بقلم محمود المنياوي

إن الاختلاف سمة وسنة الله في الكون، وقديما قُسمت الدول تبعا لتصنيفات عدة كان من بينها تقسيم الدول على أساس هوية من يقطن الإقليم.

الجزء الثاني

مفهوم الهوية والإنتماءات التحتية في ليبيا

يشكل العرب غالبية سكان ليبيا يليهم الأمازيغ فالأفارقة، فالطوارق. وتتوزع هذه المجموعات على قبائل تستوطن ليبيا حيث تنتشر القبائل العربية من حدود مصر على طول الساحل الليبي وصولا إلى تونس وتمتد في عمق الصحراء، فيما يوجد الأمازيغ في جبل نفوسة وبعض المناطق المحاذية للحدود مع تونس، فيما تستوطن قبائل التبو مناطق أوزو وغدامس والقطرون جنوب البلاد والكفرة جنوب شرق ليبيا. أما التوارق فهم يعيشون داخل الصحراء في المناطق المتاخمة للحدود مع النيجر والجزائر ومالي.

لقد ساعد البعد القبلي على استمرار نظام القذافي لأكثر من أربعة عقود، واستشرى النفوذ القبلي في العملية السياسية، وإن كان بشكل غير رسمي في المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية، وفي أوائل التسعينيات من القرن الماضي، أنشأت ما سمي بـ “القيادات الشعبية الاجتماعية” وتم تعريفها بأنها “المظلة الوطنية الرئيسية”.

ويمكن أن تتداخل الولاءات التحتية والفرعية مع الولاء والهوية الوطنية إلا أن الأمر المهم هو ترتيب الأولوية لهذه الولاءات بشكل يعلّي من قيمة الهوية الوطنية وفي نفس الوقت يحترم ولا يتجاهل الهويات الفرعية.

والشخص يمكن أن يعرّف بنفسه بالقبيلة التي ينتمي إليها أو بالدين الذي يعتنقه أو بالوطن الذي يعيش فيه، والهوية لا تكتمل إلا بوجود الآخر، أما المواطنة فهي حالة الإنتماء إلى مجتمع واحد يشترك بمجموعة من الروابط الاجتماعية والثقافية والسياسية على رقعة جغرافية واحدة في ما يعرف بالدولة.

إن حداثة الدولة الليبية خلافا للحالة المصرية أو العراقية، التي تتميز بتاريخ طويل للدولة منذ الفراعنة والأشوريين، وحتى السودان ولبنان، تمثل عاملا مؤثرا خاصة أن ليبيا كانت قبل 1951 عبارة عن عدة أقاليم، فليبيا كانت مقسمة إلى ثلاثة أقاليم، برقة وفزان وطرابلس الغرب، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية تشكل الدولة الليبية الحديثة ظهرت “إمارة برقة المستقلة” بقيادة إدريس السنوسي الذي اقتنع لاحقا بضم كل من إقليمي طرابلس الغرب وفزان إلى المملكة الليبية الناشئة.

وفي العام 1969 قام القذافي بانقلاب عسكري وبدأ تشكل نمط جديد من العلاقة حيث قامت السلطة الجديدة في ليبيا بإحياء النمط القبلي من جديد وخاصة بعد فشل محاولة انقلاب عام 1975 وكانت التحالفات القبلية هي أسلوب النظام الجديد في الحكم ما أعلى قوة الولاءات التحتية.

وبناء على هذه الحالة التاريخية الفريدة يبدو أن الدولة في ليبيا في حاجة ماسة إلى معالجة اجتماعية وسياسية شاملة، إذ أن الصراع على هوية ليبيا المستقبل لن تشكلها فقط العوامل الداخلية والخارجية ولكن أيضا العوامل الذاتية ومدى قدرة الليبيين على الإنسجام والتعايش وترسيخ مفاهيم المواطنة والإنتماء.

العمل على إيجاد منظومة توافقية بين مختلف القبائل والمصالح بطريقة تضمن توزيعا عادلا للثروات في البلاد، يساعد كثيرا في تنمية الهوية الوطنية وتحول دون أن تستولى أقلية على السلطة والثروات في البلاد ما قد يزيد من النعرات القبلية وفكر القبيلة لا يعني بالضرورة العداء والتعارض مع الدولة، فالقبائل تتفاهم وتتعاقد على قيام الدولة، يتم في إطارها تلبية مطالب العشائر والقبائل وتحقيق التنمية وتوفير الخدمات ومرافق الصحة والتعليم ورفع مستوى معيشة أبناء القبائل.

الهوية والتجربة الحزبية

إن غياب أحزاب في ليبيا، ربما يجعل مهمة الشعب الليبي صعبة قياسا لحالتي تونس ومصر، وشهدت ليبيا أول تجربة حزبية في حياتها السياسية بعد الإستقلال عام 1951، إلا أن تلك التجربة لم تدم طويلا فقد لعبت الجهوية دورا حاسما في حل الأحزاب والجمعيات السياسية عام 1952 ثم جاء انقلاب القذافي ليؤكد على منع الأحزاب وتجريمها واعتقال معظم الشخصيات الحزبية المعروفة بعد أن أصدر قانون تجريم الحزبية الذي وصل به إلى الحكم بالإعدام على العمل الحزبي السري.

