بقلم عزة المقهور

أرى أن من المهم الخوض سريعًا في ما سبق من مسار ديمقراطي وليد كان حلمًا لليبيين حين خاضوا ثلاثة انتخابات عامة على التوالي: «المؤتمر الوطني العام» في 2012، و«الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور» في 2014 و«مجلس النواب الليبي» في 2014.

وكانت كلها تأسيسًا على الإعلان الدستوري وثلاثة قوانين انتخابية وتحت إشراف المفوضية العليا للانتخابات. لكن هذه الخطوات الحثيثة لاقت انتكاسات متعددة كان أشدها في العام 2014 بسبب نزاعات مسلحة وحروب أهلية، لم تعطل المسار الديمقراطي فحسب، بل عمدت إلى تخريبه.

من ناحية أخرى لم يدرك الليبيون حجم التدخلات الخارجية إلا في وقت لاحق، خاصة مع اشتداد النزاع المسلح واصطفاف الدول مع أطراف وجماعات مسلحة ليبية. وهو دور أقرت به الأمم المتحدة من خلال تقارير فريق الخبراء المعني بليبيا استنادًا لقرار مجلس الأمن رقم 1973/ 2011 التي أعدت ثمانية تقارير تبين حجم هذه التدخلات ذات الطبيعة التخريبية أيضًا.

كما أن مؤتمر برلين الأخير اعترف بذلك وسعى إلى أخذ تعهدات من الدول بعدم التدخل. وقد بلغ هذا التدخل التخريبي مبلغًا بأن أصبحت ليبيا مخزنًا لكل أنواع الأسلحة وعرفت سماء بلادنا تجارب جديدة لحرب الطائرات المسيرة، كما أنها عرفت أشكالًا وأنواعًا من المرتزقة تحت بصر العالم.

فقلة عدد سكان ليبيا لا تمنحها القدرة على الحروب والنزاعات.

ناهيك عن تنامي الإرهاب واستيطان «داعش»، وتفاقم أوضاع اللاجئين والمهاجرين في البر والبحر والاتفاقات الدولية التي كبلت ليبيا.

وهكذا أصبحت ليبيا ورقة إقليمية في يد دول عدة بقصد الحصول على مكاسب من ورائها.

وبسبب هوان وضعف الدولة الليبية، والتخريب العمدي للمسار الديمقراطي الوليد، تدخلت الأمم المتحدة من خلال بعثتها وبشكل مباشر في 2014 بتعيين مبعوث جديد أُعطي صلاحيات واسعة.

وبدأت مسارًا مسيَّرًا تحت شعار الحوار السياسي الليبي، الذي بدأ في غدامس بهدف جمع مجلس النواب وإعادة المقاطعين إليه وتفعيل دوره، ليتطور إلى مرحلة أو مراحل أخرى موسعة، بدعوة البعثة الأممية لأطراف متعددة وشخصيات كلها من اختيارها لتتوصل إلى هندسة شكل حكم من صناعتها.

فقامت بخلق وتعيين مجلس رئاسي متعدد الأطراف قراراته بالإجماع على رأس حكومة «توافق» لم يعتمدها مجلس النواب، وسلطة تشريعية ممزقة بين هيئتين مجملها 400 عضو.

وهو اتفاق رغم أن به فصلين يتعلقان بالتدابير الأمنية وإجراءات منح الثقة وهما الأهم في هذا الاتفاق، إذ أنه اتفاق لن تحيا هيئاته ذات الأوزان الثقيلة عددًا ولن تعمل عدة إلا بتوافر حالة أمنية وتوفير الخدمات للمواطن الذي كان يشعر بالخوف والجوع.

لكن هذين الفصلين المهمين لم يُفعَّلا ولم يوضعا موضع التنفيذ وكانا الاختبار الحقيقي للاتفاق السياسي ومؤسساته.

لذا، انحسر اتفاق الصخيرات شيئًا فشيئًا في توزيع السلطات وغرق في الفساد وعجز عجزًا بيِّنًا عن تأمين حاجيات المواطن وازدادت المؤسسات انقسامًا والمعاناة كثافة، واشتدت النزاعات المسلحة والحروب.

كما ازدادت التدخلات الخارجية، وانزوت واختفت المؤسسات المدنية الوطنية ولم يعد للشارع صوت.

