بقلم د. عبدالكريم هشام

تهدف الدراسة إلى استعراض طبيعة الأزمة في ليبيا ومساراتها ومستوياتها، والوقوف على تطورات هذه الأزمة ورصد أبعادها وتأثيراتها المباشرة على الواقع الأمني في الجزائر، فالإرتباط المتشابك والمعقد للأزمة الأمنية في ليبيا يعتبر من التهديدات الأمنية المباشرة بالنسبة للجزائر.

الجزء الأول

ستحاول الدراسة تسليط الضوء على كيفية تفاعل الدبلوماسية الجزائرية مع الهواجس الأمنية الناتجة عن الملف الليبي، وكيف تعاملت الجزائر مع تطور الأحداث ومسايرتها على المستوى الداخلي والمستوى الإقليمي، مع تسليط الضوء على أهم المبادرات التي طرحتها الجزائر ومستويات تنسيقها مع مختلف الفاعلين ضمن مقاربتها الداعية لاستبعاد الحلول العسكرية والتركيز في المقابل على تقوية مسارات الحل السياسي والسلمي واستبعاد التدخلات الأجنبية في الأزمة الليبية.

مقدمة:

تعتبر الأزمة الليبية من أعقد الأزمات التي تشهدها المنطقة المغاربية، نظرا لتداعياتها المختلفة على الأمن والاستقرار في المنطقة عموما وعلى الجزائر على وجه الخصوص، فالوضع السياسي والأمني الليبي دفع بالجزائر إلى البقاء منخرطة لإيجاد حلول لهذه الأزمة، فبادرت بإنشاء آلية دول الجوار الليبي قصد التنسيق بين هذه الدول.

كما شجعت المنظمات الدولية والقارية من أجل الإنخراط أكبر في الأزمة الليبية لمنع التوظيف الذي تسعى بعض الدول فرضه على الواقع، والحد من استمرار الانعكاسات السلبية لحالة الفوضى والاقتتال في ليبيا على الاستقرار الإقليمي وعلى أمن دول الجوار.

لهذا فقد تعرض الموقف والدور الجزائري من بداية الأزمة الليبية للكثير من الضغط من طرف دول حاولت إضعافه وإبعاد الجزائر عن أي حل مرتقب، خاصة مع دعوتها الصارمة للتوقف عن دعم أطراف الأزمة الليبية بالسلاح، ودفعها باتجاه إنجاح الجهود السياسية ورفضها لعسكرة الحل، لأن تداعياتها ستؤثر بشكل مباشر على الأمن في المنطقة.

يهدف المقال إلى تسليط الضوء على محددات المقاربة الجزائرية في التعامل مع الأزمة الليبية، مع التركيز على تحليل المعطى البنيوي للأزمة ومخرجاتها السياسية والمؤسسية وحتى الأمنية، وكيف ستتعامل الجزائر مع مختلف السيناريوهات المحتملة لمسارات تطور الأزمة في ليبيا؟

لتحقيق الأهداف العلمية للدراسة، سيتم تناول الموضوع من خلال المحاور التالية:

أولا: مسارات الأزمة في ليبيا ومستوياتها

دخلت ليبيا في أزمة سياسية وأمنية معقدة جدا، خاصة بعدما تجاوزت البعد الوطني لتصبح أزمة ذات أبعاد إقليمية ودولية، ولا تزال ليبيا تعاني منذ الإطاحة بنظام القذافي انفلاتا أمنيا وانقساما سياسيا حادا انتج وجود حكومتين متباينتين في التوجه وحتى في الأهداف، وما زاد في صور الإنفلات الأحداث الأمنية التي تهدد بتقسيم البلاد، في ظل عدم التوافق داخليا على آلية سياسية لحل الأزمة، وخارجيا بوجود أطراف دولية وإقليمية تحاول توجيه الصراع في ليبيا نحو توجهات وأهداف غير توافقية.

داخليا يظهر الإنقسام في تنافس حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا والتي تحظى بدعم أممي برئاسة فايز السراج، وتراهن عليها الأمم المتحدة كواجهة للعمل السياسي، وكحكومة ممثلة للشعب الليبي دوليا، وبين الحكومة الليبية المؤقتة جهة الشرق التي تشكلت وانتبثقت عن برلمان طبرق في سبتمبر 2014، وتوجد بمدينة البيضاء شرقي البلاد، ويترأسها عبدالله الثني.

