بقلم علي عبداللطيف اللافي

كَثُر الجدل أياما قبل بدء جلسات مُلتقى الحوار السياسي حول نجاحه وفشله بناء على أن مؤتمرات دولية وحوارات سابقة في عدد من العواصم العربية والغربية كان مآلها الفشل والافشال، إلا أنّ طبيعة النقاشات ومقدمات الحوار في “جنيف” و”مالطا” و”منتريو” و”غدامس”والقاهرة و”بوزنيقة” المغربية، كانت تنبأ بنجاحات مُرتقبة وتُشير إلى الأمل في الوصول الى حل يُنهي الأزمة المحتدمة منذ منتصف سنة 2014.

ولكن التمطيط زمنيا في ملتقى الحوار السياسي في تونس وارجاء جزء منه وخاصة ذلك الخاص بالآليات والأسماء وتمطيط ذلك بعد أن تم استئنافه عبر تقنية “الفيديو” منذ بداية الأسبوع الماضي، يطرح سؤالا مُهما في مدى تأرجح أسباب التمطيط والإرجاء بين الذاتي (ليبيا) والموضوعي (إقليميا ودوليا)؟

ما هي أسباب تمطيط موعد انطلاق إلى 09-11-2020 رغم أنه كان مقررا لبداية أكتوبر الماضي؟

عمليا بدأ الحديث عن ملتقى الحوار الليبي منذ نهاية أغسطس الماضي، بل وكان في البداية مبرمجا أن تدور جلساته في العاصمة السويسرية “جنيف” في بداية أكتوبر الماضي، ثم تم الحديث عن نقله الى تونس وليقع إقرار منتصف أكتوبر الماضي كموعد لانطلاقه ثم تم الحديث عن نقله إلى”مالطا” أو “المغرب”نتاج تردد السلطات التونسية في بادئ الأمر.

وتم تحديد موعد أولي في 23 أكتوبر الماضي وتم الحديث عن عقده قريبا من الأراضي الليبية أي في جزيرة “جربة” ثم مدينة “طبرقة” أي بعيدا عن العاصمة، ليرجئ الى بداية نوفمبر قبل تحديد التاسع من نوفمبر كموعد نهائي له ولتدور اشغاله في نزل بضاحية “قمرت” بين 9 و15 نوفمبر الماضي.

ومما لا شك فيه أن كل ذلك التمطيط لم يكن اعتباطيا بل له فلسفة تؤطر فعل الفاعلين الاقليميين والدوليين وأعضاء البعثة الأممية، وعمليا ورغم استئناف الحوار عبر تقنية “الفيديو” يوم 23 نوفمبر الماضي فانه لم ينته بعد بناء على ارجاء التصويت على الآليات ليوم الثلاثاء 1 ديسمبر بعد تحديد حوالي 7 خيارات لاختيار آلية محددة لاختيار الأسماء.

وعمليا لم يتم بعد تحديد موعد فعلي للتصويت على الأسماء رغم القول أن ذلك قد يتم بين الفينة والأخرى ,ان الحكومة ستعلن عن تشكيلتها يوم 12 ديسمبر الحالي وأنها ستضم 24 وزيرا.

وعمليا يُمكن الإشارة الى النقاط والحيثيات والتأكيدات والتساؤلات التالية:

ـ لماذا لم يتم تحديد موعد من البداية بعد 3 نوفمبر أي تاريخ الانتخابات الأمريكية، ولماذا ذلك التدرج وتغيير تاريخ بداية الحوار وحسمه قبل معرفة اسم الرئيس الفائز خاصة وأن النتائج تُعرف يومين أو ثلاث بعد يوم الانتخاب وهو ما حصل فعلا يوم 6 نوفمبر الحالي؟

ـ هل يُراد للحل أن يُنزّل فعليا من حيث مباشرة الحكومة الجديدة مع مباشرة ساكن البيت الأبيض الجديد في نهاية يناير المقبل؟

ـ هل ان البعض يُريد لإدارة “ترامب” وحليفيه في المنطقة “محمد بن سلمان”و”محمد بن زايد” لعب بعض أوراقهم قبل أن يبدأ”الديمقراطيون” في وضع لمساتهم على المنطقة خاصة وأن أيّ رئيس ديمقراطي ترتبط سياساته باسم وزير خارجيته والذي لن يبدأ في التحرك في المنطقة عمليا قبل يونيو المقبل.

