بقلم محمد عبدالرحمن بالروين

الكثير من السياسيين والنشطاء، وخصوصا من أنصار مشروع الدستور، يصرون على أن القيام بانتخابات برلمانية يتطلب وجود “قاعدة دستورية”، ويحذرون الشعب بأنه إذا أجريت الانتخابات بدون ذلك ستستمر الفوضى ولن يتحقق الاستقرار المنشود.

وبذلك يطالبون بالاستفتاء على مشروع الدستور كحل جاهز وسريع! والغريب أنهم يدعون الشعب إلى التصويت على هذا المشروع المعيب بـ “نعم” دون مناقشته ومعرفة ما فيه من عيوب!

فدعونا نفهم ما يريد هؤلاء ومحاولة التفريق بين الحقائق والخرافات التي يعرضونها. ولكي يتحقق ذلك لعله من المناسب الإجابة عن الاستفسارات الآتية:

أولا: ما المقصود بمصطلح القاعدة الدستورية؟

تُعرف القاعدة الدستورية على أنها الوثيقة التي تبين وتنظم طريقة ممارسة السلطات في الدولة، وتحدد الأساس الأيديولوجي الذي يقوم عليه نظام الحكم.

وباختصار، فهي تشترط ضرورة وجود دستور أو إعلان دستوري. والدستور هو الوثيقة المكتوبة التي تؤسس وتُعرف وتُنظم وتوزع وتُحدد السلطات في الدولة، وبعبارة أخرى هو قانون القوانين.

ثانيا: هل هناك دول بدون دستور مكتوب؟

نعم هناك دول ليس لها دساتير مكتوبة، ويمكن تقسيمها إلى:

ـ دول ديكتاتورية أو ملكية (كالسعودية) ليس لها دساتير

وحتى لو وجدت فهي دساتير شكلية، الغرض منها شرعنة الحاكم وتبرير تصرفاته.

ـ دول ديمقراطية ليس لها دساتير مكتوبة في وثيقة واحدة مثل كندا ونيوزيلندا وبريطانيا وسان مارينو

كل هذه الدول بها “قواعد قانونية”، تسمى أحيانا “القواعد العرفية” والمقصود بها – الأعراف والسوابق والقواعد غير المكتوبة في وثيقة واحدة.

ـ الجمهورية الفرنسية الثالثة (1870 – 1940)

الجمهورية استمرت أكثر من أي نظام حكم آخر في تاريخ فرنسا المعاصر (أي حوالي 70 سنة)، إلا أنها لم تقم على أساس دستور مكتوب، بل حُكمت بثلاثة قوانين ثم اعتمادها عام 1875، (للمزيد راجع: فاينر، 1977، ص 282).

ـ جمهورية ألمانيا الغربية (1948 – 1990)

هي الجمهورية التي رفض مؤسسوها أن يُطلق على وثيقتها القانونية اسم دستور، وسُميت «القانون الأساسي». وذلك لأن مٌصطلح الدستور يعني وجود ترتيبات وقوانين دائمة. ولأنهم لا يُريدون الاعتراف بالتقسيم، واعتقدوا أن فكرة الدستور ستعمق تقسيم البلاد إلى شرق وغرب. ولهذا توافقوا على كتابة القانون الأساسي، واستمرت ألمانيا الغربية تُحكم بهذا القانون المؤقت 40 سنة، حتى تم توحيد دولتهم عام .

ـ أما الحقيقة الأخرى فهي أنه حتى قيام الثورتين الأمريكية (1767) والفرنسية (1789)، لم يكن هناك شيء اسمه دستور مكتوب في وثيقة واحدة كما هو معروف اليوم، وأن أول دستور مكتوب هو الدستور الكونفدرالي الذي أسس لقيام الولايات المتحدة الأمريكية العام .

ثالثا: هل هناك علاقة بين الانتخابات والدستور؟

بمعنى، هل فعلا لا يمكن أن تكون هناك انتخابات نزيهة بدون وجود قاعدة دستورية؟ الحقيقة أن هذا الادعاء خرافة، واعتقاد خاطئ لا يوجد إلا في عقول المنادين به.

