولة من المفاوضات الجديدة على غرار الصخيرات. ردود الفعل من كافة الأطراف الدولية كانت مرحبة، سواء من روسيا أو فرنسا أو تركيا أو الولايات المتحدة الأمريكية، وحتى مصر والإمارات.

هذا الترحيب الدولي والنتائج الإيجابية التي خرج بها الحوار، وهي الاتفاق على قواعد لتولي المناصب السيادية وفقاً للمادة 15، والتي تنص على (يقوم مجلس النواب مع مجلس الدولة، خلال 30 يوماً من تاريخ إقرار هذا الاتفاق) بالتوافق حول المناصب السيادية، ونص الاتفاق على بيان هذه المناصب في نفس المادة، وهي: محافظ مصرف ليبيا المركزي، ورئيس ديوان المحاسبة، ورئيس جهاز الرقابة الإدارية، ورئيس هيئة مكافحة الفساد، ورئيس وأعضاء المفوضية العليا للانتخابات، ورئيس المحكمة العليا، والنائب العام.

ويتطلب إعفاء شاغلي المناصب الحالية توافق المجلسان كما هي الفقرة الثانية من المادة 15 من اتفاق الصخيرات، ولا ندري بالضبط ما هي هذه التوافقات والقواعد التي اتفق عليها الطرفان، لكنهم اتفقوا على تأجيل الحديث عن أسماء حول هذه المناصب السيادية والتركيز على المعايير والإجراءات للترشيح والتعيين، واتفقوا كذلك على العودة لإعلام ومناقشة ما اتفقوا عليه مع المجلسين في طبرق وطرابلس.

وهنا يجب ألا يغيب عن بالنا أن مجلس النواب منقسم على نفسه، وأن الأكثرية التي تعقد اجتماعات، ومنتظمة في عملها هي في طرابلس، بينما لم يعد في طبرق إلا القليل، وكثير من أعضاء المجلس قد آثروا الامتناع عن تأييد أي من الطرفين، لذا فهو مجلس منقسم على نفسه معلّق، فلا المجلس في طرابلس مارس صلاحياته كبرلمان للأمة، ولا الأعضاء في طبرق التقوا وحددوا مسارهم.

ليس هناك أي معلومات عن جلسات قانونية يعتد بها في قرارات هذ المجلس المنعقد في طبرق، إنما يمثّله عقيلة صالح كرئيس للمجلس، والجدل كبير حول موضعه، هل هو رئيس للمجلس أم ممثل لقبيلة العبيدات، أحد القبائل الفاعلة في الشرق الليبي.

هذا ما حدث في بوزنيقة، وتباينت ردود فعل الأوساط السياسية في ليبيا بين مرحب ومن يرى الاتفاق بداية لنهاية للأزمة الليبية، كما صرّح عضو المجلس الأعلى للدولة عبدالسلام الصفراني وبين من يرى أنها مجرد محاولة لتقاسم السلطة، وأننا ما زلنا بعيدين عن حل للأزمة الليبية.

وللإجابة عن سؤال هل نحن أمام:

ـ مشاورات قد تنتهي لمفاوضات تصل بليبيا لبر السلام والأمان،

ـ أم أننا أمام مناورات سياسية، القصد منها كسب الوقت للجوء للسلاح ثانية،

ـ أو أنها مجرد رغبة من القوى الدولية لتجميد الأزمة الليبية عبر إطلاق هذه المفاوضات، إلى حين توافق هذه الدول حول التحولات الجيواستراتيجية في شمال إفريقيا وشرق المتوسط.

هذه السيناريوهات الثلاثة قد تكون جزءاً من التحليل السياسي، لكننا على كل حال أمام محاولة من المغرب لإيجاد حالة توازن إقليمي، وإطلاق مسار سياسي وترحيب دولي، فإذا تجاوزنا مسألة السياق السياسي الممكن لهذا الحوار بين المناورة (كسب الوقت للدخول في حرب جديدة من قبل حفتر وعقيلة صالح)، أو المداورة ( تجميد المشهد)، أو المحاورة (إطلاق حوار ينتهي لتوافق وحل للأزمة الليبية)، فإن أمام هذا الحوار عدة عوائق وعقبات، هي التي قد تحدد فشله أو نجاحه، كما أن لديه عدة فرص ونقاط قوة يمكن أن تكون سبباً في أن يعبر بالأزمة لشاطئ الأمان، بعيداً عن أمواج الحرب العاتية، دعنا نناقش هذه الفرص والمخاطر.

