بقلم: علية العلاني

تتسم العلاقات بين الجنوب الليبي وتشاد والنيجر بالتعاون المتبادل. كما تتأثر بالصراعات التي تحْدُث داخل هذه البلدان الثلاثة، وكان الجنوب الليبي يمثل أحيانا ملجأ لحركات المعارضة التشادية سواء قبل 2011 أو بعدها بالخصوص.

الجزء الأول

هناك جالية عربية قديمة في تشاد تقدر بـ 12.3 % من مجموع سكان تشاد البالغ عددهم 6.2 مليون نسمة، كما تُعدّ الجالية الليبية في النيجر من أكبر الجاليات العربية الليبية الموجودة في الخارج بعد تشاد، بأكثر من 6000 ليبي منذ سبعينات القرن 20.

وكانت العلاقات بين القبائل داخل هذه البلدان الثلاثة متينة تقوم على التبادل الاقتصادي والمصاهرة، فمن هي هذه القبائل وكيف يتم التداخل بينها والتنقل، خاصة وأن التبادل الاقتصادي يتم في جزء هام منه عن طريق التهريب بمختلف أشكاله سواء قبل 2011 أو بعده.

فما هو نشاط المعارضات التشادية والنيجرية على أراضي الجنوب الليبي؟

أولا: الحدود الجنوبية الليبية مع تشاد والنيجر والقبائل المسيطرة عليها

تتسم الدول الثلاث ليبيا وتشاد والنيجر باتساع مساحتها الجغرافية (أكثر من 4 ملايين كلم مربع مجتمعة وتحديدا 4,31 مليون كيلومتر مربع). ويمكن القول أن جنوب ليبيا شهد أيضا صراعات كبيرة بين القبائل التي تنقسم إلى عربية تمثلها قبيلة الزوية، وأخرى تنحدر من أصول إفريقية مثل «التبو» و «أولاد سليمان» التي تعد أكبر القبائل بجنوب البلاد، وتنتشر بشكل كبير في مدينة سبها بعاصمة الجنوب الليبي. وهناك أيضا قبيلة الطوارق ذات الأغلبية الأمازيغية، التي تشكو من التهميش خلال العقود الماضية.

نشير كذلك إلى أن «التبو» يقطنون بالجنوب الليبي خاصة « في القطرون وتجرْهي وفي واحة الكُفْرة، وتعتبر تازربو عاصمة مملكتهم في القديم وهي مشتقة من قبيلة تازر التباوية ويوجد التبو في تشاد وكذلك في النيجر ولهم اتفاقيات مع الطوارق».

والملاحظ أن قبائل أولاد سليمان وقبائل أخرى بالجنوب الليبي لها امتداد في تشاد يعود إلى قرابة القرنين وتحديدا منذ سنة 1842 وتوجد خاصة في إقليم بوركو وإنيدي وتيبستي وفي محافظة كانم شمال بحيرة تشاد6 وجنوب شرقي البلاد، وفي العاصمة انجامينا، وهو ما يعني تمركزهم في محافظات: السلامات، البطحة، شاري باقرمي، واداي ، بوركو، تيبستي ، قيرا، البحيرة، لوقون، شاري الأوسط، ويقل تركيزهم كلما اتجهنا نحو أقصى الغرب وأقصى الجنوب.

أما بالنسبة للجالية الليبية بالنيجر فتوجد بالخصوص في الشرق والشمال الشرقي بالنيجر من منطقتي انقيرطي، وانقيقني، وتعد قبيلة المحاميد من أشهر القبائل الليبية التي تستوطن في أرض النيجر منذ أكثر من 160 عاما. وتعود العلاقات الاقتصادية بين هذه القبائل إلى العهد العثماني.

والمعلوم أن الاستثمارات الليبية في النيجر وتشاد كانت مكثفة في عهد القذافي وذلك لأسباب سياسية وأمنية. ورغم كثافة هذه الاستثمارات بقي نصيب الفرد من الناتج القومي الخام ضعيفا يُقدّر بنحو 180 دولارا للفرد في العام في تشاد ونحو 310 دولارا في النيجر.