وللرد على هذه الادعاءات والمغالطات، دعوني أذكر أربع دول، ليس لها دساتير مكتوبة في وثيقة واحدة، ومع ذلك تمارس بها انتخابات نزيهة مند عشرات السنين. فعلى سبيل المثال لا الحصر:

بريطانيا: ليس لها دستور مكتوب، وكل ما لديها قواعد عرفية، ومع ذلك قامت بـ52 عملية انتخابية، استمرت من أول انتخابات حرة العام 1802 إلى الأيديولوجي الأخيرة عام 2019.

كندا: التي تأسست عام 1867، لا يوجد بها دستور مكتوب. والمصدران الرئيسيان للقانون فيها هما التشريعات البرلمانية والسوابق القضائية. ومع ذلك قامت بـ43 عملية انتخابية على المستوي الوطني، استمرت من أول انتخابات العام 1867 إلى الانتخابات الأخيرة عام 2019.

نيوزلاند: لا يوجد بها دستور في وثيقة واحدة، وتعتمد على العديد من المصادر التشريعية والوثائق القانونية والاتفاقيات. ومع ذلك أجريت بها 53 عملية انتخابية على المستوي الوطني، استمرت من أول انتخابات عام 1853 إلى الانتخابات الأخيرة العام 2020.

سان مارينو (أصغر جمهورية في العالم): ليس لها دستور مكتوب أيضا، وتعتمد على العادات والتقاليد وبعض القوانين. ومع هذا فقد أجريت بها 19 عملية انتخابية، استمرت من أول انتخابات العام 1945 إلى الانتخابات الأخيرة العام 2020.

الخلاصة

مما تقدم يمكن القول، انه لا وجود لمبرر قانوني ولا منطقي ولا أخلاقي يمنع من قيام انتخابات برلمانية في أي وقت تكون فيه الهيئة الوطنية العليا للانتخابات جاهزة للقيام بذلك.

فكل ما يحتاجه الليبيون اليوم هو وجود “قاعدة قانونية”، وليس “قاعدة دستورية” كما يدعي هؤلاء. والحقيقة أن “القاعدة القانونية” جاهزة، وهو القانون رقم (10) لسنة 2014 بشأن انتخاب أعضاء مجلس النواب. وإذا كان الليبيون يريدون انتخاب رئيس للدولة، فما على مجلس النواب إلا تعديل هذا القانون وإضافة هذا البند.

ولكن يبدو أن ما يقصده المنادون بشرط “القاعدة الدستورية”، ليس بمعناها القانوني – أي وجود قواعد وآليات قانونية تحدد نوع الانتخابات وكيفية تنظيمها، وإنما المقصود هو المعنى السياسي لها، أي السعي لتحقيق أهداف ومصالح من هم في السلطة وإضفاء الشرعية على أعمالهم لكي يستمروا حتى اعتماد دستور جديد للبلاد، وبذلك لا يُكتب عليهم الفشل، ويصبحوا بذلك الآباء المؤسسيين للدولة الليبية الجديدة.

وعليه يمكن القول أن خرافة القاعدة الدستورية التي ينادون بها، ما هي، في الحقيقة، إلا انتهازية سياسية ومحاولة خاطئة لتسيس العملية الدستورية، ولن تقود في النهاية إلا إلى المزيد من إرباك المشهد وتعقيد الأمور.

فهل آن الأوان أن يعود هؤلاء السادة إلى الإعلان الدستوري (الذي أتي بهم إلى هذه المناصب)، إذا كانوا فعلا يبحثون عن قاعدة دستورية لإجراء انتخابات، وإلا فعليهم أن يوقفوا هذا اللغط السياسي ومحاولة العبث بالعملية الدستورية.

أخيرا علينا جميعا أن نتذكر بأن التاريخ لا يرحم، وأن شعبنا يستغيث ويطلب من كل الخيّرين في الوطن الاتحاد والعمل للخروج من هذه الأوضاع المزرية التي يعيشها، وأن يقفوا معه لكي يعيش حياته الكريمة في سلام وأمن وأمان. ادعو الله أن يتحقق ذلك.