وبدأت الدول الأجنبية شيئًا فشيئًا بمواءمة وملاءمة أممية في تشكيل مستقبل ليبيا، دونما مشاركة ليبية فعالة. ذلك أن القيادات الليبية انشغلت بمعاركها واقتسام سلطات البلاد وثرواتها والصراع حولها بشكل مدمر ومستهجن، وقد عجزت عن توفير أبسط مقومات العيش واحتياجات المواطن الليبي المنهك.

وهكذا تصل ليبيا اليوم لمرحلة انتقالية خامسة، فاقدة للمشروعية وجاهزة للتقولب والتشكل كالصلصال بتدخلات أجنبية مباشرة.

ما هو التصور المقبل؟

سأتناول الجانب المتعلق بالمرحلة الانتقالية المقبلة في جانبها السياسي (تصور نظام الحكم) فقط دون غيره من المسارات (الأمني، العسكري، الاقتصادي).

حسبما ورد من مصادر إخبارية ومقابلات إعلامية مع شخصيات عامة مسؤولة، أن المرحلة المقبلة ستتبلور من خلال لجنة للحوار تلتئم في الخارج، هي خليط من ممثلين عن مجلسي النواب والدولة وشخصيات أخرى بدعوة من البعثة الأممية.

ويأتي اجتماعها بعد عديد الاجتماعات التي انعقدت في عواصم عديدة وبعد الوصول إلى مفاهمات فيما بين أعضاء من مجلسي النواب والدولة وشخصيات أخرى. وتتركز هذه المفاهمات على ما يلي:

اتفاق الصخيرات، مخرجات مؤتمر برلين، إعلان القاهرة
والتصور المقبل من خلال ما توافر في وسائل الإعلام قد يكون كما يلي:

1-   تقسيم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم/ مناطق، يمثل كل إقليم أعضاء من مجلسي النواب والدولة (يختارهما المجلسان)، وشخصيات أخرى (من ذات الإقليم) تختارها البعثة الأممية.

2-   المجلس الرئاسي الثلاثي: يختار ممثلو كل إقليم عضوًا لمجلس رئاسي مقبل يتكون من ثلاثة أعضاء عن كل إقليم، يكون الرئيس من بينهم (من غير المعروف آلية اختيار الرئيس).

3-   الحكومة: وتكون مستقلة عن المجلس الرئاسي. يختار كل إقليم نائبًا لرئيس الحكومة. ويسمي المجلس الرئاسي رئيس الحكومة الذي لن يكون من ذات إقليم رئيس المجلس الرئاسي. يختار رئيس الحكومة ونائباه أعضاء الحكومة، وتشكل الوزارات من خلال توزيعها على الأقاليم بما فيها الوزارات السيادية التي يشاع أنها ستكون بالتساوي.

4-   مدة الفترة الانتقالية: 18 شهرًا، يمكن تمديدها إلى ستة أشهر أخرى.

5-   الأنتخابات: توضع خلال هذه الفترة قاعدة دستورية لانتخابات مقبلة وقانون انتخابي.

وهكذا تدخل ليبيا مرحلة انتقالية جديدة أساسها تقسيم مناطقي جهوي، عنوانه المحاصصة، ليخصص الكرسي للمنطقة ثم يعتليه من هو منها. ويجلس الليبيون على طاولة الحوار منقسمين إلى ثلاث مجموعات، هَمّ كل مجموعة أن تختار من يمثل «المنطقة/ الإقليم» ومصالحها، وتختفي المصلحة الليبية العامة التي تكرست منذ تأسيس دولة ليبيا.

تقييم المقترح المتوقع

هذا الرأي بالأساس محاولة للفهم ولإثارة النقاش والاستعداد للمرحلة المقبلة واستيعاب ما سرب عما أعد في بوزنيقة ومنترو والقاهرة، وما قد يعد في الفترة المقبلة، فالعبرة ليست في الحوار ذاته، بل في محاولة للإدراك وتوقع ما قد يحدث والاستعداد للقادم.

ذلك أن ما مرت به بلادنا منذ 2014، وانحراف المسار الديمقراطي الوطني نحو مسار «الاختيار والتعيين» الدولي نيابة عن الليبيين وسياسة فرض الأمر الواقع من خلال قرارات مجلس الأمن الدولي وانتقال الشرعية الديمقراطية الوطنية إلى «الشرعية الدولية» دون غطاء محلي وطني استنادًا للاعتراف الدولي، يجب أن يكون دافعًا لأن نتعلم مما سبق من تجارب وأن نخرج بنتائج ودروس وعبر، وأن نتلافى الأخطاء.

