بقلم : علي عبداللطيف اللافي

هذه “الدراسة/الخطة”، هي مشروع ورقة أولية تحاول البحث في طرق وآليات بناء حل طويل المدى في ليبيا وعبر خطوات يحضر فيها البُعد الاستراتيجي حتى لا يتكرّر في ليبيا ما جرى فيها وفي دول الجوار لها منذ عُقود وتكرّر في السنوات الماضية بأكثر مأسوية.

الجزء الثاني

كُنّا قد تعرّضنا في الجُزء الأوّل من هذه الدراسة إلى طبيعة الورقة والأسباب والحيثيات التي دعتنا الى إعداد الأصل منها (150 صفحة)، والاشكالات الرئيسية التي تُعالجها ككُلّ، إضافة الى ذكر المُعطيات والمنطلقات الرئيسية الّتي ُبنيت على أساسها.

في هذا الجزء فإننا نستعرض عمليا شرح فلسفة الرُؤية التي قام عليها المشروع/الفكرة (التأطير النظري والتاريخي-فلسفة الفكرة التحررية – كيفية تجسيد التحرر الإيجابي في مجتمع محافظ).

فلسفة “الرؤية/الحل”

تأطير نظري وتاريخي

مهما قيل عن الأحزاب والايديولوجيات وسقُوطها في أتُون السلبية والنزاعات والتفريق وأنها لا تتلاءم مع بُنية المجتمعات العربية والإسلامية، فإنها واقعيا كانت في حد أدنى جسرا أوليا لبناء الحلول وآليات للخروج من المآزق التاريخية في كُل البلدان وخاصة الدول المغاربية المجاورة لليبيا.

ومهما قيل عن سلبية النُخب المغاربية وتبعيتها وانفصامها، فإنها بقيت فعليا مُستجيبة لقاعدة رئيسية وذهبية في علم الاجتماع (السيسيولوجيا) والتي تُؤكد انه “كُلما دخل مُجتمع في أزمة الا واستنجد بنُخبته لتُسطر وتجد له الحلول”، وحتى لا نغرق عمليا في أتون الرُؤى النظرية ونتأكد من صحة ذلك، فانه يُمكننا مُراجعة سريعة لدور الأحزاب والنُخب في المنطقة المغاربية خلال العقود الماضية عبر قراءات مُختصرة بما يخدم بناء تصوّر خاص بالحالة اللّيبية:

تونس:

قامت الدولة الوطنية في بلد “الثعالبي/ابن خلدون/خيرالدين” على إرث الحزب الدستوري بشُقّيه القديم والجديد، وبنيت أسسها عليه كبان ووريث لحركة التحرر الوطني رغم كل أخطاء قياداته الاستراتيجية والصراعات والتصفيات بين أجنحته، وكان للرّافد النقابي المُتمثّل في “الاتحاد العام التونسي للشغل” الدور الأكبر في المعاضدة.

ولما ترهّل الحزب في نسخته الثانية أي “التجمع الدستوري الديمقراطي” إضافة الى ارتكابه للجرائم السياسية والاجتماعية والأخطاء الكارثية القاتلة في كل المجالات بل وتحوله لجسر وآلية للدولة البوليسية الخانقة لأنفاس المجتمع ومُغيّبة للنخب السياسية الاجتماعية، ثار عليه الناس سنة 2011 وفقا للبناء التراكمي لانتفاضات يناير 1978 ويناير 1984 ويناير 2008.

فان الدولة ارتكزت سنتي 2012 و2013 على “حركة النهضة” (الإسلامية) وحلفائها الليبراليين بغض النظر عن اخطائهم وملابسات الظروف التي حكمت الترويكا فيها وقبل ذلك كانت القوميون واليساريون والليبراليون عامل اثراء مُهم ونوعي لبناء الأطروحات السياسية والاجتماعية، وتوافق الدساترة والاسلاميون وبعض يساريين بين 2014 و2019 لمواصلة مسيرة الانتقال الديمقراطي رغم التحديات الاقتصادية والاجتماعية والظواهر السلبية القائمة على منطق الزعامة والسياحة الحزبية وكثرة التجاذبات والحروب الإعلامية بين الفرقاء السياسيين.

الجزائر:

رغم الأخطاء الكبرى والبُنيوية لحزب “جبهة التحرير الوطني” مُضاف إلى ذلك ضبابية سياساتها وتحوّلها لمُجرّد أداة وآليات خادمة للعسكريين، فان الحزب كان في البداية جزء من الحلّ قبل وبعد أحداث أكتوبر 1988 الدامية وساهم الحزب في منع السقوط الكامل للدولة.