إن المشكلة الهوية الفرعية واولاءات الفرعية والقبلية ستبدو أكثر وضوحا أمامنا عندما نستعرض محاولات “النظام” العديدة والمتكررة والتي بدأت منذ فترة مبكرة لصياغة مجمل العمل السياسي في البلاد على أسس قبلية وجهوية إلى حد ما، فلقد استمت جملة من التصريحات الرسمية بإطلاق النعرات وتأجيجها بشتى الأشكال والصور.

وصل الأمر بالقذافي نفسه إلى درجة تخويف وإثارة حفيظة بعض القبائل ضد بعضها الآخر، بدعوته صراحة، أو من خلال الزيارات التي كان يقوم بها من حين إلى آخر للمدن والمناطق، أو من خلال دعوة شيوخ القبائل ورجالاتها إلى مجالسه الخاصة والعامة.

بل لم يتوانى عن طلب التأييد والدعم المعنوي من القبائل عند وقوع أي حدث يمس أمنه الشخصي أو أمن “نظامه”، بل أن الأمر وصل إلى حد إطلاق أسماء القبائل على بعض المناطق والمدن في ليبيا ترسيخا للبعد القبلي وتأكيدا له.

الثورة ومشكلات التكامل والإندماج في المجتمع الليبي

ومنذ الثورة وبعض المؤشرات المقلقة والحوادث التي بالرغم من أنها حوادث فردية إلا أنها تعبر عن ارتفاع لولاءات فرعية على الولاء الاسمى ومنها واقعة إعلان الحكم الذاتي المتكررة في برقة من قبل قيادات محلية بل وقيادات نافذة، والإنتخابات المحلية في مدينة مصراتة.

وكذلك حالة الإضطراب وعدم الاستقرار في منطقة بني وليد واندلاع اشتباكات بين ميليشيات موالية للسلطة، وأخرى مازالت على ولائها للقذافي، والاشتباكات التي وقعت في منطقة الكفرة وفي مناطق الحدود الليبية ـ التشادية وما للأخيرة من تاريخ (مشكلة إقليم أوزو الذي استردته تشاد عن طريق التحكيم من قبل محكمة العدل الدولية في فبراير 1994)، يدعم احتمالات سعيها لممارسة تدخلات في الشؤون الليبية للحيلولة دون قيام دولة ليبية قوية على حدودها.

إضافة إشكالية الأمازيغ في الجبل الغربي، وغيرها من الإشكاليات والحوادث التي تتطلب تعاملا جديا، كون سؤال الهوية لا يتعلق فقط بالتقدم وبناء الأنظمة الديمقراطية بقدر ما تتعلق بوحدة وكيان الدولة ومستقبلها، مع الأخذ في الإعتبار متغير انتشار السلاح في أيدي ميليشيات متفرقة.

هذه الميليشيات قد ينتمي بعضها لولاءات فرغية مختلفة وفي ظل احتفاظها بقوتها وسطوتها وعلو انتمائها الفرعي على الإنتماء الجمعي، الذين انتهى بالقضاء على القذافي، فإن ذلك يمثل خطرا على وحدة البلاد.

وكذلك فإن بروز تيارات إسلامية على الساحة السياسية في ليبيا يتمحور سؤال الهوية لديهم حول الدين كأولوية عليا يليه الوطن في الأغلب الأعم فإن احتمالات تعاضد هذه التيارات مع ميليشيات مسلحة مؤمنة بذات الأهداف ومعلية من ذات الأولويات والولاءات يشكل خطرا متجددا على الدولة الليبية بعد الثورة، خاصة وسط زخم التدخل الخارجي في مالي والذي اعتبرته عدد من التيارات الجهادية حربا على الإسلام وما تبع هذا التدخل من هروب لقيادات الحركة الجهادية في الصحراء على الحدود وبالقرب من ليبيا.

ومن ناحية أخرى، فرغم وجود تيارات سياسية متعددة من ليبراليين وإسلاميين، إلا أن المجتمع الليبي لا يعرف التطرف الديني، رغم وجود الجماعة الإسلامية المرتبطة فكريا بتنظيم القاعدة، لكن السمة العامة هو الاعتدال الديني ولذلك لم يكن مفاجئا فوز الليبراليين في انتخابات المجلس الوطني.

من ناحية أخرى فإن إشكالية الهوية والمشكلات المرتبطة بها من رغبة قوية في عدم استقرار الأوضاع في ليبيا وعدم تأسيس مؤسسات دولة مستقلة، أمر يخدم أيضا مصالح دول غربية، وعلى الأخص الولايات المتحدة والدول الرئيسية في حلف الناتو فرنسا بريطانيا إيطاليا التي نهضت بمهمة الحرب ضد نظام القذافي فالحرب لم تكن من أجل “دمقرطة ليبيا” لأن الديمقراطية لا يمكن فرضها بالسلاح بقدر ما كانت من أجل مصالح اقتصادية وسياسية ولوجستية مختلفة لهذه الدول ونموذج العراق لا يزال حاضرا في أذهان الجميع.