ويعود ذلك لسوء الحوكمة من طرف أنظمة الحكم حسب بعض الباحثين، ونشير إلى أن تشاد ترتبط بالمنطقة الفرنكفونية بقيادة فرنسا في حين تنخرط النيجر في منظمة الكومنولث بقيادة بريطانيا.

وانطلاقا من ضعف الأوضاع الاقتصادية وضعف نسبة الدخل الفردي لسكان النيجر وتشاد، كان نشاط التهريب هو الحل البديل لسكان المناطق الحدودية مع الجنوب الليبي بالخصوص والذي وُجد منذ عدة عقود. وازداد هذا النشاط بعد سقوط نظام القذافي.

ثاينا:طرق وآليات التهريب من الجنوب الليبي إلى النيجر وتشاد

يمكن تحديد طريق التهريب في الصحراء الليبية بأنه يوجد على امتداد 600 كلم ( 400 ميل) من الحدود بين ليبيا والنيجر إلى بلدة سبْها عبر قلب الجنوب الليبي المعروف بطريق القذافي. وبعد سقوط حكم القذافي في ليبيا في 2011 أصبح مكانا للتهريب بامتياز لانتفاء الحراسة التي كانت موجودة في السابق.

يشمل التهريب السلاح بمختلف أحجامه الخفيف والمتوسط وحتى الثقيل بشكل أقل، ويشمل كذلك الأموال وهذا يُحيلنا إلى مسألة تبييض الأموال وعلاقتها أحيانا ببعض العمليات الإرهابية، ويشمل التهريب أيضا الوقود الليبي الذي تحتكر تهريبه عائلات معينة.

ويكاد يُجمع الباحثون أن ملايين القطع من السلاح التي تم تهريبها سواء من ترسانة القذافي أومن سلاح دخل ليبيا بعد 2011، خلقت شرائح وفئات جديدة من الأغنياء والمضاربين وساهمت في عسكرة البلاد وانتشار ما يُشبه ظاهرة أمراء الحرب، وهو ما يوفر أموالا طائلة لبارونات التهريب.

وقد أُوكلت حراسة الحدود لعناصر أمنية من قبيلة التبو لكنها مع امتداد المساحة لم تكن قادرة على ضبط الأمن ومراقبة نشاط المُهرّبين بهذه المنطقة، بالإضافة إلى قلة خبرتها في مجال مكافحة التهريب.

وشكلت تجارة تهريب البشر موردا هاما للعديد من المهربين حيث يكثر عدد الشاحنات التي تحمل مهاجرين يحلمون بالهجرة إلى أوروبا والذين يأتون من عدة مناطق فقيرة من إفريقيا وخاصة النيجر التي تقع على حدودها، وتُعدّ من البلدان الأشد فقرا في إفريقيا.

ويأتي هؤلاء المهاجرون ومعظمهم من الشباب في سنّ العشرينات من غانا وغيرها للعمل إما في ليبيا وهم يشكلون أقلية، أو الهجرة إلى أوروبا وهم الأغلبية. وتدر عملية الاتجار بالبشر أو الهجرة غير الشرعية مبالغ هامة على المهربين.

وعلى سبيل المثال تتحدث بعض الدراسات عن أن «مهاجري النيجر ومالي وبوركينا فاسو يتجمعون في مدينة أغاديس في شمال النيجر، ومن ثم يقوم مهربون من الطوارق والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بتهريبهم في رحلة طويلة ومتعبة إلى مدن الجنوب الليبي القطرون وأم الأرانب.

ويُجبر المهاجر الواحد على دفع ما بين 150 و300 دولار أمريكي مقابل ترحيله حتى أماكن العبور في الغرب الليبي نحو أوروبا، وتتداخل عدة أطراف في التهجير من بينها تنظيم أنصار الشريعة.

ونشير إلى أن العناصر الأمنية المكلفة بالتصدي للمهاجرين يغضون الطرف في كثير من الأحيان عن إيقاف المهربين لأن مراكز الإيقاف تفتقر للعديد من التجهيزات والإمكانيات المادية. كما أنه لا توجد اعتمادات حكومية أو مساعدات أوروبية كافية لمراقبة تدفّق المهاجرين من الجنوب الليبي، يضاف إلى ذلك انقسام البلاد إلى حكومتين متنافستين في الشرق الليبي وغربه.

