بقلم أنيس العرقوبي

منذ ثورة فبراير/شباط 2011، لم تعرف ليبيا إلى حد الآن طريقًا نحو تسوية سياسية سلمية تقطع مع حالة الفوضى وانعدام الاستقرار والأمن.

الجزء الثاني

ظاهرة اختطاف الأطفال جريمة يُعاني منها أغلب البلدان في العالم نظرًا لتزايدها من جهة وتعدد أسبابها وكذلك لاختلاف أنماطها وطرقها من جهة أخرى، لكن تحولها من جريمة بسيطة إلى شبكة معقدة تنشط فيها مافيا دولية عابرة للحدود، يُشكل إشكالًا حقيقيًا لحكومة الوفاق وهاجسًا يؤرق العائلات الليبية في الشرق كما في الغرب.

الاختطاف يعد خرقًا واضحًا لحقوق الطفل الأساسية المتعارف عليها كحقه في الحياة والكرامة، غير أنه في ليبيا يُعد أسلوب حرب تنتهجه المليشيات المسلحة (قوات حفتر) لأغراض متعددة منها ترهيب الأهالي وتركيعهم والضغط عليهم مقابل تنازلات إما سياسية وإما لغرض المال من خلال طلب فدية لإطلاق سراح أبنائهم كما حصل في درنة وغيرها من المناطق.

لذلك غدت عمليات الاختطاف جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للسكان في ليبيا، ويتفق الكثيرون على اعتبارها إحدى أشد المعضلات المروعة التي تترك بصمتها على المواطن الليبي اليوم، فمنذ العام 2014، زادت بصورة حادة أعداد حالات اختطاف ولا يزال مئات الأشخاص في عداد المفقودين.

ولتقريب الصورة أكثر، فإن عملية اختطاف وقتل أبناء رجل الأعمال رياض الشرشاري الثلاث من عصابة مسلحة طالبت بفدية تُقدر بـ15 مليون دولار، تعد الواقعة التي هزت كامل البلاد ببشاعتها وأحدثت صدمة حقيقية لدى الشارع حركت بدورها الرأي العام لإطلاق صيحة فزع تجاه هذه الظاهرة.

وتتصدر ليبيا قائمة الدول الإفريقية التي تشهد تزايدًا كبيرًا في حالات الاختفاء القسري خلال العام الماضي، إذ أعلنت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين في لاهاي، أن العدد الحقيقي للمفقودين في ليبيا بلغ 10 آلاف ويشمل هذا الرقم المتخفين منذ العام 2011 دون الحصول على أي معلومات عنهم.

أزمة الصحة

لا شك أن النزاع المسلح في ليبيا أثر سلبًا على نظام الرعاية الصحية الذي أوشك على الانهيار، حيث تشهد المستشفيات في جميع أنحاء البلاد اكتظاظًا كبيرًا وتدنيًا في مستوى الخدمات، إضافة إلى النقص الفادح في الأدوية واللقاحات المخصصة للأطفال وكذلك المعدات الطبية والأجهزة، والانقطاع المستمر للكهرباء، ووفقًا لوكالات مختلفة تابعة للأمم المتحدة يحتاج ما يقدر بـ1.9 مليون شخص إلى مساعدة إنسانية عاجلة لتلبية احتيجات رعايتهم الصحية الأساسية.

وبحسب المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك فإن “استهداف المستشفيات والمرافق الطبية الأخرى وقطع الكهرباء وإمدادات الوقود والمياه عن عمد هي انتهاكات للقانون الإنساني الدولي ويمكن أن ترقى إلى جرائم الحرب”.

أمراض نفسية

للحروب تأثيرات مدمرة على الحالة النفسية للأطفال ويمكن أن تظهر عليهم علامات اضطرابات نفسية مبكرة كما يمكنها أن تتأخر أو أن تخبو وتطفو حسب بيئة العينة والخدمات المقدمة إليها (علاج نفسي ودعم اجتماعي) لامتصاص الصدمات، لكن المتفق عليه أن إهمال الآثار النفسية للحروب والاحتياجات النفسية لضحاياها له تأثير عميق وطويل المدى على الأشخاص وأسرهم وبطبيعة الحال على مجتمعاتهم في وقت لاحق.