والأهم أن لا نخوض تجارب جديدة مكررة ومغامرات سياسية غير محسوبة النتائج تعتمد على المواءمات والترضيات لننتكس في كل مرة وندخل نفقًا إثر آخر.

لكن المتوقع غير ذلك على ما يبدو، فهو الدخول وبقوة وبشكل مباشر إلى المحاصصة الجهوية التي ستعتمد على المناطقية وتعزز الجهوية والقبلية والنزاع، تكون آليتها شراء الولاءات والاعتماد على مناصرة الخارج وممارسة الضغوط.

ملاحظات

ـ نقطة البداية ليست صائبة

ذلك أنه لا يوجد تشريع ليبي يقسم ليبيا إلى ثلاث مناطق. والتعديل الثالث للإعلان الدستوري نص على «انتخابات» على غرار لجنة الستين في العام 1951، وشتان بين الانتخاب والتعيين، ذلك أن الانتخاب يتأسس على دوائر انتخابية ونظام انتخابي في صلب تشريع انتخابي عماده «المترشح فردًا أو قائمة أو غير ذلك» يستند إلى دستور، أما التعيين حسب المعلن فأساسه المحاصصة المناطقية القائمة على المواءمة السياسية تأسيسًا على وثائق وإعلانات غير وطنية ولا أساس لها دستوريًا.

ـ المقترح يخرج عن المتعارف عليه في أنظمة الحكم

فهو لا يدخل حتى ضمن قواعد النظام الفيدرالي بما في ذلك الذي عرفته ليبيا تاريخيًّا في دستور 1951 قبل تعديله. فالنظام الفيدرالي يقوم على مستويين، الأول مستوى وحدة الدولة وهي الحكومة الفيدرالية والثاني على مستوى الولايات.

وفي النظام المقترح قسمة على مستوى واحد بالمحاصصة فيها خلط بين المستويين، فلا يكون بالتالي إلا نظام محاصصة بحت لا أساس له في أنظمة الحكم المتعارف عليها، بذرة للخلافات وتفتيت لتماسك الدولة ككيان.

ـ هذا التقسيم يفترض التجانس والاتفاق المناطقي وهذا المنطق غير صحيح

فالصراع في ليبيا متعدد، أقله الصراع المناطقي المبسط ذهنيًّا المجزأ إلى ثلاث مناطق، وأشده الصراع الفردي على السلطة والمال والسلاح أو الأيديولوجيا.

فمنطق المناطق الثلاث هو تبسيط وتأجيج للصراع في ذات الوقت، فلا صراع حقيقيًّا بين المناطق الثلاث، بل صراعات في المناطق ذاتها (الجنوب مثالًا)، وتحجيم الصراع بين مناطق ثلاث هو في حقيقة الأمر فتح جبهة صراع جديدة.

وتوقع الوصول إلى اتفاق تأسيسًا على المنطقة تصور غير واقعي ولا عقلاني. بل إن هناك تقاربًا بين مدن في الأقاليم الثلاثة أقرب من مدن في ذات الإقليم. كما أنه من المستغرب اتفاق أعضاء مجلسي النواب والدولة لمجرد أنهم من ذات الإقليم على أعضاء السلطة التنفيذية وهم من رفضوا الاتفاق فيما بينهم منذ العام 2016.

ـ فكرة المتلازمة الثلاثية

مجلس رئاسي ثلاثي/ رئاسة حكومة من رئيس ونائبين/ الوزراء ووكلاؤهم، هي تكبيل للعمل التنفيذي وزرع الشقاق والأزمات القانونية الإدارية.

ـ احتمال أن تؤدي هذه المحاصصة إلى تنافر وخلاف ما بين الأعضاء

بل هو حتمي خاصة إذا لم تراعَ النقاط المبينة أدناه (مشاركة أطراف الصراع الحالي/ مخالفة مبدأ تعارض المصالح)، فانقاص عدد المجلس الرئاسي من 6 إلى 3 لن يكون فعالًا ذلك أنه يظل مجلسًا متعدد الأطراف.

كما أن رئيس الحكومة الذي لا يختار نائبيه ولا أعضاء حكومته سيجعل من الحكومة ضعيفة.

زد على ذلك أن ولاء الوزارات سيكون للإقليم ولعضو الرئاسي الذي يمثل الإقليم ولن يكون للمجلس الرئاسي بأكمله.

