بقلم السنوسي بسيكري

الاقتصاد كان حاضرا في تفكير ومقاربات البعثة الأممية وصار أكثر وضوحا وتركيزا مع تسلم غسان سلامة رئاسة البعثة وتولي ستيفاني ويليامز منصب النائب، حيث أصبح الربط بين المسار الاقتصادي والمسارات السياسية والأمنية حيويا.

البعثة نجحت في إذابة الجليد فيما يتعلق بتصحيح الوضع الاقتصادي المختل بعد إخفاق المجلس الرئاسي في معالجة التحديات الاقتصادية والمالية المتمثلة في انهيار سعر العملة المحلية وارتفاع الأسعار ونقص السيولة، وكانت البعثة خلف توقيع اتفاق الإصلاحات الاقتصادية والذي بالمناسبة وقع مباشرة بعد وقف المواجهات الخطيرة على مشارف طرابلس في نهاية العام 2018م.

المسار الاقتصادي الموازي للمسارين السياسي والأمني سبق اجتماعات بوزنيقة وجنيف وذلك بانعقاد اجتماع القاهرة مطلع العام بحضور نحو 20 خبيرا ماليا واقتصاديا من مختلف مناطق البلاد، حيث تم التوافق في الاجتماعات اللاحقة على تشكيل ثلاث لجان هي:

  • اللجنة المصرفية والتي تعنى بمعالجة الانقسام في الجهاز المصرفي وما يتبعه من مسائل،
  • ولجنة توزيع الإيرادات العامة بعد الجدل الذي دار حول سوء إدارة المال العام،
  • ولجنة الإعمار والتنمية والتي تتطلبها كوارث الحروب التي شنها حفتر منذ العام 2014م.

اتجهت اللجنة إلى ما اعتبرته حلولا آنية للأزمات الراهنة، وبذلك خلصت لجان المسار الاقتصادي إلى جملة من التوصيات ذات الأثر الفعال والفوري من مثل معالجة أزمة سعر الصرف، وفتح المقاصة بين المصارف في شرق البلاد وغربها، وإعادة النظر في الترتيبات المالية بشكل يلائم الوضع الاقتصادي الراهن.

ومن المهم الإشارة إلى أن فريق المسار عمل على تبني سياسات وإجراءات قابلة للتطبيق في أسوأ السيناريوهات، بمعنى أن جل ما تم الاتفاق عليه من توصيات قابلة للتطبيق حتى في ظل استمرار الانقسام السياسي، وستكون النتائج أفضل في حال التوافق على حكومة موحدة.

بالمقابل فإن مقاربة فريق المسار الاقتصادي للإشكاليات الكبرى من مثل المطالبة بتوزيع الإيرادات اتسمت بالتبسيط، حيث ارتكزت على اللامركزية كسبيل للتخفيف من تمركز قرار إدارة المال العام جباية وإنفاقا بيد الحكومة المركزية.

والحقيقة أن إشكال توزيع الإيرادات كما هو مطروح تغذيه نزعات سياسية مصلحية ضيقة ضمن مشاريع هيمنة وسيطرة على القرار بالقوة، ذلك أن توزيع الثروة صار ملفا بارزا بعد الحرب على طرابلس وبالتحديد بعد أن لاحت بوادر فشلها، فظهر الحديث عن توزيع الثروة بقوة وطرح على طاولة النقاش في ملتقى برلين.

اللجنة لم تتطرق إلى كيفية التعامل مع الدين العام الذي راكمته الحرب على طرابلس والحروب قبلها، والذي يطالب حفتر بتحميله على خزانة الدولة ورفضت حكومة الوفاق ذلك.

أيضا لم يتم التعامل مع جزئية سلطة إدارة المال العام في ظل نفوذ حفتر والذي يقوم على الإنفاق العسكري الكبير دون رقابة أو محاسبة.

المسألة الأخرى هي توزيع الإيرادات من أعمال السيادة التي تناولتها مسودة الدستور الصادر عن الهيئة التأسيسية، وهي ليست من اختصاص مسارات التسوية، وربما هذا ما يفسر تعامل المسار الاقتصادي معها بحذر شديد.

الأنكى هو أن الأطراف الدولية وبعض فواعل البعثة اهتموا بالاتفاق الاقتصادي والمالي الذي وقعه أحمد معيتيق مع خليفة حفتر والذي ينص على اقتسام الإيرادات بنسب محددة، وهو ما يقوض المسارات التفاوضية.

وأخيرا بدا أن فريق المسار الاقتصادي أقل نفوذا ورسمية بالنظر إلى المسارين الأمني والسياسي، فما تم التوصل إليه في بوزنيقة وجنيف مثل أجندة توافق ملزمة بتبني البعثة لها والاتجاه بها إلى التنفيذ، فيما بدا أن توصيات فرق المسار الاقتصادي أشبه بالاستشارات غير الملزمة التي لا يشكل تجاهلها مشكلة.

اقتصار المسار الاقتصادي على الدراية والخبرة وإبعاده عن التدافع السياسي جعل مهمته أسهل، إلا أنه مرتهن إلى المسارين السياسي والأمني، وسيكون متعذرا تنفيذ ما اعتبره أعضاء المسار الاقتصادي الحد الأدنى القابل للتطبيق في كل الظروف، إذ أن فشل المسارات الأخرى له عواقبه في مقدمتها عودة الاقتتال الذي يقضي على كل المقاربات بما في ذلك أجندات الحد الأدنى.