من هذه الزاوية، تقول ممثلة منظمة الصحة العالمية إليزابيث إنه من المحتمل أن يحتاج واحد من كل سبعة ليبيين، أي أكثر من مليون شخص، إلى رعاية صحية نفسية لحالات مثل الاكتئاب والاضطراب الثنائي القطب واضطراب ما بعد الصدمة والقلق والفصام، مؤكدة أنه رغم تزايد وتيرة الأمراض النفسية، لا يوجد سوى متخصص واحد في الصحة العقلية لكل 300 ألف شخص في ليبيا، وهناك خمس مدن فقط – أقل من 12% من مدن البلاد – تقدم خدمات الصحة العقلية.

ويُمكن تحديد أنواع المشمولين بالعلاج النفسي والمتابعة الاجتماعية الضرورية كالآتي:

  • المصابون بإعاقة جسدية (بتر أطراف) خلال رحلة تأقلمهم مع الحياة بشكلها الجديد.
  • المحتجزون والمعرضون للتعذيب والمعاملة السيئة.
  • الناجون من حوادث العنف الجنسي.
  • العائدون لأسرهم بعد عمليات اختطاف وإخفاء قسري.
  • الأطفال الذين شهدوا وقائع مقتل عائلاتهم وبالأخص (الأب والأم).
  • عائلات المفقودين الذين يمرون بقدر كبير من القلق بشأن أحبائهم.

تعليم تحت القصف

يبدو أن التعليم في ليبيا لم يشف من علاته التاريخية ومن استغلال النظام السابق لهذا القطاع كبروباغندا للتأثير الجماهيري من خلال استبداله بعض الحصص بالدروس العسكرية وتحويله حصة الرياضة إلى ساعات لتعليم التراص والمشية العسكرية، وأن ثورة فبراير التي لم تكتمل لم تؤسس إلى نهضة علمية حقيقية بل بالعكس أثبت الاستهداف المباشر والمتواصل للمدارس، أن التعليم آخر اهتمامات بعض الساعين للسلطة بقوة البندقية وأنه نقطة ضعف باستهدافها يلين المنافس.

وتتعمد قوات حفتر استهداف المدارس والمؤسسات التربوية لغايات متعددة منها كسر شوكة قوات الحكومة المعترف بها دوليًا وتأليب الرأي العام المحلي وإجبارها على الرضوخ للأصوات المنادية بتجنيب العاصمة الدمار القادم من الشرق بتسليم السلطة للواء المتقاعد، مستعينة في ذلك بدعم إعلام الثورة المضادة الذي تقوده بعض الدول العربية على رأسها الإمارات ومصر بتطويع الأحداث وإلصاق تهم قصف المدارس إلى قوات السراج.

جل التقارير إن لم نقل أغلبها أكدت أن الحرب الدائرة أضرت بدرجة كبيرة قطاع التعليم في ليبيا، حيث أشارت منظمة السلام العالمي إلى أن قرابة 200 ألف طفل ليبي حُرموا من التعليم بسبب هجوم قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر على العاصمة طرابلس.

وأوضح تقرير أصدرته المنظمة في الغرض أن أطفال ليبيا يعيشون أوضاعًا مأساوية، فيما قال المدير الإقليمي لمنظمة اليونيسف في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، جيرت كابيلير، إن 260 ألف تلميذ اضطروا إلى مغادرة 480 مدرسة في جميع أنحاء البلاد بسبب الحروب المتلاحقة.

من جهة أخرى، فإن قطاع التعليم في ليبيا يُعاني من انتشار ظاهرة التسرب المدرسي التي تُعد من كبرى الآفات التي تُهدد جيل (الحرب) بأكمله، ويعود ذلك لعدة أسباب من بينها تردي الأوضاع الأمنية وانتشار المليشيات والمجموعات الخارجة عن القانون وتفشي الجريمة المنظمة كالاختطاف والإخفاء القسري.

إضافة إلى ذلك، فإن هروب الليبيين من الاقتتال المسلح ولجوءهم إلى النزوح الداخلي لمناطق آمنة نسبيًا بعد أن تعذر عليهم الخروج من ليبيا، أثر على طاقة استيعاب المؤسسات التربوية للوافدين بسبب التكدس البشري ونقص الكادر التعليمي.