زادت حدة الأزمة بوجود العشرات من الميليشيات والقوات المسلحة الموالية لإطراف النزاع والمتنافسة فيما بينها، خاصة بعدما قدّم اللواء المتقاعد خليفة حفتر نفسه باعتباره قائد “الجيش الوطني” و “منقذ” ليبيا من الفوضى، والذي يلقى دعما سياسيا وعسكريا من طرف الإمارات ومصر.

بالإضافة إلى الحديث عن فاعل آخر في الأزمة الليبية وهو مجلس النواب الذي انتخب في 25 يونيو 2014، وعقدت مراسم تسليم السلطة التشريعية من البرلمان السابق (المؤتمر الوطني العام) بمدينة طبرق في أغسطس\آب 2014.

تتنازع السلطة في ليبيا منذ 2015 سلطتان، حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من الأمم المتحدة ومقرها طرابلس وسلطة موازية في الشرق مدعومة من المشير خليفة حفتر، وتم التوصل إلى هدنة منذ 12 كانون الثاني \ يناير 2020 في المعارك الدائرة على مشارف العاصمة طرابلس بين قوات حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج وقوات حفتر التي شنت منذ نيسان \ أبريل 2019 حملة عسكرية للسيطرة على طرابلس.

هذا التسارع في الأزمة الليبية وتعقدها ووجود أطراف كثيرة فاعلة في توجيهها، أدى إلى ظهور تفاعلات معقدة جدا داخليا وخارجيا، بالإضافة إلى محاولات التعامل مع هذه الوضعية من أطراف دولية وإقليمية فاعلة لحل هذه الأزمة.

فقدت شهدت الأزمة الليبية تسارعا غير متوقعا سواء من الناحية السياسية أو الأمنية وأدّى الإنقسام السياسي والعسكري لتكريس وضع “اللادولة” وغياب المؤسسات، وبهذا الوضع تمكنت المليشيات والتنظيمات المسلحة من السيطرة على مناطق النفوذ والثروة في البلاد، ما أدّى إلى تصدّع الوحدة المؤسسية للنظام.

بسبب طبيعة الأزمة وبسبب معرفة الجزائر بالطبيعة السوسيولوجية والقبلية للمجتمع الليبي فهناك توجّس كبير من طرف الجزائر حول الأزمة وتداعياتها، خاصة مع التطورات الأخيرة ودخول عدة أطراف (كتركيا) التي تتواجد ميدانيا وعسكريا في ليبيا لدعم حكومة الوفاق، وكذلك المواقف الأخيرة لمصر والإمارات الداعمتين لخليفة حفتر، ودعوة مصر للعديد من زعماء القبائل الليبية وتعهدها بالمرافقة العسكرية والدعم لهذه القبائل.

كل هذا التصعيد الأمني بدأ يهدد بالإنفجار، في ظل عدم قدرة الحكومة الليبية على توفير آليات عملية التعامل مع الأزمة التي أصبحت في مستوى معقد جدا، مما أجبر الجزائر على اتخاذ العديد من الإجراءات الوقائية ومنها:

ـ إغلاق الحدود البرية مع ليبيا.

ـ زيادة عدد العسكريين ونقاط المراقبة على الحدود مع ليبيا، ونشر تعزيزات عسكرية وأعداد إضافية للقوات الجزائرية على طول الحدود.

ـ إعلان حالة الإستنفار الأمني على الولايات الحدودية.

ـ تكثيف النشاط الدبلوماسي سواء على المستوى الثنائي، أو من خلال المشاورات المنتظمة التي تسهر الدبلوماسية الجزائرية على ترقيتها.

البقية في الجزء التالي ويبدأ بـ ( ثانيا: الأطراف الفاعلة وتطورات الأزمة الليبية)

***

د. عبد الكريم هشام – جامعة باتنة-1 ، الجزائر

***

مجلة الدراسات الإستراتيجية والعسكرية ـ مجلة دورية دولية محكمة، وتعنى في مجال الدراسات والبحوث والأوراق البحثية في مجالات الدراسات العسكرية والأمنية والإستراتيجية الوطنية، الإقليمية والدولية.

_______________

المصدر: مجلة الدراسات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية ـ تصدر عن “المركز الديمقراطي العربي” ـ برلين ألمانيا.

المجلد الثاني ـ العدد الثامن ـ سبتمبر 2020م

مواد ذات علاقة