بقلم ميرفت عوف

لا يزال الحديث عن جملة الانتصارات التي حقّقتها حكومة الوفاق الليبية خلال عملية “عاصفة السلام” التي أُطلقت في 25 من مارس/آذار 2020 حاضرا في المشهد، حين بدأت الأخبار تتوارد واحدا تلو الأخرى عن جهود الدعم الروسي للواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر.

بل إن مشهد انتزاع أرض قاعدة الوطية الجوية الإستراتيجية (140 كيلومترا جنوب غرب طرابلس) في يوم 18 من مايو/أيار الماضي كآخر معقل عسكري لقوات حفتر آنذاك كاد أن يتزامن مع ما كشفته الأقمار الصناعية حول وصول طائرات مقاتلة روسية إلى شرق ليبيا، وصلت 14 طائرة من طراز ميغ 29 وسوخوي 24 ، كانت القوات الروسية قد أعادت طلاءها في الأراضي السورية بغية إخفاء علاماتها الروسية.

سرعان ما أصبحت تلك الطائرات تتحرك بشكل دوري ومنتظم من الأراضي السورية التي تسيطر عليها موسكو إلى مثيلتها في ليبيا، في نهج واضح لتعزيز القدرات العسكرية من أسلحة وقوات لحفتر وتحصين معقله الشرقي عسكريا وكذلك اقتصاديا، حيث مكّن المقاولون العسكريون الروس قبل أسبوع حفتر من السيطرة على أكبر حقل نفط في ليبيا.

ولمزيد من الدعم العسكري واسع النطاق، عكفت موسكو خلال الفترة القليلة الماضية أيضا على العمل مع النظام السوري من أجل نقل مقاتلين سوريين إلى ليبيا بغية تطبيق مهاراتهم القتالية المكتسبة في الحرب السورية في ليبيا، فقد استجاب شباب مدينة القنيطرة ومدينة دير الزور وغيرها للإغراءات المادية التي قدّمها لهم مخاتير قرى في جنوب وشرق سوريا مدفوعين بأوامر من ضباط مخابرات عسكريين تابعين للنظام السوري.

وبالتالي فنظير المشاركة في الحرب الأهلية الليبية سيحظى المجند بالإعفاء من الخدمة الإلزامية في جيش النظام السوري، وسيُمنح راتبا يبلغ ألف دولار شهريا، كما سيتلقّى مَن يُقتل أو يصاب مبلغا يتراوح ما بين 25.000 إلى 50.000 دولار.

تسارعت وتيرة تجنيد السوريين التي بدأها الروس في عام 2019 تلك في مايو/أيار الماضي، حين كان اللواء المتقاعد حفتر يخسر منطقة تلو الأخرى من مناطق سيطرته في الشرق والغرب الليبي، فحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان جنّدت روسيا أكثر من 900 سوري للقتال في ليبيا في الشهر المذكور، بعد أن دُرِّبوا جيدا في قاعدة عسكرية في حمص، وهي جهود استئنافية لما بدأه الكرملين حين عكف في بداية تدخُّله العسكري في ليبيا على إدخال مرتزقة مدفوعي الأجر إلى صفوف جيش حفتر، من مجموعة فاغنر العسكرية ومن القوات شبه العسكرية السودانية (الجنجويد).

ومع الجهود السابقة، بدأ الروس لا يكتفون بالمساعدة العسكرية لخدمة أجندتهم في ليبيا، فشركة فاغنر أصبحت تُقدِّم خدمات إعلامية وسياسية ومالية في ليبيا، كأن تدخل في شراكة مع قناة “الجماهيرية” التلفزيونية التي تعود لنظام القذافي، وتستحوذ على 50% من رأس مال القناة التي باتت تبث بانتظام، ثم انتقلت تدريجيا للترويج لحفتر عبر شاشتها.

كما دخلت في دائرة اهتمام الشركة الروسية قناة “ليبيا الحدث” التي يملكها صدام نجل حفتر، وأصدرت صحيفة “صوت الشعب” التي تُوزَّع مجانا.