والله المستعان

*************

الدكتور محمد بالروين يطلق مبادرة لحل الإشكاليات الجوهرية في مشروع الدستور

لماذا هذه المبادرة؟

لعل من أهم أسباب تقديم هذه المبادرة الآتي:

أولا: الشفافية

بمعني لكي ينجح الاستفتاء لابد أن تكون هناك شفافية كاملة بخصوص مُحتوي مشروع الدستور، وذلك لأنه قد تم التصويت عليه بأساليب وطرق غير مهنية وغير شفافة. فقد تم في الجلستين 73 و 74 تعديل اللائحة بخصوص كيفية المداولات على المشروع والتصويت عليه كـ «حزمة واحدة» ودون نقاش حول مواده، بالرغم من أن اللائحة الداخلية اشترطت مناقشة مواد المشروع «مادة مادة،» إلا أنه تم تعديل هذه اللائحة بموجب قرار الهيئة رقم 6 لسنة 2017 بإضافة مادة جديدة تحت رقم 60 (مكرر) تنص على أن «يكون التداول والتصويت على مشروع الدستور بابا بابا».

ففي الجلسة 73 (يوم 29/7/2017) التي لم تستمر أكثر من 15 دقيقة، قام مجموعة من الأعضاء بمحاولة تعديل هذه المادة، مرة أخرى، بحيث يصبح التصويت على المشروع كـ «حزمة واحدة»، إلا أن هذا الطلب تم رفضه لأنه لم يتحصل على الأغلبية المطلوبة (الثلثين + 1)، وبذلك بقي التصويت والتداول على أساس “بابا بابا”.

بالرغم من ذلك تم عقد الجلسة 74 (في نفس اليوم) التي استمرت حوالي 20 دقيقة ولم تُقفل رسميا. صوت المجتمعون فيها على المشروع كـ «حزمة واحدة» وأعلنوا بذلك النصر والاحتفال. وعليه فالشفافية يجب أن تكون هي العنوان ونقطة الانطلاق، لكي تكون عملية طرح المشروع للاستفتاء صحيحة وواضحة وتوافقية وغير مضللة لأبناء الشعب.

ثانيا: الاستفتاء

بمعني ضرورة الالتزام بكل المتطلبات الأساسية لعملية الاستفتاء من أجل إنجاحها. وبمعني آخر، لابد أن يعي الجميع أن عملية طرح المشروع للاستفتاء ليست مجرد أن تحدد يوما وتطلب من المشاركين أن يقولوا «نعم» أو «لا» حول مشروع لم يشاركوا في كتابته، ولعل بعضهم لم تتح له الفرصة حتى لقراءته. فهل يُعقل أن يُطلب من المواطن البسيط أن يصوت بـ «نعم» على مشروع دستور، كحزمة واحدة، دون أن يقرأه ولا يعرف مُحتواه.

ثالثا: الاستغلال

بمعني يجب عدم السماح للسياسيين أو الحزبيين أو أي قوى أخرى في المجتمع استغلال مُعاناة الشعب أي الصعوبات الاقتصادية والمالية والصحية التي يعيشها هذه الأيام، من أجل تمرير مشروع مَعيب وتحقيق أجنداتهم الشخصية أو الحزبية أو الجهوية أو العرقية.

فعلى الجميع أن يعي أن الوثيقة الدستورية في حد ذاتها لا ولن تحل أزمات المواطن التي يعيشها، ولا ولن تُخلصه من الفساد والمفسدين، ولا ولن تحميه من عسكرة الدولة.

رابعا: التسييس

بمعني يجب أن يلتزم الجميع بعدم الزج بالقضية الدستورية في المعترك السياسي، مهما كانت الظروف أو الأسباب، وعلى الجميع أن يعوا أن استغلال أي قوى للعملية الدستورية والعمل على تسيسها، لن يقود إلا لتشويهها وإفشالها وربما، لا سامح الله، إلى إجهاض عملية بناء الدولة الحديثة التي يحلم بها الجميع.

الالتزام بالخطوات الثلاث في اعتقادي، من الممكن أن يؤدي إلى توافق حول مشروع الدستور، وتحقيق نتائج يقبل بها الجميع خلال مدة لا تزيد عن خمس وأربعين يوما. وهذه الخطوات هي:

ـ تشكيل لجنة وطنية للتحكيم

وتتكون من شخصيات وطنية ونزيهة ومستقلة وغير جدلية، على أن تشمل هذه اللجنة خمسة عشر عضوا، يختار كل إقليم من الأقاليم التاريخية الثلاثة خمسة أعضاء كممثلين له، بشرط ألا تعترض الأقاليم الأخرى على أي واحد منهم. (ومن أجل عدم تسيس هذه العملية، أقترح أن تقوم مثلا المجالس البلدية مجتمعة في كل إقليم باختيار ممثلي الإقليم). وأن يكون العمل الأساسي والوحيد لهذه اللجنة مُنحصرا في الآتي:

