بقلم فوزية بريون

من المؤسف أنه وبعد قرابة عقد من الزمان على انتفاضة فبراير نجد أن بلادنا قد صارت على شفا الإنهيار الكلي، بعد سلسلة من الإنهيارات الجزئية على الصعيد السياسي والإقتصادي والإداري والإجتماعي، بل والإخلاقي، أدت تداعياتها المعقدة إلى هذا التحارب والإشتجار بين جناحي الوطن.

الجزء الأول

وبالنسبة لأكثر الدارسين، تبدو الأزمة الليبية سياسية في المقام الأول، وذلك استنادا إلى قائمة الأخطاء التي ارتكبتها الأجهزة التي تولت تسيير البلاد منذ فبراير، بدءا من المجلس الإنتقالي وهيئته التنفيذية، وصولا إلى المؤسسات المتعددة والمتصارعة على مسرح الممارسة السياسية، في الوقت الذي تتنازع فيه الوطن سيناريوهات خطيرة، وتتكالب عليه قوي شرسة، داخلية متصارعة، وخارجية مجاورة وبعيدة، تغريها حالة الفوضى والإنقسام التي أنتجت بيئة جاذبة للمنظمات الإجرامية، المحلية والإقليمية والعالمية.

والنظر إلى أزمتنا الراهنة بمنظار السياسة يعود إلى أن السياسة، كانت وما تزال، العامل الأقوى في تشكيل تضاريس الثقافة والإقتصاد والإجتماع، بل وفي توجيه مسار المعرفة، ومنظومة القيم ورموز المجتمع.

وليس هذا سمة خاصة بليبيا، وإنما هو سمة مجتمعات العالم الثالث عامة. ولذلك فإن مختلف تفاصيل المشهد الليبي توحي بأن مشكلتنا في الأصل سياسية، وأن جميع مظاهرها قد تولدت عن الفراغ السياسي الذي أحدثه انهيار نظام بوليسي عتيد، وتخبط نخبة لم تتكون في بيئة حرة نقية، ففقدت لذلك القدرة على امتلاك رؤية مستقبلية متكاملة، ناهيك عن تطبيقها.

تتعمد هذه الورقة مخالفة هذا الطرح السائد، لتنطلق من فرضية أخرى، وهي أن أصل أزمتنا البعيد يعود إلى الثقافة في المقام الأول، وأن منظومتنا الثقافية وأنساقنا الاجتماعية هي التي أنتجت النظام السياسي السابق، الذي نال منا على مدى أكثر من أربعة عقود، أو على أحسن الفروض سمحت بإنتاجه، ورعته وأسهمت فيه، إذ لا مجال للشك في أن هناك علاقة وثيقة بين السياسة والثقافة، وأنهما يتبادلان التأثير والتأثر.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن مفهوم الثقافة المطروح إنما يقصد به معناه الأنثربولوجي لا معناه المعرفي، وذلك على الرغم من العلاقة المتشابكة بين المعنيين. حيث أننا نقصد هنا النظر إلى الثقافة باعتبارها إطارا للتربية والسلوك، لا مسار للتعليم والمعرفة.

ذلك أن هذا الأخير إنما يتحدد بمعطيات إدراك الحقائق وربط المفاهيم، بينما يتحدد الإطار الأول، أي السلوكي التربوي، بما يتمثله الفرد ويدخله من مكتسباته المعرفية في حياته العامة وسلوكه اليومي.

فإذا نظرنا إلى العلم والمعرفة باعتبارهما عمليات تحليلة تصنيفية لحقائق الحياة والكون، فإن الثقافة بالمقابل، هي عمليات تركيبية تطبيقية تنعكس بطريقة عفوية على مجالات الحياة المختلفة.

وعليه فإن الثقافة، التي نرى أنها تشكل جذور أزمتنا الحالية، ليست علما يكتسب، وإنما هي “مجموعة من الصفات الخُلقية والقيم الإجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته، كرأسمال أولي من الوسط الذي يولد فيه.

والثقافة بذلك هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته. وكما يؤكد برهان غلبون، فإن الثقافة ليست في الحقيقة “إلا المجتمع نفسه وهو في حالة وعي، وعي بذاته وبأجزائها ومظاهرها المختلفة السياسية والإقتصادية.

ويشبّه مالك بن نبي وظيفة الثقافة في المجتمع بوظيفة الدم في جسم الإنسان، إذ يعتبرها المركب الذي يغذيه، حاملا أفكار النخبة وحاملا أيضا أفكار العامة، مشكلا منهما تلك الإستعدادات المتشابهة، والإتجاهات الموحّدة، والأذواق المتناسقة، فالثقافة بذلك هي: “الجو المشتمل على أشياء ظاهرة، كالألحان والأوزان والحركات، وعلى أشياء باطنة، كالأذواق والعادات والتقاليد. بمعنى أنها الجو العام الذي يطبع أسلوب الحياة في مجتمع معين، وسلوك الفرد فيه بطابع خاص يختلف عن الطابع الذي نجده في مجتمع آخر”.