***

معضلة الاقتصاد الليبي التي عمقت السياسة أزمتها

معضلة الاقتصاد الليبي تكمن في هيكليته التي تتمحور حول اقتصاد الدولة والخزينة العامة المعتمدة على النفط كمصدر وحيد للدخل وبنسبة تزيد على 96%.

وصارت الهيكلية معضلة منذ الانقلاب الاشتراكي الذي قضى على القطاع الخاص تقريبا وذلك في أواخر عقد السبعينيات من القرن الماضي، وسيطرة الدولة على معظم الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية التوزيعية، بحيث تم تأميم كل أنواع التجارة حتى محلات البقالة الصغيرة، ولتصبح مؤسسات الدولة مسؤولة عن توريد وبيع كافة أنواع السلع الغذائية والملابس والمواد المنزلية والصحية ومواد البناء وقطع غيار السيارات… الخ، وتمت مصادرة شركات البناء والشركات الصناعية وكافة أنشطة الخدمات وحل القطاع العام محلها.

عشر سنوات فقط لتظهر الآثار الكارثية لهذا الانقلاب، فشركة الأسواق العامة التي حلت محل نشاط تجارة التجزئة من مواد غذائية وملابس ومواد منزلية تكبدت خسائر بقيمة 400 مليون دينار ليبي (الدينار يعادل وقتها 3.3 دولار أمريكي)، وقس على ذلك معظم الشركات العامة، والحديث يطول عن خسائرها الفادحة.

كان من أهم تداعيات الانقلاب الاشتراكي هو أن صارت الدولة هي الملاذ الوحيد للتوظيف، وهي مصدر الإنفاق على الاحتياجات العامة والخاصة للدولة والمجتمع، فتضخمت الميزانية العامة خاصة بند المرتبات الذي صار يستنفد 40% منذ تسعينيات القرن الماضي، ليرتفع أكثر خلال العشر سنوات الماضية، فيما تقلصت الإيرادات بسبب اضطراب أسعار النفط وبسبب المناكفات السياسية للنظام السابق وصراع الفرقاء بعد 2011م.

جاءت ثورة فبراير لتجديد الأمل في تصحيح الوضع الاقتصادي وإعادة هيكلته بشكل يحقق التوازن بين القطاعين ويعطي للقطاع الخاص الفرصة للانطلاق وتوسيع قاعدة الإنتاج وتنويع مصادر الدخل، لكن الصراعات الداخلية والمؤامرات الخارجية أجهضت الحلم، فتعاظمت أزمة الهيكلية وتضخمت النفقات العامة حتى بلغت نحو 460 مليار دينار ليبي منذ العام 2012م (نحو 330 مليار دولار)، وليكون نصيب حكومة الإنفاق من الإنفاق العام 241 مليار خلال أقل من خمس سنوات، أكثر من نصفها ذهبت في شكل مرتبات (25 مليار في العام)، يضاف إليها نحو 60 مليار هي مصروفات دعم الوقود والنفقات التسييرية الحكومية خلال نفس المدة، بحيث بلغ مجموع نفقات المرتبات والدعم والتسيير نحو 90% من إجمالي الإنفاق العام.

نفقات التنمية ظلت خلال الأعوام الست المنصرمة في أدنى مستوى لها، لتصل إلى 300 مليون دينار ليبي فقط خلال الترتيبات المالية (الميزانية العامة) للعام 2020م فقط، في بلد دمرت الحروب أحياء كبيرة منه وتعاني بنيته التحتية من التردي منذ عشرات السنين.

الدين العام تجاوز المائة مليار دينار أو ما يعادل الـ270% من الناتج المحلي الإجمالي، وأمام هذا الإنفاق الهائل والدين المتعاظم تراجعت الإيرادات بشكل كبير بسبب عبث إغلاق النفط وتوظيف قوت الليبيين في الصراع السياسي، لتبلغ خسائر إغلاقه نحو 260 مليار دينار ليبي.

الإرادات النفطية خلال العام 2020م وحتى 30 أيلول (سبتمبر) الماضي بلغت 3.7 مليار دينار فيما تجاوزت النفقات الـ25 مليار دينار، أي أن عجز الميزانية خلال 9 أشهر فقط بلغ نحو 22 مليار دينار.

الأزمة بلغت درجة من الحدة حتى بات موضوع الإصلاح الهيكلي أمرا ثانويا وهامشيا، فالأزمة اليوم أزمة نقص سيولة وتدني قيمة العملة المحلية التي تجعل المواطن يعجز عن توفير أساسيات المعيشة اليومية من أكل وشرب، وأزمة كهرباء جعلت من حياة الناس معاناة لا تطاق، وقس على ذلك الخدمات الأخرى الضرورية.

أسباب الكارثة في القديم والحديث هي تصرفات عبثية للمسؤولين عن مال وقوت الليبيين، فقد ضيع النظام السابق فرصة عظيمة لنقل البلد إلى مصاف الدول ذات المستوى المرتفع من الرفاه الاقتصادي والاجتماعي، وجاء بعد فبراير مهووسون بالسلطة وفاسدون ضاعفوا من التحديات والعقبات فكانت النتيجة ازدياد معاناة المواطن.

***

السنوسي بسيكري ـ مدير المركز الليبي للبحوث والتنمية

__________

مواد ذات علاقة