عاد التوتر من جديد بين تركيا واليونان، بشأن احتياطات الغاز الطبيعي شرق المتوسط، وقد تجدد الخلاف على إثر توقيع الاتفاق الحدودي بين اليونان ومصر في السادس من أغسطس/آب الماضي، الذي رأت فيه تركيا انتهاكاً صارخاً لجرفها القاري، وهو ما دفعها إلى الإعلان عن عودة التنقيب في مياه البحر المتوسط، الذي كانت قد أوقفته مؤقتاً بعد وساطة ألمانية وأوروبية.

الجزء الأول

مرت العلاقات بين أنقرة وأثينا بمراحل صعبة، أزَّمها عدد من الملفات التاريخية المتعلقة بالحدود البرية والبحرية والمياه الإقليمية والفضاء الجوي وجزيرة قبرص، وزاد من تأزمها محاولات التنقيب عن النفط والغاز في البحر المتوسط، وملف اللاجئين، واستضافة اليونان عدداً من الأتراك المرتبطين بمحاولة الانقلاب، والخلاف حول “آيا صوفيا”.

وقد توترت العلاقة أكثر بعد الأحداث الأخيرة التي شهدتها ليبيا، والاصطفافات الدولية والإقليمية هناك، وأطماع بعض القوى الإقليمية في نقل المعركة إلى الجوار التركي، وهو ما انعكس بشكل مباشر على الخلاف التركي اليوناني، في خطوة قد تكون غير محسوبة العواقب، وهو ما قد يؤثر في الدول المتحالفة مع اليونان وفي اليونان نفسها.

يبحث تقدير الموقف في أبعاد الخلاف التركي اليوناني حول التنقيب في المتوسط، والمواقف الدولية من القضية، ومآلاتها المستقبلية.

أبعاد الخلاف التركي اليوناني

الخلاف بين تركيا واليونان ليس وليد اللحظة، ولا يقتصر على ملف واحد، فثمة أبعاد متعددة للخلاف، أهمها الأبعاد السياسية والاقتصادية:

1. الأبعاد السياسية

يعد ملف قبرص من نقاط الخلاف بين البلدين، وقبرص جزيرة تفصل بين البلدين، وتعد ثالث أكبر جزيرة في البحر المتوسط بعد جزيرتي صقليا وسردينيا، وتحتل موقعاً استراتيجياً متميزاً، وفيها تلتقي القارات الثلاث؛ أوروبا وآسيا وإفريقيا، وقد تنازلت عنها تركيا لبريطانيا بموجب اتفاقية لوزان.

لكن قبرص حصلت على استقلالها فيما بعد، وحاولت الاندماج مع اليونان، وهذا ما أثار تركيا التي سيطرت بعدها على الجزء التركي منها، ومنذ ذلك الحين تعد محل خلاف بين الدولتين، وهي منقسمة بين قبرص التركية وقبرص اليونانية، حيث يدير الأولى القبارصة الأتراك في الثلث الشمالي لقبرص، وتعترف بها تركيا فقط، ويدير القبارصة اليونان الثلثين الآخرين، وتحظى حكومتهم باعتراف دولي.

وإذا كانت معاهدة لوزان، في 24 يوليو/تموز 1923، قد عملت على تسوية الخلاف بين تركيا والدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، فإن ملفات عدة بقيت تشكل خللاً في الاتفاق، كالجزر المتنازع عليها، حيث تنازلت تركيا بموجب الاتفاقية عن 12 جزيرة لإيطاليا، و150 جزيرة في بحر إيجه كذلك، وقد سلمتها إيطاليا لليونان، وأصبحت تمثل حصاراً بحرياً لتركيا.

تمثل قبرص والجزر السابقة محوراً رئيساً في الصراع التركي مع اليونان، لكنها ليست كل الصراع، فهناك ملفات عدة مرتبطة بالصراع مع اليونان؛ مثل السيطرة على المجال الجوي في بحر إيجه، وخطوط الجرف القاري للبحر، وحدود المياه الإقليمية بين تركيا واليونان، والقضايا العرقية والدينية.

كما تصدرت جزيرة ميس محور الخلاف، حيث تحاول اليونان محاصرة السواحل التركية عن طريق هذه الجزيرة التي تبعد عن اليابس التركي كيلومترَين فقط، في حين تبعد عن اليابس اليوناني 580 كيلومتراً، وترى تركيا أنها جزيرة منزوعة السلاح حسب الاتفاقيات الدولية، وأن إرسال اليونان جنوداً إليها يخالف اتفاقية باريس للسلام المبرمة عام 1947، التي تنص على نزع السلاح عن جزيرة ميس.

تعتمد اليونان على معاهدة لوزان ومعاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار، والأخيرة ليست تركيا عضوةً فيها، وتشعر تركيا بأن اتفاقية لوزان ظلمتها؛ إذ منحت اليونان كثيراً من الجزر كانت تاريخياً تتبع الدولة العثمانية، وتدرك في الوقت نفسه أن ترسيم الحدود البحرية من خلال معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار يجعل شرق المتوسط بحيرة يونانية.

وترى تركيا أنه من غير المعقول أن تحصل بعض الجزر اليونانية على مساحة جرف قاري ومنطقة اقتصادية تعادل أضعاف مساحتها، وتعتمد في مطالبها على توجهات القانون الدولي التي تحدد المناطق الاقتصادية بناء على المسافة من البر لا من الجزر، وهو ما استندت إليه في اتفاقيتها مع ليبيا، وترى أن دولاً كبرى لم توقع على معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار، كأمريكا، ومن ثم فهي غير ملزمة لها، إضافة إلى أنها ترى أن قبرص التركية أصبحت طرفاً مظلوماً، ولهذا تسعى لتغيير المعادلة من خلال إعادة ترسيم الحدود بطريقة أكثر إنصافاً.