أرقام تلخص المعاناة

  • 33 ألف طفل ليبي معرضون لمخاطر انتهاكات حقوق الإنسان وبحاجة للحماية.
  • 439 ألف طفل بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة.
  • 9% من عدد المهاجرين أطفال بواقع 36 ألف منهم 14 ألف دون مرافقة.
  • 315 ألف طفل بحاجة إلى التعليم في حالة الطوارئ.
  • 200 ألف طفل بحاجة إلى المياه الصالحة للشرب والنظافة.
  • هجوم حفتر تسبب في توقف الدراسة في 306 مؤسسات تربوية ونزوج 200 ألف تلميذ.
  • قوات الشرق تسببت في توقف الدراسة في 9 بلديات بغرب البلاد ووسطها وتدمير 14 مدرسة بشكل كبير.

أزمة متعددة

في تصريح لـ”نون بوست”، كشف الصحافي الليبي عصام الزبير أن الحرب ألقت بظلالها على الأطفال وتسببت في تعميق معاناتهم على أكثر من صعيد، مضيفًا أن جزءًا منهم نازح مشرد خارج دياره حُرموا من مدارسهم ورفاقهم وبيئتهم التي ترعرعوا فيها ونشأوا، والجزء الثاني تُلازمه آثار الدمار والقتل الجسدية والنفسية ومنها الخوف المترتب عنه القلق المزمن والتبول اللاإرادي والاضطرابات الذهنية عند سماع دوي الانفجارات وأصوات القذائف.

ويرى الصحف الليبي أن آثار الحرب لا تقتصر على الإصابات أو العاهات المستديمة الجسدية والنفسية التي ألحقت بهذه الفئة، بل تداعياتها طالت مناحي أخرى من عوالمها كانعدام أماكن الترفيه الآمنة (حادثة نادي الفروسية) وتدني مستوى المعيشي بفعل الأزمة الاقتصادية كغياب السيولة وارتفاع الأسعار، حيث أصبح الطفل الليبي لا يبحث عن المكملات واقتصاره على الحد الأدنى من ضرورات الحياة.

الزبير أشار أيضًا إلى أن الطفل الليبي تأثر بشكل كبير بأزمة فيروس كورونا المستجد كوفيد-19 وذلك بسبب الأوضاع المتدهورة للمستشفيات التي لا تعمل أساسًا بكامل طاقتها نظرًا لمغادرة معظم الطواقم الأجنبية ليبيا نتيجة غياب الأمن ومخافة الاستهداف.

على صعيد متصل، رغم انخفاض منسوب العنف عقب توصل الفرقاء الليبيين إلى اتفاق وقت إطلاق النار في 21 من أغسطس/آب الماضي، بعد مناشدات دولية وإعلان محيط مدينة سرت منطقة منزوعة السلاح، فإن ليبيا ما زالت تُعاني من نزيف اقتصادي واجتماعي حاد خاصة في منطقة الشرق (نفوذ حفتر) حيث تواجه أزمة وشيكة في ظل ديون بعشرات المليارات من الدولارات، الأمر الذي سينعكس سلبًا على حياة المواطنين عامة والأطفال بصفة خاصة.

بالمحصلة، يمكن القول إن الحالة الليبية لم تخرج من سياق الأزمة الشاملة التي يعيشها العالم العربي، فتداعيات الحرب وآثارها هي نفسها تقريبًا مع اختلاف بسيط في الأرقام الذي يعود بالأساس إلى الديموغرافيا وعدد السكان، والأطفال الليبيون ليسوا أكثر معاناة من أقرانهم في باقي بلدان المنطقة كأطفال اليمن وسوريا وفلسطين، فهم أيضًا منكسرون ومسكونون بثنائية الحرمان والانتقام وبعقد الحقد والكراهية.

هذا أمر يدفعنا بالضرورة إلى التساؤل عن مدى استعداد الدول التي تعرف صراعات ونزاعات مسلحة لتحويل ضحايا الحروب والاضطرابات والصدمات النفسية إلى جيل عربي غير منسلخ عن واقعه وقادر على قيادة مسار التقدم والنماء.

***

أنيس العرقوبي ـ محرر في نون بوست

__________

مواد ذات علاقة