الآن، وفي وقت توقّفت فيه المكاسب العسكرية لقوات الوفاق حول المدينة الساحلية الإستراتيجية في سرت وقاعدة الجفرة الجوية التي تتمركز فيها قوات شركة فاغنر الروسية، تزداد ساحة المعركة في ليبيا تعقيدا بسبب التحركات الروسية التي تعمل على إطالة أمد الصراع مستغلة ضعف حفتر ووصول النفوذ الأميركي في ليبيا إلى أدنى مستوياته.

موسكو كانت قاب قوسين أو أدنى من الحصول على الفرصة السانحة التي تُكسبها المزيد من النفوذ في ليبيا، وتُتيح للرئيس الروسي أن يُحقِّق هدفه من المشاركة في المعركة الليبية المُتمثِّل في بسط موسكو لنفوذها على البحر الأبيض المتوسط، والتأثير في صناعة النفط بشكل أكبر، وتأمين عقود البنية التحتية المربحة في ليبيا، والاقتراب أكثر من أن تصبح روسيا لاعبا إستراتيجيا في البلاد التي تُعَدُّ “خاصرة أوروبا الرخوة” أمام موجات اللاجئين، حيث يمكنها من خلال ليبيا الضغط على الاتحاد الأوروبي من أجل إنهاء المجموعة الشاملة من العقوبات الاقتصادية التي فرضها الاتحاد الأوروبي عليها لتدخُّلها العسكري في أوكرانيا في عام 2014.

في السنوات الأخيرة، سعت روسيا لتوسيع نفوذها العسكري في جميع أنحاء أفريقيا، فلم تكتفِ بزيادة مبيعات الأسلحة والاتفاقيات الأمنية، بل نشرت المرتزقة والمستشارين السياسيين في العديد من البلدان الأفريقية غير المستقرة، بما في ذلك ليبيا التي رأت في الوصول إلى موانئها الإستراتيجية فرصا لمزيد من التوسع في القارة السمراء، وفي سعيها لإنشاء موطئ قدم في ليبيا، تحوَّلت روسيا بعد أربع سنوات من الدعم الدبلوماسي إلى الدعم العسكري لصالح حفتر، وبعثت بالطائرات والمدفعية والقوات للتأثير على وجهة المعركة في الأرض الليبية.

وفي سبتمبر/أيلول 2019 بالتحديد ألقى الكرملين بقبعته في الحرب الأهلية الليبية، فنشر مرتزقة في الخطوط الأمامية في معركة طرابلس لدعم حفتر، وكذلك زوّد حفتر بملايين الدولارات بالعُملة الليبية المصكوكة حديثا مما حوَّل البلاد إلى منطقتين ماليتين، وواصل الروس الهيمنة بالخدمات اللوجستية على قوات حفتر، حتى زُوِّد بأجزاء تكميلية للأسلحة، ووفّرت لقواته التدريب العسكري.

وبرغم ما سبق، فإن الكرملين كان منذ البداية مقتنعا أن حفتر الذي وصفه عملاء روس بأنه “صعب المراس” تجاه مستشاريه الروس لن يكون مخلصا للمصالح الروسية في حالة فوزه عسكريا، واستجاب الكرملين إلى توصية حول أهمية تأمين رهاناتهم على حفتر، واستدعاء أطراف متعددة في الصراع، عن طريق التحالف مثلا مع سيف القذافي، الذي يُخطِّط للعودة للساحة السياسية الليبية، حيث تعمل موسكو الآن على استغلال الصراع في ليبيا عبر محاولة إنعاش أجزاء من نظام القذافي لتُضيف لاعبا مهما إلى المزيج.

خلف الكواليس، روسيا تُحيط حفتر بشكل متسلسل بالعديد من شركاء موسكو القدامى من قوات الأمن في عهد القذافي، وتُشجِّع الموالين للنظام القديم على العودة من المنفى، وكما تقول آنا بورشفسكايا من معهد واشنطن:

إذا كانوا يحاولون دعم ابن القذافي، فإن ذلك يزيد من قوة الحجة القائلة إنهم يحاولون وضع أنفسهم كحكم بدلا من دعم مجموعة فردية واحدة“.