وبعد ذلك مثل غياب التقييم لدى الحزب التاريخي كارثة حقيقية أنتجت أحزاب “إسلاموية” فاشلة وفاشية التوجه السياسي والاجتماعي وطبعا كانت النتيجة الطبيعية لعدم وجود حزب ليبرالي قوي ومُتماسك هي ما حدث في تلك العشرية السوداء ومن حدوث الدمار وأتون الكوارث التي امتدت تفاعلاتها طوال عقدي حكم بوتفليقة وتواصل سياسات شكلانية تشريك المُجتمع والنُخب في الشأن العام مما كدّس منطق الاقصاء والفساد وحكم الرئيس المقعد حتى انتفض الشارع في 22-02-2019

ورغم كل ذلك فقد مثل وجود بعض أحزاب إسلامية وليبرالية ويسارية بعض أمل وقلّص السقوط في ما هو أكثر من كارثي وهي مجهودات تُحسب لفاعلين اقرب للليبراليين رغم انتمائهم لمدارس ايديولوجية أخرى على غرار “آيت أحمد” و”النحناح” و”رضا مالك” وآخرين، وسيبقى غياب الحزب الليبرالي الجامع للفعل السياسي سببا في مخاطر استراتيجية واشكالات عدة خلال السنوات القادمة تواجه وستُواجه بلد الأمير عبدالقادر.

مُوريتانيا:

بُنيت الحياة السياسية أيضا على توظيف البُعد الليبرالي في الحكم رغم التأثّر بفكرتي “القوميات” و”الاشتراكية” نتاج التأثر بمقادير نسبية بالأوضاع في كل من “السينغال” و”المغرب” و”الجزائر” و”ليبيا” والى حد اليوم يُؤطر ضعف الحزب الحاكم نسبية مدنية الدولة نتاج آثار الانقلابات العسكرية خلال العقود الماضية والتي رتب أغلبها في الخارج لا في الداخل (انقلاب 1980 مثالا للذكر لا الحصر).

المغرب:

أثّرت الحياة الحزبية على طبيعة الأداء السياسي والحزبي وأن كان “ادريس البصري” أكثر من هندس مُربعات حياة التنظيمات الحزبية، فان اليساريين المغاربة مثلوا مفتاح حل ونمو الحياة السياسية منذ بداية التسعينات حتى بداية العقد الحالي حيث مثل تحالف التيار الإسلامي مع بعض أحزاب صغرى وحليفة محور الحياة السياسية والتي طبعت بالاستقرار نتاج أداء الملكية الدستورية ووجود أحزاب أقرب لللبرالية تتجادل وتتجاذب تحت سقف خدمة المغرب وشعبه أولا وأخيرا رغم كل عواصف الإقليم ومؤثرات الأوضاع في البلدان المغاربية.

لابُد من استحضار مُعطى تاريخي مهم، حيث انتبه الرئيس التونسي الأسبق “الحبيب بورقيبة” (1903-2000) والذي حكم تونس بين سنتي 1956 و1987 لخطورة عدم وجود حزب قوي في ليبيا سنة 1968 وخاف على صديقه الملك “ادريس السنوسي” فأرسل له مبعوثا خاصا في مُهمة خاصة وسرّية كان محورها يومها تنبيهه أنه يجب عليه تأسيس حزب وطني يجمع اللبيين وترتكز عليها الحياة السياسية.

ولكن الملك لم يعر اهتماما للنصيحة وهو ما جعله يدفع الثمن غاليا بعد أقل من سنة حيث تم الانقلاب عليه من طرف ضباط صغار والذين جمعوا مناصريهم ليلة الانقلاب امام القصر الملكي ورفعوا شعار “ابليس ولا ادريس”، والغريب في الأمر ان وعي الملك جعله يستشرف ما سيحدث لليبيا عبر قوله ان الرد عليهم هو “ان ابليس قد يأتيكم فعلا”.