استراتيجيات وبدائل التعامل مع أزمة الهوية:

إن التعامل مع أزمة الهوية في المراحل الإنتقالية يتطلب قدرا أكبر من المرونة من التعامل في خضم الدول المستقرة ذات المؤسسات المترسخة، ولابد للسلطات الليبية أن تراعي أبعادا عدة في أثناء معالجة هذه القضية الهامة:

أولا: البعد القانوني وضرورة تمثيل كافة الطوائف والمجموعات ذات الإنتماءات المختلفة في لجنة إعداد وصياغة دستور البلاد، وأن يضمن هذا الدستور حقوق وحريات وحرمات الجميع في إطار الوطن الآمن وأن تضمن التشريعات الاختلاف وتحافظ عليه كاختلاف مثمر ولا تنفيه أو تتجاهله.

ثانيا: البعد الإجتماعي عبر مؤسسات الدولة التي تعمل على ضمان عدم تهميش أو استبعاد أي فصيل، اجتماعيا أو سياسيا، وإدماج الإثنيات العرقية المختلفة والأقليات، ومحاربة التمييز والعمل على تكريس الحقوق الإجتماعية.

ثالثا: البعد الاقتصادي، والإهتمام بتوفير الحاجات الأساسية للمواطنين والمساواة والتأكيد على عدالة الفرص خاصة في تولي المناصب العامة والقيادية وعدم حكر هذه المناصب على فصيل أو جماعة، قبيلة أو منطقة دون غيرها.

رابعا: البعد الحضاري والثقافي، وما يتضمنه من اهتمام الدولة ومؤسساتها بالثقافات الفرعية الداخلة في إطارها وتنميتها وتنظيم المؤتمرات والمهرجانات حتى يشعر المواطنون باعتراف الدولة بثقافاتهم الفرعية وإبراز هوية الفرد، فلا تكون هوية الدولة خصوصية طائفة أو إثنية وتنفي خصوصية طائفة أو إثنية أخرى، بل هوية جامعة تحافظ على الجميع ولا تعمل على التمييز بين مكوناتها ومحاباة ثقافة وإهمال أخرى.

ذلك ما يعطي شعورا بالأمان واحترام الهوية الوطنية التي تحافظ على ما أدناها من هويات ولاءات واحترام خصوصية الفرد وهويته الثقافية والحضارية ويبتعد عن محاولات التهميش والتنميط وعن محاولات الاستيعاب الأعمى.

خامسا: البعد المؤسسي لابد للحفاظ على الهوية مع ترسيخ المواطنة من إجراءات لمأسسة هذا الهدف، عبر الإعلام والثقافة والتعليم وكلها مؤسسات تعمل على بناء المواطن الذي ينتمي لهوية جامعة دون أن يترك هويته الفرعية أو العكس واستيعاب كافة الطوائف (تبو ـ طوارق ـ أمازيغ أو غيرها) ثقافيا واجتماعيا داخل هوية الدولة الجامعة.

ويجب الإنتباه إلى أن الإشكالية الأساسية في نمو الهوية الفرعية هو تحولها إلى هوية سياسية واقتصادية وليس الاجتماعية. عندما تكون الهوية الفرعية هي أساس العمل السياسي لفئة من المواطنين ويقدمونها على مواطنتهم تتحول هذه الفئة إلى العمل من داخل الدولة على تقويض أسس المواطنة فيها، ربما عن غير قصد، والخطر الكامن في هذا السلوك هو أن نجاح بعض الفئات في تعظيم امتيازاتها بسبب الإنتماء العشائري أو الجهوي أو الإقليمي أو الديني أو الطائفي على حساب الآخرين، تعطي نموذجا للآخرين لسلوك الطريق نفسه، وبهذا تصبح الهوية الفرعية مصدرا لتحقيق مصالح اقتصادية من خلال التوظيف السياسي لها ولمتعلقاتها.

الخلاصة أنه ينبغي العمل على ضرورة تعزيز القواسم المشتركة، إذ أنه لابد أن يكون هناك إطارا جامعا، وبوتقة واحدة تنصهر فيها مكونات ذات عناوين وتوجهات وانتماءات مختلفة قوميا ودينيا ومذهبيا وطائفيا وعرقيا، ومصالح عامة تتداخل مع المصالح الخاصة، أو تكون لها الأولية في سلم الاهتمامات والأولويات.

وكذلك تعزيز مبدأ التعايش السلمي، وهو المبدأ المرتبط بالقواسم المشتركة، فبدون القواسم المشتركة والمصالح المتبادلة لا يمكن أن تكون هناك نقاط التقاء بين مكونات اجتماعية معينة.

____________

المصدر: مؤسسة فكر أونلاين

مواد ذات علاقة