وبناء على اعتبار أن الثقافة أصل أزمتنا، فإن تصور إصلاح الوضع الليبي عن طريق تنفيذ حزمة من الخطط السياسية أو الاقتصادية التي تمكّن من بناء دولة عصرية، تقوم على مركزات الدستور والتمثيل النيابي والفصل بين السلطات، وعلى مبادئ الديمقراطية المختلفة، من ترسيخ قيم المواطنة وحرية الرأي وإنشاء الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني … إلى آخر القائمة، دون أن يسبق هذا أو يتزامن معه مراجعة ومعالجة وتنقية منظومتنا الثقافية، وإصلاح منطلقاتنا الذهنية والمفاهيمية والسلوكية، فإن خططنا السياسية ستتعرض للعرقلة والنكوص، وربما تبقى مجرد صورة ركبت بطريقة القطع من تجارب الآخرين، واللصق على صفحة أن أي إصلاح سياسي دستوري، وأن أي نهوض تنموي إنما يستدعي تهيئة البنى التحتية الكفيلة باستثارة الدوافع، وتوفير المبررات النفسية والعقلية المجتمعية، التي هي شروط إنجاح المخططات السياسية المنشوذة.

وإذا حاولنا تشخيص حالتنا الراهنة، والبحث عن الجذور الثقافية الراسخة التي أسهمت في تعقيد المرحلة الإنتقالية وتمديدها، فلابد من لفت النظر إلى أن الأسباب الظاهرة في هذا التشخيص قد تبدو لنا متلبسة بعناصر السياسة وخططها ودهاليزها المظلمة، غير أن الأسباب الخفيّة الفاعلة الفاعلة هي تلك التي تتخلّق داخل منظومة الثقافة وأنساقها، وفي حزمة القيم، وطريقة الفهم، ومنهج التفكير، ومظهر السلوك والفعل.

وهي في الحقيقة، الأكثر تأثيرا في تحديد الظروف والمراحل التي يمرّ بها المجتمع، وفي نوع المصاعب التي يعانيها، لأن منظومة الثقافة تلك إما أن تكون ديناميكية قابلة للإيجابيات مقاومة للسلبيات، وإما أن تكون عكس ذلك خاملة ضعيفة، قابلة للإستجابة السالبة المستثارة فيها بأبسط الضغوط.

وتسليطا للضوء على أكثر العوامل تأثيرا في منظومتنا الثقافية، التي أنتجت لنا هذا الواقع المتأزم، بعد قرابة عقد من اتخاذ قرار التغيير وإزاحة النظام الفاسد، تبرز أمامنا العوامل التالية:

أولا: الإستبداد

لا شك أن الإستبداد قد شوّه نفسية ووجدان الإنسان الليبي، وبنيته الذهنية ومحاكماته العقلية، وذلك عبر عصور طويلة. فلقد عانى شعبنا على مدى تاريخه من الفقر وقلة الموارد، وشحّ الطبيعة وتصحّر البيئة، وتسلط الأغراب، وانفصال الفئة الحاكمة عن عامة الشعب، وتعسّف الدولة المركزية.

وقد أوجد ذلك في النفوس ما يمكننا تسميته بـ “القابلية للإستبداد” (استعارة للمفهوم البنّابي “القابلية للإستعمار”)، حيث أدّت كل تلك العوامل إلى إضعاف المجتمع ونكوصه أمام التحديات، وأدّت إلى تخوفه من العواقب المجهولة، ولا غرابة في هذا، فأمثلتنا الشعبية تزخر بما يشجّع على توخي السلامة، وتجنّب المخاطرة، والإبتعاد عن المشاكل.

أما بالنسبة للعقود الأربعة، أو الخمسة، الإخيرة التي عاصرها جيلي والجيلين من قبلي ومن بعدي، فلقد أناخ الإستبداد بكلكله علينا منذ بداية العقد السابع من القرن الماضي، وتأكد لنا بأنه، كما ذكر الكواكبي، “داء أشد وطأة من الوباء، وأكثر هولا من الحريق، وأعظم تخريبا من السيل، وأذل للنفوس من السؤال” ذلك أن هذا الاستبداد لا ينال من الحكم والسلطة والثروات فحسب، ولكنه يُحدث كذلك تشوهات نفسية وذهنية يصعب علاجها ويطول بقاء تداعياتها.