بوزنيقة وفرص النجاح

يمكننا أن نعدد هنا عدة فرص لنجاح مشاورات بوزنيقة، فالأجواء الودية التي تحدّث عنها وزير الخارجية المغربي، وكذلك أعضاء المجلسين، وعدم خروج أي متحدث باسم حفتر يستخف بالحوار، كما فعل المتحدث الرسمي باسم حفتر، بعد أن أعلن رئيس المجلس الرئاسي وقف إطلاق النار في سرت، والدخول في عملية تفاوضية، كل هذا يضع هذه المشاورات في سياق صحيح جاء بعد حرب دامية في طرابلس، لذا فإننا يمكن أن نضع هذا الإطار لفرص نجاح هذا الحوار:

سلام المنهكين

سياق الأزمة الليبية في مساره الكلي يتحدث أن ليبيا قد مرّت بعملية سياسية منذ العام 2011، لكنها توقفت عام 2014، إثر انقلاب عسكري من خليفة حفتر، ودخل البلد بعدها في حرب أهلية استمرت لنهاية العام 2015، ووقع اتفاق الصخيرات، هذا الاتفاق لم يصمد حتى بدأت حرب جديدة في طرابلس انتهت بهزيمة حفتر عام 2020.

هذا المسار إذا قارنّاه بعديد من النزاعات الدولية، فإنّ الصراع في ليبيا يبدو أنه قد وصل لنهايته، فالقوة التي يمتلكها الطرفان واضحة، وكذلك حلفاؤهم ظاهرون، ولم يعد أمامهم بعد أن ظهر عجز الطرفين على الحسم إلا الدخول في حوار، هذا المسار هو الذي أخذته عديد من النزاعات في العالم، كما حدث في ليبيريا والكونغو والبوسنة والهرسك، إذاً السياق والتوقيت نفسه له دلالة (هذا هو سلام المنهكين).

وسيط نزيه

تشكّلت الخبرة لدى دولة المغرب في إدارة الحوار بين الليبيين، كما أنه وسيط نزيه، فقد حافظ المغرب على سلميته ودعوته الدائمة للحل بالطرق السلمية، ولم يمل لأي من الطرفين، كما حدث مثلاً مع مصر التي دعمت حفتر، أو التصريحات وغياب الرؤية لدى الرئيس التونسي قيس سعيد في تصريحات وتصوره الفكري والتاريخي للأزمة الليبية.

الواقعية السياسية

 المشاورات في بوزنيقة ركّزت على قضايا تتعلق بالمناصب السيادية، وهي قضية واقعية تشغل بال الفرقاء السياسيين الليبيين، ويمكن وصفها بأنها المخيال الذي يريد كل طرف أن يتموضع فيه في حال استقر البلد، وهذا قد يدفع الأطراف المتشددة، خاصة خليفة حفتر، للتفكير في اللحاق بهذا الحوار، لأنه قد يصل به للحكم والسلطة.

وهنا يجب التفريق بين (التموضع) و (التأسيس)، فالنظرية التي تنطلق منها البعثة الأممية في حل النزاعات هي هذا التأسيس لمؤسسات الدولة كالبرلمانات والمؤسسات الدستورية، لكن ثبت أن الدول الهشة والتي تعاني من النزاعات المسلحة قد يصلح معها نظرية التموضع، وهي أن يصمم النظام لحل إشكالات قائمة بين الفرقاء السياسيين على أساس من وضع معايير وتحديد إطار يمكن أن يشمل كافة المنخرطين في العملية السياسية.

بالطبع قد يفهم من ذلك أنها محاصصة، لكنها توضع في سياق الواقعية السياسية، فمادام الصراع كله حول المناصب السيادية لنضع لها إطاراً عاماً حتى لا نقتتل عليه، لذا فإن الملاحظة المهمة التي يلحظها بعض المراقبين في الأزمة الليبية منذ نهايتها (وهو الاستراتيجي الأمريكي بيتز زيهان)، أن كل الأطراف في ليبيا حريصة على بقاء البنية التحتية لاستخراج النفط فهو موطن النزاع، بصورة أوضح الكل الآن أصبح واقعياً ويعرف عاقبة ما يمكن الاتفاق عليه.

البقية في الجزء الثاني

***

د. نزار كريكش ـ أكاديمي وباحث ليبي متخصص في علم المستقبليات ومدير مركز “بيان” للدراسات .خبير في الشأن الليبي وكاتب عدة مؤلفات ودراسات منشورة

______________

مواد ذات علاقة