بقلم خليل العناني

مرّ عقد على ثورات “الربيع العربي” التي انطلقت في تونس، واشتعلت في مصر بعدها بأسابيع قليلة، قبل أن تنتقل إلى ليبيا وسورية واليمن والبحرين.

وعلى عكس ما يعتقده بعضهم أن هذه الثورات لم تفضِ إلى شيء إيجابي، ولم تحقق أهدافها، وفي مقدمتها إقامة أنظمة سياسية ديمقراطية وعادلة، فإن قليلاً من التأمل يكشف أن هذا الأمر غير صحيح على الإطلاق، فكل ما يدور حولنا يذكرنا بالربيع العربي وثوراته ومطالبه، حتى وإنْ حاولنا الهروب منها.

وإذا كان هذا الربيع هو بمثابة حلم رومانسي لشبابٍ كثيرين في العالم العربي، فهو بمثابة كابوس مرعب لحكوماتهم وأنظمتهم السلطوية.

انظر حولك فقط، فلن تجد زين العابدين بن علي في تونس، ولا حسني مبارك في مصر، ولا القذافي في ليبيا، ولا علي عبد الله صالح في اليمن. جميعهم رحلوا عن السلطة وعن الحياة خلال السنوات الماضية، بعد أن أطاحتهم شعوبهم.

وانظر إلى الثمن الذي يدفعه السلطويون العرب حالياً من أجل البقاء في السلطة، فقد كشفت أحداث العقد الماضي أن تكلفة الاستبداد ورفض التغيير السياسي باهظة جداً، وأن الأنظمة التي ترفض الإصلاح والتغيير تدفع ثمناً باهظاً من أجل بقائها في الحكم.

وذلك كما هو الحال في سورية التي تم تدميرها بسبب رفض بشار الأسد الاستجابة لمطالب التغيير، ولم تعد هناك دولة ذات سيادة يمكنه أن يحكمها، بعدما أصبحت سورية تحت حماية القوى الأجنبية ووصايتها، خصوصا إيران وروسيا.

كذلك فإن تكلفة انقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر مرتفعة جداً، حيث أصبح معروفاً على الساحة الدولية أنه أسوأ ديكتاتور في الشرق الأوسط، كما أنه اضطر للتضحية بدور مصر ووزنها الإقليمي من أجل إرضاء حلفائه الإٍقليميين الذين يدعمونه، خصوصا الإمارات والسعودية وإسرائيل.

كذلك انظر إلى رعاة الثورة المضادة، خصوصا الإمارات والسعودية، الذين بات عليهم أن ينفقوا أموالاً طائلة بغرض وقف أي محاولات للتغيير، وضمان عدم وصولها إليهم وإطاحة عروشهم.

وهم الآن متورّطون حتى آذانهم في حروبٍ وصراعاتٍ داميةٍ في اليمن وليبيا وسورية، ويمولون المرتزقة وأمراء الحروب، كما الجنرال خليفة حفتر. وقد وصلت سمعتهم الدولية إلى الحضيض، بسبب قتل الأطفال والمدنيين في اليمن.

بل إن شراسة الثورة المضادة في حد ذاتها دليل على نجاح “الربيع العربي” في تحقيق أهدافه، وأهمها رفع تكلفة الاستبداد، فكل ما تفعله الإمارات ومصر والسعودية الآن هو محاولة إيقاف تكرار تجربة الثورات والانتفاضات العربية بأي ثمن.

وحسب بعض الإحصاءات، فقد تجاوزت المساعدات المالية والاقتصادية التي قدمتها أبوظبي والرياض للسيسي أكثر من 40 مليار دولار، ناهيك عن صفقات السلاح التي مولتها من فرنسا وإيطاليا وروسيا وأميركا.

بالإضافة إلى الدعم السياسي الذي قدّمته من أجل تحسين صورة السيسي في واشنطن، من خلال اللوبيات وجماعات الضغط، حيث لعب السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، دوراً محورياً في تسويق انقلاب “3 يوليو” (2013) لدى الإدارة الأميركية. ولا يزال العتيبة يقدّم الدعم اللازم لنظام السيسي في واشنطن، من أجل تحسين صورته أمام الرأي العام الأميركي.

في الواقع، كشفت تجربة “الربيع العربي” أن بنية الاستبداد العربي قابلة للاهتزاز والكسر، وذلك على الرغم من سطوة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية واستخدامها كل وسائل التعذيب والقتل وانتهاك حقوق الإنسان للتخويف والترهيب، فمن كان يتخيل أن نظام مبارك الذي استمر ثلاثين عاماً سوف يسقط في 18 يوماً فقط؟

ومن كان يعتقد أن ديكتاتور ليبيا معمر القذافي سوف يتم العثور عليه مختبئاً في حفرة بعد شهور قليلة من الثورة عليه؟

ومن كان يتخيّل أن يلقى طاغية اليمن على عبد الله صالح مصير القذافي، ويتم قتله بطريقة بشعة، لا تتناسب مع بقائه في السلطة أكثر من ثلاثة عقود؟!

