تتواصل اجتماعات وفدي مجلس الدولة (غرب) وبرلمان طبرق (شرق) في مدينة بوزنيقة المغربية بغرض وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق سياسي جديد ينهي الصراع المسلح في ليبيا، تزامناً مع تحركات إقليمية ودولية مكثفة لتحقيق نفس الغرض، بينما يواصل خليفة حفتر حشد ميليشياته وكأنه يستعد لمعركة جديدة، فهل يتكرر ما حدث في إبريل/نيسان من العام الماضي؟

درس العدوان على طرابلس

في خضم الجهود الدبلوماسية المكثفة حالياً والتي تهدف إلى التوصل لاتفاق سياسي يحافظ على وحدة ليبيا وإنهاء النزاع المسلح، لا يجب أن ينسى الجميع دروس الماضي القريب، ففي ظروف مشابهة فوجئ الجميع داخل ليبيا وخارجها بشن خليفة حفتر عدوانه على طرابلس مطلع أبريل/نيسان من العام الماضي 2019، وهو ما أدى لحرب كارثية استمرت حتى يونيو/حزيران الماضي ولم تنتهِ إلا بهزيمة الجنرال وميليشياته وانسحابه إلى معقله في بنغازي شرق ليبيا.

ومن المهم هنا تذكر أنه في الوقت الذي أعلن فيه حفتر هجومه على العاصمة كان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش موجوداً بالفعل في طرابلس للتحضير للمؤتمر الوطني الليبي العام والذي كان يفترض فيه الاستقرار على إقرار الدستور الدائم للبلاد وإجراء انتخابات عامة، بناء على اتفاق الصخيرات الذي تم توقيعه في المدينة المغربية التي تحمل اسمه نهاية عام 2015 وكان حفتر نفسه أحد الموقعين عليه.

وغادر غوتيريش طرابلس إلى بنغازي والتقى حفتر محاولاً إقناعه بوقف هجومه على العاصمة والعودة للمسار السياسي دون جدوى، وغادر الأمين العام “مفطور القلب”، واستمر عدوان حفتر الذي تحكمه أوهام السيطرة العسكرية على كامل التراب الليبي وفرض الحكم الديكتاتوري، مدعوماً من مصر والإمارات وفرنسا وروسيا ولكل منها أسبابها ودوافعها.

ومع نجاح القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً والمدعومة من تركيا في التصدي لهجوم حفتر وحصاره لطرابلس ومن ثم تحقيق انتصارات متتالية بعد أكثر من عام على الحصار ومطاردة ميليشيات حفتر وإجبارها على التراجع نحو الشرق، عادت الجهود الدبلوماسية مرة أخرى وتم إعلان وقف إطلاق النار في أغسطس/آب الماضي عن طريق فايز السراج رئيس حكومة الوفاق وعقيلة صالح رئيس برلمان طبرق الداعم لحفتر، وبدأت مسارات البحث عن توافق سياسي في بوزنيقة بدعم من الأمم المتحدة والقوى الإقليمية والدولية، لكن حفتر ظل رافضاً لوقف إطلاق النار.

شهر الحسم السياسي

ويبدو أن أكتوبر/تشرين الأول الجاري يوشك أن يشهد دخول ليبيا إلى مرحلة حاسمة لحل أزمتها المتشعبة، بالنظر إلى حدثين مهمين، الأول هو احتمال تسليم السراج رئيس المجلس الرئاسي السلطة التنفيذية لقيادة جديدة، والثاني هو انتهاء مهمة ستيفاني وليامز، الرئيسة بالإنابة لبعثة الأمم المتحدة في البلد العربي الغني بالنفط.

وبين هذين الحدثين، يعج أكتوبر بمبادرات تجمع أطراف الأزمة الليبية، على غرار الجولة الثانية الراهنة من مشاورات مدينة بوزنيقة المغربية، التي من المنتظر أن تحسم مسألة التعيينات في المناصب السيادية السبعة، رغم الجدل بشأن إصرار أنصار حفتر على الاستئثار بمنصب محافظ البنك المركزي، بحسب وكالة الأناضول.