وكثيرا ما كانت شاحنات التهريب تسلك طرقا ملتوية ووعرة هروبا من نقاط التفتيش كما يفعل عادة المهربون في العديد من البلدان. ويذكر بعض الباحثين أن « مراكز الحجز في جنوب ليبيا والتي بُني كل واحد منها في الأصل ليتّسع لمئات اللاجئين فارغة في الوقت الراهن.

وتنحدر الغالبية العظمى من المهربين من قبائل التبو. ويبرر هؤلاء نشاطهم بانعدام الآفاق الاقتصادية وضعف التنمية بمناطقهم ويعتبرون أن منطقتهم مهمشة منذ عهد القذافي، وتواصل تهميشُهم بعد ثورة فبراير 2011 ويجدون في التهريب تقريبا فرصتهم الوحيدة في توفير مورد رزق لهم. وتتحدث بعض الدراسات، ربما بنوع من المبالغة، عن نية التبو إقامة سلطنة لهم.

وبالإضافة إلى تهريب البشر يشتغل المهربون ومعظمهم من عشيرتي ورفلة والقذاذفة في تهريب البضائع من مواد غذائية وملابس ومفروشات وكراسي وعربات يدوية ودراجات إلخ. وهي المواد التي يحتاجها سكان النيجر وتشاد.

ويعتبر هؤلاء المهربون أن منطقتهم الصحراوية عبارة عن بلاد قائمة الذات. ويورد الباحثان طوم وستكوت حديثا لأحد المهربين يقول فيه: « بلادنا ( يقصد الصحراء) هي مثلث يمتد عبر ليبيا والنيجر وتشاد، منذ ولادتنا نعتبر أن هذه البلدان الثلاثة هي موطننا ولطالما عبرنا الصحراء على امتداد ثلاثين عاما تقريبا من سبها إلى النيجر إلى تشاد».

ويعتبر قادة التبو أن تهريب الأشخاص والمخدرات يشكل خطورة على الجميع، ويلحون على ضرورة تدخّل الحكومة المحلية وضخ مساعدات دولية لتوفير كل مستلزمات الرقابة على الحدود من أسلحة وذخائر وبنزين، ويشتكي قادة التبو أيضا من توقف الرواتب منذ فترة، ويقول أحد العناصر الأمنية على الحدود:« النفط موجود تحت الأرض تحت أقدامنا، لكننا لا نملك كمية كافية من البنزين للقيام بعملنا… سنبقى هنا ونفعل كل ما بوسعنا لحماية بلادنا حتى لو ظلت البلاد من دون حكومة طوال مائة عام. سنبقى هنا، نحن مستعدون للموت من أجل ليبيا».

ونشير أن رئيس المجلس الأعلى لقبائل الطوارق مولاي قديدي صرّح في نهاية 2018 « أن الجنوب الليبي يشهد هجرة غير شرعية، لأعداد مهولة، بسبب عدم انضباط الحدود، فلا رقيب عليها، والأجهزةُ المكلفة بحمايتها لا تؤدي دورها في الشكل الأمثل، وأصبحت المجموعات الأجنبية المسلحة هي التي تتحكم في الحدود وتدير الهجرة غير الشرعية للأراضي الليبية. وربما تكون البطالة دفعت قليلا من أبناء الطوارق والقبائل إلى العمل في الهجرة غير الشرعية، فليس لديهم خيار سوى الأعمال غير المشروعة أو الموت، لذلك فإن تواجُد الدولة بخدماتها الأمنية والاجتماعية سيحمي ليبيا من مخاطر الهجرة غير الشرعية التي تتم عبر الجنوب».

ويمكن القول أن الجنوب الليبي، زيادة على احتضانه نشاط التهريب، فإنه يأوي كذلك نشاط العديد من حركات المعارضة التشادية والنيجرية التي تتخذ هذه المنطقة لتنفيذ عملياتها المسلحة ضد السلطة الحاكمة في البلدين.

_____________

مواد ذات علاقة