تُبين التجارب المغاربية التي لخصناها في نقطة سابقة باعتبارها أقرب للخصوصية الليبية، مضاف إليها فكرة الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة المُشار إليها في النقطة السابقة، أن نجاح الحياة السياسية في مُستوياتها الدنيا تتطلب وجود مُكوّن ليبرالي وطني ليبي قادر على التجميع السياسي والاجتماعي وقادر أيضا على استيعاب منطق المُشاركة السياسية لا المُغالبة وأن منطق الحزب الحاكم لوحده ولّى ومضى، وأن المُجتمعات لم تعد تقبل بالتطويع والتوجيه والأحادية والحاكم الفرد الذي يستفردُ بكُلّ السلطات خاصة في ظل مجتمع قبلي ومُمتد بمناطقه الثلاث وبمكونات اجتماعية وعرقية (“التبو” – “الطوارق” – “شركس” – “الأمازيغ” …)

وهو ما يعني البحث في بعث حزب ليبرالي ليبي له رُؤية واقعية وبراغماتية ويتجاوز معُوقات العُقود الماضية وآليات البناء الحزبي الهشّة في ليبيا ( حوالي 76 حزبا أسست سنتي 2011 و2012 ) و أخرى تأسست وبنيت سنة 2018 في انتظار تقنينها لاحقا، وهو حزب سيمكنه لاحقا من بناء استراتيجيا تعمل على تدمير أي أسس للانقسام سواء تلك التي بُنيت على تراكم كمّي وتاريخي أو تلك التي تعمل دُول وقُوى على الدفع بها لتتحوّل خلال السنوات الماضية لعوائق لا يُمكن هدمُها أو مُواجهتها مُستقبلا.

حول فلسفة “الحل/الرؤية” أو في بُنية الفكرة التحرّرية

يتبيّنُ لنا من خلال تجارب الدُول المغاربية الأربع (تونس-المغرب– الجزائر–موريتانيا) والأقرب لليبيا من حيث الجغرافيا والتاريخ وطبيعة وتركيبة المجتمع، أنه كُلما كان هُناك حزب أقرب للمنطق اللّيبرالي بغضّ النظر عن الايديولوجيا المؤسسة للحزب، كلّما أمكن بناء نظام سياسي مُتوازن ومُستقرّ خلال تلك الفترة.

“التحرّر” و”الليبرالية” فكرتان رئيسيتان ومُهمّتان تتناسبان مع خصوصية المُجتمع الليبي والذي لا يزال من حيث بُنيته الثقافية والاجتماعية شبيها ببُنية المجتمعين المغربي والتونسي ابّان بعث أحزاب ليبرالية أفادت وخدمت مجتمعها خلال النصف الأول من القرن العشرين (التحرر الوطني أساسا)، وذلك لا يعني أن النخب الليبية ليست ابنة لحظتها تكنولوجيا أو علميا أو من حيث الذهنية الحضارية…

بناء الحزب يجب ان يكون مُراعيا للتنوعّ والهندسة الاجتماعية للمُجتمع اللّيبي ليكي يكون قادرا على البناء السياسي وأيضا ليكون قادرا على التجميع وحتّى لا تهزّه العواصف والمُتغيّرات في وضع إقليم مُتغيّر ومُتطوّر دراماتيكيا…

يجب أن يسبق تنفيذ الخطّة أو ضمن آلياتها التنفيذية حملة ثقافية واتصالية لتدمير التدمير الذي قام به القذافي وبعض من أجهزته الايديولوجية لفكرة التنظّم والحزبية ويكون ذلك عبر نشر دراسات وبث برامج تلفزية وتواصل مباشر أي “باب/باب” بدون السقوط في أتون النظري وربط ذلك بالتطوّرات الحاصلة وباهتمامات اللّيبيين الحالية حتى يمكن تقبل الفكرة وبناء أسس أولية تُساعد لاحقا في رسم الحل على المدى المتوسط والبعيد.

مُؤسسو الحزب يجب أن يكُونوا قادرين على الاستيعاب والتضحية من أجله ومن أجل بناء فكرة جامعة وجاذبة ليعيش الأعضاء من أجلها خلال الثلاث العقود الأولى من حياته وهي مرحلة طويلة المدى نُقدر أنها كافية لكي يمكن بناء دولة مُتعافية وقابلة للوحدة بين كُلّ اللّيبيين حتى لا يعُودوا للتقاتل مثلا ومُحصَّنين مستقبلا ضد أي اختراق ثقافي وفكري ويمنع الحرب بالوكالة على الأراضي الليبية.