2. الأبعاد الاقتصادية

التنافس السياسي ليس السبب الوحيد في التوتر شرق المتوسط، بل هناك صراع اقتصادي عميق، والاهتمام بثروات شرق المتوسط ليس وليد اللحظة، وقد بدأ مع بداية الكيان الإسرائيلي ترسيم حدوده البحرية والبحث عن حقول الغاز، وهذا الأمر أثار مخاوف الدول ذات العلاقة؛ كتركيا واليونان وقبرص، إضافة إلى أن ذلك دفع عدداً من الدول العربية إلى توقيع اتفاقيات حدودية متعددة، مع تهرب بعضهم من توقيع اتفاقية مع اليونان، نتيجة المبالغة اليونانية في تصور حدودها البحرية؛ وهو ما تراه تركيا أيضاً.

تحوي هذه المنطقة حقولاً غنية بالغاز الطبيعي، حيث يقدر تقرير لهيئة المسح الجيولوجية الأمريكية، عام 2010، وجود ما يقارب 122 تريليون قدم مكعبة (أو 3455 مليار متر مكعب) من الغاز، وكذلك 1.7 مليار برميل من النفط في هذه المنطقة، هذه الأطماع تلقي بظلالها على التحالفات، وتسبب تغييرات جذرية، وتعيد صياغة السياسات من جديد، وهو ما يظهر جلياً في الصراع شرق المتوسط.

يتنافس في هذه المنطقة كذلك مشروعان اقتصاديان كبيران، يسعى كلٌّ منهما لمد خط أنبوب شرق المتوسط يصل إلى أوروبا، الأول يحظى بموافقة إسرائيلية، ويسعى لنقل الغاز إلى أوروبا عبر قبرص واليونان، ويبلغ طوله 1900 كم، واسمه (إيست ميد)، ويتقاطع خط المشروع مع المنطقة الموقع عليها بين تركيا وليبيا.

والخط الثاني يحمل اسم (ترك ستريم)، وهو خط روسي تركي لنقل الغاز الروسي إلى تركيا ثم إلى أوروبا الغربية وجنوبها، وهذا المشروع ترفضه أمريكا والكيان الإسرائيلي.

أصبحت هذه المنطقة محل تنافس دولي، ومنطقة صراع بين تركيا واليونان وقبرص ومصر والكيان الإسرائيلي، وتتنافس فيها كبرى شركات الطاقة العالمية مثل: إيني الإيطالية، وتوتال الفرنسية، وإكسون الأمريكية، وتركيا تدرك أنها صاحبة أطول ساحل في شرق المتوسط؛ وإبعادها عن التأثير في هذا الملف ستكون له تداعيات استراتيجية على مكانة تركيا ومصادرها.

المواقف الخارجية

تعددت المواقف الدولية؛ بين دول أعلنت صراحة وقوفها مع اليونان، وأخرى تمارس دور الوسيط، وبعض الدول لا تزال تمسك بالعصا من المنتصف.

1- الاتحاد الأوروبي

ليس هناك موقف موحد يتبناه الاتحاد الأوروبي تجاه شرق المتوسط، ففي حين تمارس ألمانيا دور الوسيط بوصفها الرئيسة الدورية للاتحاد الأوروبي، تتبنى فرنسا موقفاً صارخاً ضد تركيا، وتحاول تقديم نفسها على أنها وصي على المنطقة على الرغم من أن إيطاليا أقرب منها، وتسعى إلى تبني الاتحاد الأوروبي لموقف يمثل وجهة نظرها، وتحاول التقارب مع روسيا لتحييدها في المعركة مع تركيا؛ لكنها بهذه الخطوة الأخيرة قد تخسر الموقف الأمريكي.

وقررت باريس تعزيز وجودها العسكري في منطقة التوتر، وأرسلت طائرتين مقاتلتين من طراز رافال، وفرقاطة بحرية إلى شرق البحر المتوسط، كذلك أعلنت اليونان عن مناورات عسكرية شرق المتوسط بمشاركة قبرص وفرنسا، وتتخذ قبرص اليونانية والكيان الإسرائيلي موقفاً مؤيداً لليونان.

لم تستطع اليونان التوصل إلى موقف موحد للاتحاد الأوروبي؛ فألمانيا وإسبانيا، وإلى حد ما إيطاليا، تحاول أن تجد حلاً سياسياً للخلاف، وتحاول تركيا الاستفادة من الوساطة الألمانية، ولهذا تبنت المقترح الألماني بجعل سرت والجفرة منطقة منزوعة السلاح، وعلقت عمليات التنقيب في المتوسط سابقاً بناء على وساطة ألمانية، وهي بهذا تحاول تحييد ما استطاعت من دول الاتحاد الأوروبي، وخاصة ألمانيا وإيطاليا، والجهود الألمانية تصطدم برغبة اليونان في تصعيد الأزمة، وقد كان الاتفاق اليوناني المصري بعد وساطة قادتها ألمانيا، وهو ما فهمت منه الأخيرة تحدياً لجهودها في حل الخلاف.

تدرك اليونان أنها لن تستطيع بمفردها مواجهة تركيا، ولهذا تسعى بكل قوة إلى توريط الاتحاد الأوروبي في مواجهة مع تركيا، وتصوير الخلاف على أنه خلاف تركي أوروبي، ومعها في ذلك فرنسا بكل قوتها، كما أن تركيا تسعى لتلافي ذلك.

البقية في الجزء الثاني

_____________

مواد ذات علاقة