هل أخذت سياسة الارجاء والتمطيط مكان الافشال والتجاذبات؟

أولا: لابد من التذكير بعدد من البديهيات في شكل مختصرات دالة

ـ الصراع في ليبيا هو حرب بالوكالة بين وكلاء محليين وضيّقي الأفق الاستراتيجي بل ويشتغلون لصالح أذرع إقليمية وهذه الأخيرة ما هي إلا أدوات وظيفية لدى قوى ومحافل دولية تسعى للتحكم في ليبيا لنهب ثرواتها الهائلة والنادرة والمرور بسير للعمق الافريقي.

ـ تبيّن للمُتابعين والمُراقبين للأوضاع في ليبيا سقوط سردية أنّ”الليبيين لا يمكن لهم التوافق والاتفاق”، وهي سردية قائمة على أكذوبة أن الأزمة في ليبيا عمرها عشر سنوات بينما الحقيقة أن الأزمة في ليبيا لم تبدأ إلّا سنة 2014 وإن كان فيروس الصراعات قد أوجد منذ تشكيل المجلس الانتقالي منذ الأسابيع الأولى لثورة 17 فبراير2011.

ذلك أن لا أحد ينكر أن “اللّيبيين نجحوا حتى سنة 2014 في بناء تجربة انتقال ديمقراطي واعدة عبر اجراء أربع انتخابات” (انتخابات تشريعية في يوليو 2012 و يونيو 2014 – الانتخابات البلدية – انتخابات الهيئة التأسيسية الخاصة بالدستور).

بل لم تبدأ الصراعات إلّا مع بدء موجة الثورات المضادة واندلاع الأزمة الخليجية الأولى بل من الواضح أنّ الأزمة الخليجية الثانية في يونيو 2017 قد انعكست على الأراضي الليبية وجسدها هجوم/اعتداء قوات “حفتر” على العاصمة طرابلس في أبريل 2019.

ـ هناك موضوعيا ومنذ بداية سنة 2018 توازن ضعف محليا وإقليميا ودوليا، وتكرس ذلك فعليا في نوفمبر 2019، وهو توازن لا يُمكّن أي طرف في التدرجات الثلاث المضي في سياساته التكتيكية والاستراتيجية في ليبيا دون الإذعان لمرحلة الحوار حتى تتوضح التوازنات في ظل وضع اقلمي ودولي متغير ومتطور دراماتيكيا.

ـ عودة أمريكية واضحة منذ بداية سنة 2018 للملف الليبي وان بمرحلية وهدوء وتدرج وتكتيكات محسوبة ومدروسة ولعلّ تعيين “وليامز” نفسها ونقلها من موقع لآخر، ثم زيارات السفير الأمريكي في ليبيا عبر تلك الجولات المكوكية الأخيرة بين باريس والقاهرة وأنقرة إضافة للمدن الليبية في المنطقتين الشرقية والغربية.

ـ من الواضح أن خيار الحسم الميداني قد قُبر نهائيا بل يُمكن الجزمأنه لم يعُد مطروحا في المدى القريب والمُتوسّط، كما أنّ تشكيل حكومة مركزية أمر شبه محسوم خاصة وان مشاريع انتاج “قذافيآخر″ و”سيسي ليبي” قد أصبحت في عداد الماضي وأنّه لا يُمكن سحبها من جديد من الأدراج، ولعلّ عمل خطوات “لجنة 5 زائد5” مُؤشّر أوّلي ورئيسي في التدليل على ذلك وما حكاية التحشيدات في “سرت” و”الجفرة”إلّا بناء لخطة أخرى لا علاقة لها بالحسم الميداني وان تشابها فصلا ومعنى.

ثانيا:أن سياسة الارجاء قد أخذت مكان سياسة الافشال

وهي السياسية التي كانت تعتمدها أطراف محلية ليبية وأخرى إقليمية اثر كل ملتقى دولي في ليبيا منذ امضاء طرفي الصراع لاتفاق الصخيرات ولعلّ افشال لقاءات ومؤتمرات القاهرة1 و2 وباريس 1 و2 وأبوظبي 1 و2. وقبلها اعاقة تنزيل اتفاق الصخيرات ودفع البرلمان لعدم اعتماد حكومة الوفاق ومن ثم محاولة افشال “باليرمو” ثم “برلين” رغم نجاحهما النسبي، وعمليا لم تعد تلك السياسة معتمدة في مواقف أغلب الأطراف الإقليمية منذ مؤتمر برلين بل ولاحظ الجميع تعدد التباينات بين المصريين والاماراتيين مثلا.