ولقد كان رأس النظام السابق من الدهاء بحيث أعدّ وخطّط ونفّذ وأشرف على تأسيس ثقافة للإستبداد والقهر والفوضى، التي تُشوه الإنسان في فكره وضميره ووجدانه وأخلاقه، وفي نظرته لذاته وغيره وللعالم والحياة.

حيث أنه لا شكّ قد وضع البرامج المدروسة الممنهجة، والآليات النافذة، الهادفة إلى إعادة تشكيل عقلية الإنسان الليبي، وتشكيل شخصيته في قالب يمكّن المستبد من التحكم في توجيه أفعاله، وفي طريقة تفكيره وأسلوب حياته وأخلاقه وسلوكه.

بل وفي أذواقه وعاداته وحاجاته، ووشائجه التي تربطه بمن حوله! ولم تكن وسائله إلى تحقيق ذلك إلا شعارات سياسية، وخطط اقتصادية وإعلامية، واستراتيجيات إجتماعية ونفسية، استطاعت أن تحدث ما أحدثته من تغيرات ذهنية ونفسية عبر عمليات التدجين والتطويع، وخطط التجويع، وسلب الأملاك والأموال والحريات، وممارسة التخويف والتهديد والسجن والتغييب.

وما عمليات التصفية الجسدية في الداخل والخارج، والإحتفاء بها وعرضها على الشاشات، إلا وسيلة من وسائل إحداث أبشع التشوّهات التي تجعل من شعب مجرد قطيع. حدث كل ذلك فأسهم في تقوية “القابلية للإستبداد”، الكامنة في عقلنا الجمعي.

ولذلك .. فبالرغم من قضائنا على المستبد، ورقصنا على جثته بطريقة ساديّة، معشعشا في تلافيف عقولنا ودهاليز لاوعينا .. حيث أصبحت الضحيّة تتماهى مع جلادها، فتقوم بنفس الممارسات التي كانت ترفضها منه وتدينها، من فساد وإفساد، ومن تآمر وخداع، وانتهاك للقانون.

بل ومن “زحف وتصعيد وتطهير”، بكل ما تحمله من عمليات الخديعة والمكر والتآمر والسطو وافتكاك لحقوق الآخرين. وإن اتخذ كل ذلك في هذه المرحلة مسميات جديدة، مدعومة بكل ما غّرس من شوق دفين لإمتلاك الثروة، وافتكاك السلطة، والإستحواذ على السلاح.

ولا غرابة أن تمتد هذه الممارسات لتشمل ما كان يقوم به الجلاّد من خطف واغتيال للمعارضين، وتصفية للأعداء المخالفين، وتفجير لبيوتهم، الفعلية كمساكن، أو الإعتبارية كسفارات.

وهكذا .. تتلبس روج الجلاّد ضحيتها، وتتبادل معها المهام، وتنقلها إلى نفس موقعها، لتتعامل بنفس منطقها. فإذا استمرأت الضحية الدور وتفوقت على جلاّدها، وإذا تمكنت من جلاّدها نفسه فإنها لت تكتفي بأن تفعل به ما فعل هو بها ..بل تتجاوزه لتفعل بالقاسم المشترك بينهما، الذي هو في هذه الحالة الوطن، مثل ما فعل الجلاّد به … وأكثر!

وفي غمار هذا الوضع المتردّي من الإنحلال الإجتماعي والأخلاقي، تفقد النشاطات الفردية والفعاليات الإجتماعية مبرراتها، “وعندما تفقد الحياة كل معنى، والنشاطات كل قيمة، لا يرى الأفراد تحقيق ذواتهم لا في هذه المهنة ولا في ذلك النشاط، لكن فقط في التوحّد والتماهي مع السلطة، وفي طلب السلطة، وفي الصراع للوصول إلى أعلى قمة فيها.

تصبح السلطة والتسلط هما القيم الوحيدة الممكنة، ويولد لدى كل فرد وفي روحه متسلط صغير” .. وهكذا يُعاد انتاج الإستبداد، ويُصبح ثقافة مترسخة، وبؤرة جامعة لجميع الخصائص السلبية الفردية والجماعية، ويفقد المجتمع مناعته ضد الإندحار والإنهيار.

البقية في الجزء التالي بدءً بـ “سؤال الهوية

***

د. فوزية بريون ـ شاعرة وأديبة وناقدة ليبية. كانت لها عدة كتابات في عدد من الصحف اليومية في الستينيات، مثل جريدة طرابلس الغرب، والرائد، والبلاغ، والمرأة، وليبيا الحديثة، بالإضافة لكتبها عن مالك بن نبي، ولها أبحاث أكاديمية منشورة في دوريات محكمة.

_______________

المصدر: الفصول الأربعة ـ العدد 126 ـ صيف 2020

مواد ذات علاقة