وهكذا بدلًا عن أن يكون المجلس الرئاسي رمزًا لوحدة البلاد وسيادتها سيتحول إلى مجلس للإقاليم ولمصالحها وسيتبع الوزراء الممثلين للإقليم عضو الإقليم بالمجلس الرئاسي ليتسع الصراع ويصبح أفقيًّا ورأسيًّا وهذا أسوأ مما عليه الآن.

وبهذا تصبح التبعية انشطارية وليست رأسية وستفتقد الحكومة إدارة فعالة مما سيضعف رئيس الحكومة والحكومة ذاتها وتدخل السلطة التنفيذية في صراعات جهوية بينها.

ـ من غير الواضح دور كل من مجلس النواب والدولة في المرحلة الانتقالية المقبلة وعلاقتهما بالمجلس الرئاسي الجديد والحكومة.

إن المدة المقررة 18 شهرًا لا تحتاج لهذا العدد من المؤسسات التي شهدت صراعًا فيما بينها وداخلها وعدم فعالية. والحكومة المقبلة حتمًّا ستشكل مؤسسة إضافية لما هو قائم.

ـ سيكون من الخطأ المكرر أن يكون من بين أعضاء الحوار من لديه هدف في تولي منصب تنفيذي

وهذا ما حدث للأسف في حوار الصخيرات. هذا لو حدث سيكون فسادًا بواحًا يقوم على مبدأ «تعارض المصالح».
يتعين على من يشارك في لجنة الحوار المقبل، وهي بمثابة هيئة تأسيسية لمرحلة انتقالية جديدة أن لا يتولى أي منصب تنفيذي أو سيادي أو إداري رفيع في هذه المرحلة، وأن لا يترشح للانتخابات المقبلة.

ـ على من يتولى المجلس الرئاسي أو الحكومة في الفترة الانتقالية المقبلة أن لا يترشح لدورتين انتخابيتين مقبلتين

ذلك حتى لا يستغل منصبه ونفوذه في التمهيد لحملة انتخابية مقبلة أو يؤثر في التشريعات الانتخابية المقبلة والعملية الانتخابية.

ـ أنه لا يجوز لأعضاء مجلسي النواب والدولة والمجلس الرئاسي الحاليين تولي السلطة التنفيذية أو المناصب السيادية أو الإدارية رفيعة المستوى في المرحلة الانتقالية المقبلة

تأسيسًا على مبدأ تعارض المصالح، خاصة أنهم جزء من المفاهمات والمفاوضات، كما أنهم تجاوزوا في حكم المدد المنصوص عليها في صكوك تأسيسهم، إضافة إلى أنهم أصحاب نفوذ.

فلا يعقل أن يتفاوض ممثل الدولة لمصلحته وأن يستغل مكانته واقترابه من مراكز القرار للحصول على منصب دون منافسة شريفة وحقيقية تؤهله لذلك.

ـ إن في تولي هؤلاء المشار إليهم في الفقرة السابقة أية مناصب في الفترة الانتقالية المقبلة ما سيعيق المصالحة الوطنية المطلوبة

ذلك أنهم جزء من الصراع، ولعدم التزامهم بالمسار الديمقراطي من حيث تجاوز مدة ولايتهم وعدم تسليم بعضهم للسلطة، ولفشلهم في إدارة مؤسساتهم وانقسامها وفي إدارة البلاد ورفع المعاناة عن المواطن.

كما أن في استمرارهم ما يشكل عقبة للكشف عن الفساد المستشري المعترف به من خلال تقارير رسمية وطنية ودولية.

علينا الاعتراف بأن الصورة المقبلة غائمة وغير واضحة، خاصة أننا لا نعلم بوضوح ما يجري من مفاهمات وترتيبات، إلا أنه من الواضح أن الشعب الليبي وحتى من يعلن عن أنهم قد يكونوا جزءًا من الحوار المقبل مغيبين عما يجري، وأن دورهم قد يكون ضعيفًا لأنه سيكون في الحلقة الختامية دون مشاركة فعالة في الترتيبات التي تجرى للحوار ودون علم بتفاصيلها.

لذا فإن هذا المقال لا يعدو أن يكون محاولة للفهم وفتح باب النقاش وتوقع ما قد يحدث والاستعداد له وتلافي تكرار الأخطاء.

***

عزة كامل المقهور ـ تخرجت من كلية الحقوق جامعة بنغازي في عام 1985، ثم تحصلت على درجة الماجستير في القانون الدولي والمنظمات الدولية من جامعة السربون بباريس عام 1988.

___________

مواد ذات علاقة