ثالثا:يظهر أنّ منطق التمطيط هو سمة كل البعثات الأممية

ذلك أن “ستيفاني” ورغم أنها استطاعت فعليا تجاوز عراقيل والغام إلا أنّها اتبعت منهج سابقيها في التمطيط واللعب على عامل الزمن في الدفع لمواقف بعينها وتنزيل سياسات ترفض أطراف ليبية انتهاجها من حيث المبدأ.

الذاتي في تمطيط الحوار الليبي

ان كان “غسان سلامة” صريحا في احدى تصريحاته لبعض أطراف ليبية سنة 2018 أنه “لا يكفي ان تتفقوا وان حل الازمة الليبية مربوط باتفاق الأطراف الدولية”، فان الثابت أيضا أن الليبيين ساهموا بدرجة كبيرة في تقييد مربعات الملف الليبي مما يعني ثبوتية الركن الذاتي في أزمة ليبيا وعمل من عوامل تمطيط الحوار أو في توفير شروط الأخذ والرد وعدم الحسم السريع في الخروج من عنق الزجاجة وهي سمات دافعة وداعمة للإرجاء والتمطيط.

كل ذلك يعني وجود مسوغات مقولة القابلية التي تحدث عنها المفكر الجزائري مالك بن نبي أي ان الأسباب الاجتماعية والسياسية والثقافية قد حولت الليبيين الى طرف معطل لمصالحه وذلك لا يعود للسنوات الماضية فقط بل أن جذوره قائمة مُنذ عقود وتحديدا منذ أربعينات القرن الماضي رغم تغيّر طبيعة المجتمع وتكوينه الثقافي والفكري والسياسي.

ذلك أن الشخصية الليبية لا تزال تتمحور حول خصائص “القبيلة” و”الغلبة” و”الغنيمة”، كما ان عدم بناء دولة حديثة ومدنية أثر الاستقلال قد أربك مسارات الانتقال الديمقراطي بعد 2011 وسهّل على الثورة المضادة لثورة فبراير الامتداد واكتساح مساحات كبرى في الأزمة ومربعات محاولات حلّها ومن ثم التأثير بناء على تعدد المناكفات والتباينات والتجاذبات حتى داخل تيّار فبراير.

لقد حملت الأطراف السياسية والاجتماعية الجديدة ضعف البُنى الفكرية والتنظيمية لهياكلها وفروعها وبقيت مؤثرة فيها طبيعة التلقّي والتركيب، وإلّا ماذا يعني ضعف الأحزاب والتنظيمات الليبرالية والإسلامية وتعدّد مكوناتها الى حد التشظي مقابل اندثار شبه نهائي للمكونين اليساري والعروبي.

والحقيقة ان كل المعطيات والحقائق السابقة سوّفَت مواعيد الحوار وسهّلت على الباحثين ارباكه مما جعل التأجيل والارجاء حقيقة موضوعية عند كُلّ منعطف وعند وجود تباينات في كل محطة أو حوار او قرار يجب ان يُتّخذ.

الموضوعي في تمطيط الحوار الليبي

واقعا تتعدد العوامل الموضوعية في تمطيط الحوار السياسي الليبي وارجاء محطاتها الى تواريخ لاحقة:

المحورين الإقليميين

ممّا لاشك فيه أن جزء من أزمة العالم العربي هي في ميل الخليجيين إلى تشكيل المنطقة بناء على مصالحهم واصطفافهم الدولي، وقد ساهم كل محور إقليمي بغضّ النظر عن الموقف منهما في تفاقم الازمة الليبية وبالتالي ارجاء كل الحلول واحباط مخرجات كل الملتقيات الدولية عبر اللعب على هوامش بعينها ودفع الليبيين الى العودة للنقطة الصفر.