شراسة الثورة المضادة في حد ذاتها دليل على نجاح “الربيع العربي” في تحقيق أهدافه

ولعله من المفارقات أنه على الرغم من المحاولات المتواصلة لقوى الثورة المضادّة لوقف “الربيع العربي” وإجهاضه، فقد شهدت المنطقة العربية عدة انتفاضات وثورات خلال العامين الأخيرين.

ففي عام 2019، اندلعت موجة ثانية للربيع العربي، وشملت السودان والجزائر والعراق ولبنان. وخرج المتظاهرون إلى الشوارع بالآلاف من أجل تغيير أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فسقط الرئيس السوداني عمر البشير الذي استمر في السلطة ثلاثين عاماً، واستقال الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة من الرئاسة بعد مظاهرات حاشدة استمرت شهورا.

وانتفض العراقيون واللبنانيون احتجاجاً على الفساد والطائفية، ورفضاً لهيمنة القوى الخارجية على القرار السياسي الداخلي. كذلك انتفضت شرائح عديدة من المجتمع المصري خلال سبتمبر/أيلول 2019 وسبتمبر 2020 للمطالبة بتحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، على الرغم من القمع الشديد الذي يمارسه نظام السيسي.

قد تبدو حصيلة ثورات “الربيع العربي” هزيلة مقارنة بالتضحيات التي وقعت حتى الآن، سواء في مصر أو ليبيا أو سورية أو اليمن، ولكن الحقيقة التي لا مفرّ منها أن مطالب هذه الثورات قد أصبحت بمثابة مرجعية للشباب العربي الذي يحلم بالحرية والكرامة والعدالة، والذي لن يتوقف حتى يحقق حلمه آجلاً أو عاجلاً.

*************

عشر سنوات على الربيع العربي” ..أحلام تراوح مكانها

قبل عشر سنوات، انطلقت ثورات “الربيع العربي” وشهدت المنطقة انهياراً سريعاً لأنظمة بدا أن الخلاص منها مستحيلا، لكن تحولت الأحلام في بعض الدول إلى كوابيس ولم يمنع ذلك حدوث موجة احتجاجات ثانية. فماذا تبقى من “الربيع العربي”؟

قبل عشر سنوات، انطلقت ثورات شعبية لم يتوقع أحد حدوثها في العالم العربي، وأثارت أحلاما بالحرية، قبل أن تتدحرج كرة الثلج هذه في معظم الدول التي انتقلت إليها وتحطمّت آمالاً كثيرة. لكن هذا الحدث التاريخي غيّر وجه المنطقة برمّتها.

وبدأت شرارة “الربيع العربي” بعود ثقاب أشعله البائع المتجول محمّد البوعزيزي بجسده بعد صبّ الوقود على نفسه في ولاية سيدي بوزيد في تونس احتجاجاً على احتجاز السلطات المحلية بضاعته في 17 كانون الأول/ديسمبر 2010.

وأطاحت الانتفاضات الشعبية بدكتاتوريات متجذرة حكمت لعقود بقبضة من حديد. وحرّكت لحناجر التي كانت تصدح بهتاف مشترك “الشعب يريد إسقاط النظام”، مشاعر الملايين في كل أنحاء العالم.

واختصرت رغبة جيل كامل كان يجهل حتى الآن قدراته، بالحرية والتحرّر من الخوف. وُلد نموذج جديد للشرق الأوسط مستنداً إلى إدراك جماعي بأن الطغاة لم يعودوا في أفضل أحوالهم، وأن التغيير يمكن أن يحدث من الداخل، وليس فقط كنتيجة لتغير في الخارطة الجيوسياسية العالمية.

وشهد الشرق الأوسط انهياراً سريعاً لأنظمة بدا أن الخلاص منها كان مستحيلا. وأطلق على هذا الزلزال السياسي والجغرافي الذي هزّ المنطقة بدءاً من 2011 اسم “الربيع العربي”، وقد أدى إلى نتائج متفاوتة. فالتظاهرات الشعبية الحاشدة في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا تبعتها إصلاحات مخيبة للآمال في أحسن الأحوال، أو ردود فعل قمعية من أنظمة دكتاتورية، ولكن أيضا نزاعات دامية.

“الخريف العربي”

ولكن ثمار “الربيع العربي” المنتظرة لم تزهر كما توقعت الشعوب. في 2019، عنوان الكاتب الأميركي نوا فيلدمان كتابا حول الموضوع “الشتاء العربي”، وهو مصطلح ظهر هنا وهناك مع عسكرة الثورات وصعود التطرف الديني واندلاع الحروب والنزاعات.

على غلاف الكتاب الخلفي، كتب الأكاديمي البارز مايكل إغناتيف أن المؤلف يسلط الضوء على “أحد أهم الأحداث في عصرنا: الفشل المأسوي للربيع العربي”. فباستثناء تونس، لم تملأ أي إصلاحات ديموقراطية الفراغ الذي خلّفه سقوط الأنظمة، وعلا صوت العنف.