ومع ذلك يُعَدُّ إصرار موسكو على دعم حفتر أكثر الآن تحوُّلا زاحفا من حرب بالوكالة إلى دعم مفتوح، بعد أن حقّقت قوات الوفاق جملة انتصارات هي الأهم منذ أطلق حفتر معركته ضد العاصمة طرابلس في إبريل/نيسان 2019، كاستعادة ست مدن أبرزها صبراتة وصرمان، وكذلك منطقتين إستراتيجيتين منحاها السيطرة الكاملة على الساحل الغربي حتى الحدود التونسية، واستعادة لأرض قاعدة الوطية الجوية الإستراتيجية.

إن الدولة التي تُعَدُّ مصدرا قيما للنفط على المدى الطويل مُهدَّدة بأن تخرج من يد روسيا وحلفائها، بل مُهدَّدة بفقدان توازن القوة مع النفوذ التركي الذي أعدّت له موسكو كخيار أقل خسارة لها، حيث كان رد فعل موسكو على الزيادة الكبيرة في عدد مقاتلي الميليشيات المدعومين من تركيا الدفع بمزيد من الميليشيات الموالية لها في ليبيا كما أسلفنا.

في 11 سبتمبر/أيلول 2012، اقتُحمت القنصلية الأميركية ببنغازي من قِبل عناصر مسلحة ترتبط بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، في هذا الهجوم قُتِل السفير الأميركي كريستوفر ستيفنز و3 أميركيين آخرين، مما جعل الحادثة تُشكِّل صفعة كبيرة لإدارة باراك أوباما آنذاك، وكذلك ندبة نفسية في السياسة الأميركية تجاه ليبيا مما دفع واشنطن لتقليص وجودها وأنشطتها في ليبيا، واقتصارها على بضعة أنشطة تهدف إلى محاربة جماعات مثل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وتنظيم القاعدة.

بقيت واشنطن تلتزم إستراتيجية “انتظر وشاهد” في ليبيا حتى وصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى سدة الحكم عام 2016، حينها عجل ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد نحو دعم حليفه في الحرب الليبية حفتر بين أعضاء فريق ترامب للشؤون الخارجية، ارتكز هذا الحشد على أن ليبيا التي انزلقت في مستنقع الفوضى منذ ساعدت حملة الناتو على الإطاحة بالقذافي عام 2011 تسيطر عليها حكومة ميؤوس منها بسبب الاسلاميين في حكومة الوفاق التي تدعمها الأمم المتحدة وتعترف بها واشنطن رسميا.

مقابل ذلك جُمِّل وجه حفتر الذي تعهّد منذ العام 2014 بالقضاء على الإسلام السياسي في ليبيا، وقد وجد حلفاء حفتر من الإماراتيين والمصريين مَن يستمع إليهما في إدارة ترامب بل ويتعاطف معهما، إنه مستشار الأمن القومي آنذاك جون بولتون، الذي كان يقود مركز أبحاث يميني متطرف معروف بهجماته الواسعة على الإسلام السياسي.

لقد كُشِفَ مؤخرا أن بولتون هو مَن منح حفتر إذنا لشنّ هجوم على العاصمة طرابلس في ربيع 2019، حين أظهر في مكالمة هاتفية آنذاك موافقة صريحة لشن الهجوم، وذلك قبيل مؤتمر مقرر للسلام تدعمه واشنطن بين الفصائل المتحاربة في ليبيا، لكن الأكثر مفاجأة هو تمكُّن حليفي حفتر القويين ابن زايد والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من دفع ترامب للإشادة بدور حفتر “المهم في مكافحة الإرهاب وتأمين موارد ليبيا النفطية“، كما قال خلال مكالمة هاتفية مع حفتر في 19 من إبريل/نيسان 2019.

بعد مكالمة ترامب، حاول البيت الأبيض نزع فتيل الجدل بقوله إن الاتصال كان فقط حول جهود مكافحة الإرهاب في ليبيا، إلا أن واشنطن واصلت سياسة التعامل المزدوج في ليبيا، ليتفاقم شعور حكومة الوفاق بالتخلي والخذلان من قِبل الإدارة الأميركية، وقد أيقنت تلك الحكومة أنه في ظل رئاسة ترامب فإن السياسة الخارجية الأميركية تُحدَّد من مراكز الفكر وجماعات الضغط في واشنطن وليس من وزارة الخارجية.