وغير صحيح ان هناك محور إقليمي مائة بالمائة مع مصلحة ليبيا والليبيين وأنّ المحور المقابل هو ضدّهم تماما، رغم ثبوت امعان الاماراتيين أكثر من غيرهم في توظيف الملف ضد خصومهم وفي ارباكهم لأيّ تفاهمات ممكنة ونورد هنا مثالين للتدليل هما:

الأول، عدم امضاء “حفتر” على قرار وقف إطلاق النار في يناير 2020 في موسكو

الثاني، ارباكه غير المباشر للملتقى الحواري في تونس عبر وجود وفد ممثل له للضغط نحو مسارات معينة للاتفاقات ونحو تأجيل الملتقى وارجاء جلساته حتى يُمكن له البقاء في المشهد وإن بآليات ناعمة.

وكل ما سبق يؤكد أن تمطيط الحوار وارجاء محطاته ساهمت فيه دول إقليمية عبر الضغط على وكلائها المحليين وعبر ورقات ضغط اكتسبتها خلال السنوات الماضية، والثابت أن كل ذلك كان على حساب الليبيين الغارقين في البحث عن السيولة وبقية الخدمات الاجتماعية اليومية.

القوى الدولية الكبرى

تنبني مصالح القوى الدولية وتوجهاتها في الملف الليبي على استراتيجيات طويلة الأمد ومُرتبة منذ سنوات بل منذ عقود، وما يحدث منذ 2014 هو تنزيل فعلي وتفاعل مرحلي لتلك السياسات والمصالح والتي عطّلت مصالح الليبيين ورهنتها لتلك السياسات على غرار السياستين الفرنسية والروسية. وأيضا تلك السياسات المرتبطة بتغيّر الحكومات على غرار تعاملات الايطاليين مع الملف بعد مؤتمر “بلايرمو” في نوفمبر 2018.

كل تلك السياسات ساهمت في تمطيط الملف الليبي وخاصة ملتقى الحوار السياسي وأرجأت حلقاته حتى قارب ان يكون مسلسلا مكسيكيا باعتبار تعدد الأطراف والأشخاص المتداخلة فيه.

طبيعة وشخصية المبعوثة الأممية

ممّالا شكّ فيه أنّ المبعوثة الأممية اعتمدت وتعمّدت في الواقع تمطيط الحوار وتحكمت بذكاء نادر في الطور الزمني له ولمحطاته أولا بما جعلها تعرف نتيجة الانتخابات الأمريكية، ثم تصرّفت على ضوئه ومن ثم لاءمت الملف الليبي مع شخصية وتوجهات الرئيس الفائز أي “بايدن” (ولو فاز “ترامب” ربما لاختلف فعلها في اتجاهات أخرى).

ولكنّ الثابت أنها تُنزّل في الأخير السياسات الأمريكية طويلة الأمد باعتبار أنّها في الأخيراحدى أهمّ الأبناء المُدلّلين للدولة العميقة الأمريكية وان اصطفافها للرئيس الفائز لن يكون سوى بما يسمح به الهامش لشخص الرئيس في سياسات واشنطن واستراتيجياتها بعيدة المدى.

الخلاصة في تداخل الذاتي والموضوعي لسياسة التمطيط والارجاء

الثابت اليوم أن ملتقى الحوار الليبي:

ـ الملتقى تم وسيتم تمطيطه على الأقل من حيث تفاصيل نتائج مخرجاته وأن الارجاء والتمطيط سينسبان للأطراف الليبية المتنازعة والمتباينة رغم دور الأطراف الإقليمية والدولية ودور البعثة ومنهجية تعاطيها.

ـ أن الملتقى سينجح غالبا وبإصرار دولي وبجهد كبير من المبعوثة الأممية والأمريكية ستيفاني.

ـ أنه بغض النظر عن مثالية نجاحه ونسبته وتفاصيله التركيبية، فان نقل النجاح مؤسساتيا وتجسيديا سيتم ترحيله زمنيا الى الأيام اللاحقة لمباشرة “بايدن” لمهامه بهدف أن يجد أن الملف الليبي على أبواب حل وحكومة جديدة ومجلس رئاسي جديد وثلاثي التركيبة ومسارات متكاملة وفي طريقها للحل النهائي.

***

علي عبداللطيف اللافي : كاتب ومحلل سياسي مختص في الشؤون الافريقية

_______________

المصدر: صحيفة الرأي العام بتاريخ 03 ديسمبر 2020

مواد ذات علاقة