كما يُعقد ما يمكن تسميته “مؤتمر برلين 2” عبر التواصل المرئي اليوم الإثنين 5 أكتوبر/تشرين الأول برعاية ألمانيا والأمم المتحدة، وبمشاركة وزراء وممثلين عن الدول والمنظمات الدولية والإقليمية نفسها التي حضرت مؤتمر برلين، في 19 يناير/كانون الثاني الماضي، بهدف تثبيت وقف إطلاق النار القائم منذ 21 أغسطس/آب الماضي.

ولـ”أسباب لوجيستية”، بينها استخراج تأشيرات الدخول، فإن اجتماع لجنة الحوار السياسي، المزمع عقده في جنيف منتصف الشهر الجاري، قد يُعقد في جزيرة جربة التونسية، برعاية الأمم المتحدة، وبمشاركة أطراف من غربي وشرقي ليبيا، ومن المنتظر أن يحسم هذا الاجتماع قضية اختيار خليفة للسراج، بالإضافة إلى نائبي رئيس المجلس الرئاسي ورئيس الحكومة.

أجواء تدعو للقلق

وتحاول مصر أن تلعب دوراً في تشكيل المشهد الجديد في جارتها الغربية ليبيا، عبر احتضانها محادثات عسكرية ليبية لضباط من المنطقتين الشرقية والغربية، نهاية سبتمبر/أيلول الجاري، والتي تمهد لعقد اجتماع لجنة 5+5 العسكرية في جنيف.

لكن مشاورات بوزنيقة تجري في أجواء مشحونة وملغومة، خاصة بعد رفض مجلس النواب في العاصمة طرابلس تهميشه في هذه المحادثات، رغم أنه يضم أغلبية النواب (أكثر من 80 نائباً من إجمالي 188)، مقارنة بمجلس النواب في مدينة طبرق (شرق)، برئاسة عقيلة صالح (نحو 26 نائباً)، والموالي لحفتر، وفضل المجلس الأعلى للدولة الليبي (نيابي استشاري مقره طرابلس) إرسال وفد إلى المغرب، للتشاور مع وفد من برلمان طبرق، من دون أن يكون لبرلمان طرابلس أي دور مباشر في المحادثات.

كما عبر قادة عسكريون كبار تابعون للحكومة الليبية الشرعية عن رفضهم لما وصفوه بتقاسم المناصب بين برلمان طبرق والمجلس الأعلى للدولة، وانتقدت غرفة عمليات سرت-الجفرة العسكرية المشاورات بشأن ما سمته تقاسم المناصب، وأصرت على أن “تبقى طرابلس عاصمة لليبيا”، بدلاً من نقل مقرات السيادة مؤقتاً إلى مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس)، كما رفضت “الحكومات الانتقالية”، ودعت إلى الاستفتاء على الدستور وتنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية مباشرة.

وتدعو أطراف نافذة في الغرب الليبي إلى إنهاء المراحل الانتقالية، التي يدعو إليها عقيلة صالح، ومن بين هذه الأطراف السراج، إذ سبق أن دعا إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية في مارس/آذار 2021، لكنه رضخ للأمر الواقع الذي يسعى عقيلة لفرضه على الجميع، من خلال تقاسم المناصب السيادية على أساس مناطقي.

وكذلك الأمر بالنسبة لخالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة، حيث كان أكثر المتحمسين لتنظيم استفتاء على الدستور في أقرب وقت، لكنه تنازل للتمسك بآخر أمل لتحقيق السلام، لكن القيادات العسكرية في المنطقة الغربية ترفض التنازل لرئيس برلمان طبرق، الذي “لا يملك سلطة على الأرض، وإنما يملكها حفتر”، على حد قول وزير الدفاع الليبي، صلاح الدين النمروش.