ومع ذلك، فإن روحية الثورة لم تمت بعد، وهو ما تجلّى بعد ثماني سنوات في اندلاع موجة ثانية من الانتفاضات الشعبية في كل من السودان والجزائر والعراق ولبنان.

وتعتبر لينا منذر، وهي مؤلفة ومترجمة لبنانية لعائلتها جذور سورية ومصرية، أنّ شيئاً ما “في نسيج الواقع نفسه” تغيّر منذ اندلاع الثورات. وتقول “لا أعلم إن كان هناك ما هو أكثر إثارة للمشاعر أو نبلاً من شعب يطالب بصوت واحد بحياة كريمة”.

وتضيف “يثبت ذلك أنّ أمراً مماثلاً ممكن، وأنه يمكن للناس أن يثوروا ضد أسوأ الطغاة، وأن هناك ما يكفي من الشجاعة لدى الناس الذين يقفون ويعملون معاً لمواجهة جيوش بأكملها”.

ماذا تبقي من “الربيع العربي”

كتبت الروائية المصرية أهداف سويف أنه من المبكر تحديد إرث تلك الثورات التي ما زالت في طور التنفيذ. وتقول “الظروف التي عاشت الشعوب في ظلها منذ منتصف السبعينات، أودت إلى الثورة. كان أمراً حتمياً ولا يزال كذلك”.

وترفض سويف، على غرار ناشطين آخرين، ربط صعود الإسلام الراديكالي بالثورات، بل ترى فيه “ثورات مضادة” غذّت كل أنواع الحرمان والفقر التي يقتات عليها الجهاديون.

كما ترفض مقولة إن مصر عادت إلى ما قبل العام 2011، بل تعتبر أن الناس اليوم باتوا أكثر “وعياً ويقظة” لما يدور حولهم. وتوضح أن هناك اليوم “ثورة اجتماعية أحرزت تقدماً كبيراً في قضايا عدة، مثل حقوق المرأة وحقوق المثليين”، مشيرة في الوقت ذاته إلى أنّ “الطريق لا يزال طويلاً أمامهم”.

وتعليقا على خروج تظاهرات حاشدة في السودان والجزائر والعراق ولبنان، يقول الأستاذ في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية التابعة لجامعة لندن أرشين أديب مقدم إن المطالب الرئيسية للتظاهرات ستعود وتخرج إلى العلن “في أقرب فرصة وكأنها تسونامي سياسي”.

ويضيف صاحب كتاب “الثورات العربية والثورة الإيرانية: القوة والمقاومة اليوم”، “شعوب المنطقة وضعت معياراً جديداً للسياسة والحوكمة التي تطالب بها. ومنذ ذلك الحين، تقاس كل السياسات بحسب تلك المطالب”. ويرى أن “أي دولة لا تدرك هذه الحقيقة الجديدة يكون مصيرها الدخول في مواجهة”.

نظرة الشعوب لحكامها تغيرت

ويظهر التاريخ أن الثورات تحتاج عادة إلى سنوات طويلة، غالبا ما تكون صعبة، لبلوغ نتائجها. إلا أنه ليس من السهل العودة عن التغييرات التي تطرأت على أشخاص شاركوا في تلك الثورات أو كانوا شهودا عليها.

وتقرّ المؤلفة والمترجمة لينا منذر، أنه بغض النظر عما ينتظرها، فإن الطريقة التي تنظر بها الشعوب إلى قادتها أو إلى العالم أو حتى إلى نفسها، قد تغيرت إلى الأبد. وتقول “عشنا فترة طويلة في عالم حاول أن يغرس فينا فكرة أن الفكر المجتمعي مشكوك بأمره، بل أن الفردية هي مرادف للحرية، لكن هذا ليس صحيحاً. الكرامة هي مرادف الحرية”.

وتضيف منذر “هذا ما علمنا إياه الربيع العربي، في أيامه الأولى المثالية. (…) ندفن الدرس أو نبني عليه، هو أمر يبقى أن ننظر فيه… لكن لا أتمنى بتاتاً أن أعود إلى الأيام السابقة”.

خلال السنوات الماضية، كان دائماً يُنظر إلى “ثورة الياسمين” في تونس على أنها الثورة التي يجب الاحتذاء بها. فقد تمّ تفادي إراقة الدماء في تونس، وابتعد السياسيون كما المواطنون عن أي عمل من شأنه أن يؤدي إلى تقسيم البلد.

ويعتبر نوا فريدمان في كتابه “بالمقارنة مع الفشل في مصر والكارثة في سوريا، تبدو تونس وكأنها العلامة الفارقة في الظاهرة الإقليمية”. ورغم أن الدولة الصغيرة في شمال إفريقيا بقيت أفضل حالاً من الدول الأخرى، إلا أنّ مكاسب ثورة 2010 لا تزال غير ظاهرة.

____________

مواد ذات علاقة