ذلك الأمر دفع حكومة الوفاق لتوطئة علاقاتها مع أنقرة، فوقّعت عقدا مدته عام بقيمة تزيد على مليون دولار بعد أسبوعين فقط من مكالمة حفتر وترامب، ومع هذا واصلت الوفاق تحذير واشنطن من حفتر، ونجحت في خطوة ضغط ماهرة بإقناع واشنطن بأن روسيا تريد تشكيل حكومة استبدادية في ليبيا تتجاهل خطط الأمم المتحدة.

ذلك الضغط أدّى إلى أن يبعث ممثلو البيت الأبيض ووزارة الخارجية والبنتاغون في 25 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي برسالة واضحة إلى حفتر تُشدِّد على أن الولايات المتحدة تدعم سيادة ليبيا كاملة، وتُعرب عن القلق البالغ “إزاء استغلال روسيا للصراع على حساب الشعب الليبي”.

وإلى جانب الفوضى التي سبّبها قتال أطراف عدة في ليبيا لتحقيق مصالح خاصة، دفعت سياسة التقاعس الأميركية في ليبيا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لاستئناف إستراتيجيته القائمة على سد الفجوات في القيادة التي تُخلِّفها وراءها واشنطن.

في غياب إجراء أميركي حاسم وعدم استجابة إدارة ترامب للأصوات الأميركية التي تُطالب بأن تحافظ بلادهم على بصمة قوية في المنطقة، اغتنمت موسكو فرصة إدراج نفسها كوسيط قوة إقليمي في ليبيا تحل محل النفوذ الأميركي في شمال أفريقيا، فكما يقول يوجين رومر، مدير برنامج روسيا وأوراسيا في مؤسسة كارنيغي:

في نهاية المطاف، أي تسوية مستقبلية في ذلك البلد (ليبيا) يمكن أن يكون بمنزلة نقطة انطلاق لبناء النفوذ الروسي في شمال أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط، ووضع روسيا باعتبارها أكثر شوكة في جانب الولايات المتحدة وحرب ما بعد الحرب الباردة التي كانت تحتكر الأنشطة البحرية في البحر الأبيض المتوسط“.

ختاما، يريد الرئيس الروسي بوتين أن يقيم نفسه في ليبيا بالطريقة نفسها التي حفرها في سوريا، يمضي نحو ذلك وهو يعي مدى حاجة حفتر الذي لا يزال يسيطر على مناطق حيوية في ليبيا إليه كحليف بيده تقديم ما يلزم من دعم عسكري يدفع نحو تغيير وجهة المعركة في ليبيا.

لكن لا تزال هناك معضلات تواجه هذه الرغبة الروسية ليس أقلها العمل الأميركي المتأخر الذي يدعو الآن حكومة الوفاق لإحباط عملية لبناء قاعدة عسكرية على ساحل البحر المتوسط الليبي ويُلقي المزيد من الضوء على تصرفات روسيا في ليبيا.

أصدر البنتاغون قرارا لمواجهة روسيا علانية بشأن نشر طائرات مقاتلة من طراز “ميغ 29” واتهامها بأن ذلك يهدف إلى التصدي لمحاولات إحباط الجهود المبذولة لإنقاذ السياسة الأميركية في ليبيا، وتضمن التهديد بفرض عقوبات على جميع الجماعات المشاركة في تقديم الأسلحة إلى ليبيا، بما في ذلك مورّدو الأسلحة وشركات الشحن وشركات التأمين، فعزل روسيا في محاولاتها لإمالة ميزان القوى في ليبيا أفضل طريقة لوقف محاولاتها لزيادة نفوذها في شمال أفريقيا.

***

ميرفت عوف ـ صحفية من فلسطين، وباحثة في مجال الإعلام الجديد، حاصلة على الماجستير عام 2012، عملت في جريدة القدس ومجلة اليمامة، وموقع إسلام أون لاين.

_____________

الجزيرة

مواد ذات علاقة