ويسعى عقيلة إلى اقتسام السلطة مع الغرب باسم المنطقتين الشرقية والغربية، من دون أن يملك ما يمكن أن يقدمه لقادة المنطقة الغربية وللاستقرار في البلاد، فحفتر مسيطر بالكامل على إقليم برقة (شرق) وبدرجة أقل على إقليم فزان (جنوب)، وميليشياته لا تستمع لأوامر عقيلة، سواء تلك المتعلقة بوقف إطلاق النار أو إنهاء إغلاق حقول وموانئ النفط.

كما أن كثرة المبادرات قد تؤدي إلى تصادمها، مثلما هو الأمر بالنسبة لمشاورات جنيف التي تقودها الأمم المتحدة لاختيار مجلس رئاسي جديد ورئيس حكومة، والتي تتقاطع مع مشاورات بوزنيقة، التي لا تعد المنظمة الدولية طرفاً فيها، ما يعني أن كلاً منهما تشوش على الأخرى، فضلاً عن تنافس بين دول شمال إفريقيا (المغرب ومصر والجزائر وتونس) لاحتضان المشاورات الرئيسية لحل الأزمة الليبية.

تحركات “مشبوهة” لميليشيات حفتر

في ظل هذا الزخم الدولي الذي يحاول التوصل إلى اتفاق جديد، بديل عن اتفاق الصخيرات الموقع في 17 ديسمبر/كانون الأول 2015، حذر الجيش الليبي من تحركات “مشبوهة جدا” لمليشيات حفتر في سرت (250 كلم شرق مصراتة) وجنوب بلدة الشويرف (400 كلم جنوب طرابلس).

وتحدث مدير إدارة التوجية المعنوي في الجيش الليبي، ناصر القايد، عن طائرة روسية تحمل مرتزقة سوريين تابعين لنظام بشار الأسد، هبطت في مطار القرضابية (بسرت)، وأضاف أن مرتزقة من “الجنجويد” السودانيين وآخرين تابعين لشركة “فاغنر” الروسية يتحركون، بقيادة المبروك السحبان، نحو الشويرف (الخاصرة الجنوبية لإقليم طرابلس)، فيما أجرى الجيش الليبي مناورات عسكرية بالدبابات والذخائر الحية، استعدادا لأي هجوم محتمل لمليشيات حفتر.

ما أشبه اليوم بالبارحة

هذا الوضع على الأرض يعيد للأذهان ما حدث العام الماضي عندما كانت الأمم المتحدة تحضر لعقد مؤتمر حوار جامع لليبيين، في 14 أبريل/نيسان من ذلك العام، وقبل 10 أيام من هذا التاريخ هاجمت مليشيات حفتر العاصمة طرابلس (غرب)، مقر الحكومة، بشكل مباغت، ما نسف شهورا من التحضيرات الأممية لهذا المؤتمر.

لذلك فإنه من غير المستبعد أن يُقدم حفتر على مغامرة جديدة لاستهداف مصراتة (200 كلم شرق طرابلس) من الغرب، والعاصمة من الجنوب، خاصة وأن الدعم العسكري الأجنبي له بالأسلحة والمرتزقة لم يتوقف منذ هزيمته بطرابلس، في يونيو/حزيران الماضي، بحسب مراقبين للوضع.

وربما يكون حفتر اقترب من استكمال تحشيداته لبدء هجوم جديد، خاصة وأن أغلب القادة السياسيين والعسكريين في المنطقة الغربية يرفضون أي دور مستقبلي له في قيادة البلاد بعدما أجهض كل فرص السلام وارتكب الكثير من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

لذلك قد لا يملك حفتر خيارات كثيرة للبقاء في المشهد السياسي إلا عبر إشعال حرب جديدة، لتجنب إنهاء دوره في ليبيا بجرة قلم.. فهل يملك المجتمع الدولي القدرة والرغبة في ردعه؟

___________

مواد ذات علاقة