ـ حصر المواد الخلافية

تقوم اللجنة بحصر المواد الخلافية التي يعترض عليها أعضاء الهيئة المعارضون للمشروع، على أن تتم هذه العملية في مدة لا تزيد عن سبعة أيام من تاريخ اختيار هذه اللجنة.
ـ تضمين المواد التوفقية للمشروع

تعتبر اللجنة المواد التي لم يعترض عليها أحد، مواد توافقية يتم تضمينها للمشروع الذي سيُعرض على الشعب للاستفتاء عليه.

ـ الإستماع لكل الأطراف

تقوم اللجنة، بعد حصر المواد الخلافية، بالاستماع لكل الأطراف، المؤيدين والمعارضين، في جلسات مفتوحة ومنقولة على الهواء من خلال الإعلام.

ـ تخصيص وقت محدد للنقاش

تقوم اللجنة بتخصيص وقت محدد للنقاش، على أن تخصص ساعة واحدة فقط (تُقسم بالتساوي بين الطرفين) لنقاش كل إشكالية.

ـ ضمان علنية النقاش

يكون النقاش علنيا ويتم نقله على محطات الراديو والقنوات الفضائية، لكي يتعرف المواطن البسيط على نقاط الاختلاف في المشروع والحلول المطروحة للتعامل مع كل منها.

بعد الاستماع إلى وجهات النظر المختلفة، تقوم اللجنة بالفصل في هذه المواد الخلافية، وتتخذ قراراتها بالتوافق، وفي حالة عدم الوصول إلى توافق، يتم اتخاد القرار بأغلبية الثلتين زائد واحد (أي بأغلبية 10 + 1) من مجموع أعضاء اللجنة.

ضرورة اعتبار حكم اللجنة نهائيا ومُلزما لجميع الأطراف، واعتباره حلاً توافقياً للإشكاليات، وتتم إضافته إلى بقية المواد المتوافق عليها في المشروع.

ثانيا: الرجوع لدستور 1951 فيما يتعلق بالإشكاليات المتبقية

بعد الانتهاء من الخطوة الأولى، يتم الرجوع، فيما يتعلق بالإشكاليات المُتبقية، لما نص عليه دستور 1951، واعتبار ما ورد في هذا الدستور هو الحل التوافقي والنهائي لهذه الإشكاليات، وتتم اضافة المواد المتوافق عليها إلى المشروع.

ثالثا: العودة لرأي الشعب في الإشكاليات

يتم الذهاب للشعب للحكم وقول الكلمة الأخيرة في الإشكاليات التي لم يتم التوافق عليها. بمعني في حالة عدم مقدرة أعضاء اللجنة على الوصول إلى توافق حول ما تبقي من الإشكاليات، وأيضا عدم وجود حلول توفيقية لها فيما نص عليه دستور 1951، يتم أخذها إلى الشعب للاستفتاء عليها.

وبمعني آخر، يجب أن يُترك الأمر للشعب لاختيار الأصلح من بين الحلول المعروضة خلال عملية الاستفتاء، أو أن يتم التوافق على ترحيل ما تبقي من إشكاليات لمرحلة مستقبلية قادمة بعد الاستفتاء على المشروع.

الخلاصـة:

أنا على يقين بأن هذه الخطوات العملية الثلاث ستمكننا من حل الإشكاليات وإنجاز دستور توافقي في أسرع وقت ممكن. وعليه، فالواجب الوطني والأخلاقي يحتم علينا مناقشة وشرح الإشكاليات العالقة في هذا المشروع للمواطن البسيط الذي سيشارك في عملية الاستفتاء، حتى يستطيع اتخاذ قراره بكل وعي وإدراك.

وإذا لم يتم ذلك فحتما سيقود هذا المشروع إلى المزيد من تقسيم المقسم، وخلط المخلوط، وتكريس الجهوية والقبلية والعرقية والمحاصصة المقيتة، وربما سيكون، لا سامح الله، هو المعول الذي سيقضي على الحُلم بان يكون لنا وطن.

فهل في الإمكان العمل بهذه المبادرة ومحاولة القيام بما نستطيع؟

أدعو الله أن يتحقق ذلك.

___________________


مواد ذات علاقة