طريقة تكوين الأعضاء الملتحقين بالنواة المؤسسة يجب أن يكون مبنيا على فلسفة عميقة تعتمد على رُوح وفلسفة المجتمع الليبي من حيث بُنيته العميقة:

الخصوصية الحضارية، من المعلوم أن ليبيا بلد مغاربي ومُتوسطي وافريقي ولكنه عربي إسلامي قبل كل ذلك، أي أنّ الشخصية فيه في عمقها صُوفية المنزع وهي أنانية السلوك وفقا لأهم الدراسات الاجتماعية والتاريخية وهي شخصية غير قابلة باطنيا للتفسّخ (ولكنها ان جنحت لذلك فلا حدود لتفسّخها)، ومن المُهمّ استحضار وعدم تغييب ان اللّيبيين هُم الشعب الوحيد الذين طلبوا بأنفسهم تاريخيا من العثمانيين المجيء إليهم وحكمهم وضمهم للخلافة العثمانية بدل الاسبان (وفي رؤية البعض استعمارهم بدل الاسبان).

ولابد من فهم لماذا لم تستطع الأجهزة المخابراتية الأجنبية تكوين خلايا داعشية من الليبيين أنفسهم واضطرت وجوبا لتكونيها من أجانب بعد تلقينهم، ومن المهم أيضا كيف ضعفت بُنية التنظيمات الجهادية بسُرعة قياسية رغم تغذيتها ودعمها من أطراف ودول عدة ذلك أن داعش ليبيا لم يترأسه فعليا أي ليبي، وحتى في الحرب الدائرة منذ 2014 بين طرفي الصراع الحالي لابد من استحضار أن أغلب المُقاتلين هم من المرتزقة الأجانب في جبهتي طرفي الصراع سواء كان ذلك سنتي 2014 أو 2019.

عبقرية المكان وطبيعته “الجغرا سياسية”، تتميز ليبيا عن بقية بلدان المنطقة بامتداد سواحلها المتوسطية وامتدادها في اتجاه الصحراء الافريقية وقلة عدد السكان وكثرة الجيران والشعوب المتعارف معها وعليها (أفارقة – عرب – بربر – عجم)، وهنا لابد من التأكيد أن أهل الشرق مثلا وان كانوا أقرب لمصر جغرافيا فانهم لا يحبون المشارقة على عكس أهل المنطقة الغربية الذين لهم حب غير عادي للمصريين وعاداتهم مع استحضار ما فعلته السنوات الماضية في تدمير هذين الفكرتين.

استلهام النموذج عبر التعميم وعدم تغييب البعد المناطقي عبر التركيز على امثلة متنوعة ومختلفة وعدم الاقتصار على مثال “عمر المختار” (فكرة القذافي رغم أن غاياته كانت أخرى)، بحيث التركيز على اختيارات ذكية ومتعددة (شخصيات من المناطق الثلاث وضرورة وجود أمثلة من الطوارق – التبو – الامازيغ ومن أهم القبائل الكبرى بشكل يحدث التوازن الاجتماعي والذهني والنفسي وعدم التركيز على الشخصيات الجدلية فلا يمكن مثلا تغييب شخصية من “القذاذفة” أو اعتماد شخص “معمر” كنموذج لدى أي كان من خارج دائرة أنصاره.

عملية التكوين والتلقين الإيجابي يجب أن تعمل على تدمير منهجي وبطيء لثلاثية سالبة طبعت الشخصية الليبية منذ عقود أي “القبيلة” و”الغلبة” و”الغنيمة” وتحويلها الى خصوصيات إيجابية عبر تحول تدريجي وخاصة في دعم روح الاعتزاز بالقبلية، مع التنبيه إلى عدم السقوط المدوي في خطأ ارتكبه الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة من حيث لا يدري ألا وهو تدمير وإلغاء “العروشية” وهو فعل سياسي واجتماعي وان كان ايجابيا في بعض ابعاده وترتباته فانه أفقد المجتمع التونسي الكثير من روحه الإيجابية العميقة.

التكوين يجب ان يكون عميقا وشاملا ومعمقا لان حقبة “القذافي” بغض النظر عن تقييمها، قتلت أسس التسيس في حده الأدنى، بما يعني أن النواتات الأولى المركزية والمناطقية والجهوية والمحلية والقطاعية يجب ان تكون مبنية بناء منهجيا لا من حيث كم المعطيات ولكن من حيث فلسفته في استحضار الذاتي والموضوعي والتكتيكي والاستراتيجي وفي علاقة المحلي بالإقليمي والدولي وطبيعة الروب المعاصرة (حروب الجيل الخامس)

يتبع في الجزء الثالث (قراءة مختصرة في أسباب علل ظاهرتي “الحزبية” و”التنظم” في ليبيا)

***

علي عبداللطيف اللافي ـ كاتب ومحلل سياسي مختص في الشؤون الافريقية

____________

المغاربي للدراسات والتحاليل

مواد ذات علاقة