بقلم علي اللافي

رغم التقدم النسبي لعملية التسوية السلمية برعاية الأمم المتحدة، تدور في الكواليس وعلى الأرض ترتيبات لدفع أطراف ليبية لإشعال الصراعات وتقديم مبررات العودة لمنطق الحروب والمعارك خاصة في ظل تحشيدات كبيرة ومستمرة منذ أشهر وخاصة في “الجفرة” و”سرت” وبعض مدن الجنوب.

ومعلوم أن قوات اللواء الليبي المتقاعد “خليفة حفتر” جست النبض منذ أسبوعين عندما حاولت السيطرة على معسكر تابع لقوات الوفاق في منطقة “أوباري” (جنوب غرب ليبيا –وهي التي تعد منطقة نفطية مهمة)، وتزامن الهجوم يومها مع زيارة “السيسي” حليف حفتر الرئيسي لباريس.

ورغم خطوات اختراق ترتيب التسوية السياسية من خلال محاولة إبقاء السراج رئيسا للرئاسي وتشكيل حكومة يقودها شخصية محسوبة على “حفتر” (أو باقتراح منه) فان ذلك قد يُمهد لمنطق الحرب عبر قول “حفتر” ومن وراءه أنه لم يُستجب لشروطه أو هو غير راض عنها أو القول أنه قبل وأن غيره هو من نقض بعض تفاصيلها.

هذا السيناريو يذكّر بنقض “حفتر” نفسه لاتفاق أبو ظبي 2 ومخرجات حوار النزل الغابي في أمستردام، وقيامه يومها بمهاجمة جنوب العاصمة في أبريل2019 ورغم الظروف غير الظروف وتغير الاصطفافات محليا واقليما ودوليا ورغم أن تقييم مُقربين منه وحلفائه أن ذلك كان فخّا لهم من حيث الترتبات التي جاءت بعدها، والواقع أن المجتمع الدولي لم ولن يسمح بالمس بمصالحه الاستراتيجية والآنية. كما أن “حفتر” أصبح ضعيفا اكثر من ذي قبل وهو يعرف أن ظروفه الصحية والاجتماعية (انقسام قبائل الشرق بينه وبين خصمه/حليفه “عقيلة صالح”) ليست في صالحه.

ولكن يبقى السؤال المطروح هل يساير الرجل طبيعة شخصيته وينساق لنرجسيته العالية ومن ثم يتجاهل الوقائع والتوازنات ويدخل حربا جديدة ضد خصومه وهم كثيرون، رغم أنه يعي انها قد تكون مجرد مغامرة فاشلة وأنها قد تدخل ليبيا في مستنقع الحرب الأهلية والكارثية لا على ليبيا فقط بل على كل المنطقة؟

  • هل يفكر “الجنرال” في تكرار سيناريو الحرب، وهل سيقع في الفخ مجددا؟

يتساءل المراقبون منذ مدة حول مدى صحة وجود خطة لـ”حفتر”وبعض حلفائه الإقليميين والدوليين في إفساد وقف إطلاق النار رغم التقدم المسجل في مسارات ملتقى الحوار السياسي الأربع خاصة أن تلك المسارات لن تمنح أولئك الحلفاء العطايا والمميزات التي رتبوها وكانوا يتوقون إليها إذا هزم “حفتر” خصومه في المنطقة الغربية (بالمعنى السياسي لا الجغرافي).

كما أن المسار السياسي في قراءة بعض دول محور مصر/الامارات/السعودية سيُمثل انتصاراً مرحليا ولو جزئياً لتركيا وقطر وغيرهما من حلفاء الوفاق والمنطقة الغربية ذلك أن “حفتر” الشخص لم ولن ينسى أنه توعد أعضاء حكومة الوفاق وشركائها المحليين والاقليميين بالويل كما أنه لن ينسى انه تعهد لأنصاره وحلفائه بدخول طرابلس منذ نهاية 2018.

كما أن افساد “حفتر”لوقف إطلاق النار الحالي بعد أيام أو بعد أسابيع يبقى امرا قائما ومنتظرا ومرتقبا وهو لم ولن يكن الأول من نوعه فالجنرال المتقاعد وفي لسياسة نقض تعهداته والتزاماته فهو من انقلب على جيش القذافي في سجنه في التشاد، وهو أيضا من استقال من جبهة الإنقاذ المعارضة في 1993 وهو من عاد لحضن القذافي عبر وساطة قادها يومها “عبدالرحمن الصيد”، وهو من انقلب على “المؤتمر الوطني” وقام بانقلاب تلفزيوني أبيض، وهو من انقلب على “عقيلة صالح” في كل مرة يكون سابقا مادحا له، وهو من انتقد”أنصار القذافي”ورذلهم بعد أن مكنوه من بناء قواته وقادوا كتائبه.

كما سبق لحفترأن أفسد جهود الأمم المتحدة التي كادت تصل لاتفاق بموافقة جميع الفرقاء، بمن فيهم هو نفسه لحل الأزمة في عام 2019، بل أن ذلك تزامن مع وجود الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريتش” في العاصمة طرابلس- استعداداً لعقد المؤتمر الدولي للتوقيع على خارطة الطريق المتفق عليها- وتوجه “غوتيريش” بالفعل إلى “بنغازي” وعقد اجتماعاً مع حفتر بهدف إثنائه عن هجومه على العاصمة والعودة لطاولة المفاوضات، لكن ذلك الاجتماع لم يؤدِ لأي نتيجة، وغادر “غوتيريتش” ليبيا خائبا ومفطور القلبوفقا لنص تغريدتهيومها.

ما علاقة أي تصعيد مفترض بالرئيس الأمريكي “بايدن”؟

مالم يعيه حفتر والمقربين منه أنه ليس إلا وكيلا محليا لأطراف إقليمية ودولية مثله مثل بعض خصومه ومناوئيه، فهم جميعا ضيقي الأفق الاستراتيجي ويخوضون حربا بالوكالة في بلادهم وضدها لصالح أذرع إقليمية وهذه الأخيرة هي أصلا خادمة لقوى دولية تسعى فقط لنهب ثروات ليبيا الهائلة والنادرة.

والسؤال هو لماذا لم ينتبه “حفتر” أن داعميه لم يقيموا له حتى مشروع سياسي يمكنه من الحكم في حالة انتصر فعلا، ولماذا لم يع أنه يلاعب من طرف أولئك الحلفاء ولكنه لم ولن يكون لاعبهم النهائي.

البعض يؤكد أن هجوم قوات حفتر أو التصعيد الأخير في اوباري تحديدا ما هو الا جس نبض من طرفه لاختبار رد الفعل التركي والأمريكي بعد وصول “بايدن” للسلطة، كما أنه ربما خطوة استباق للزمن قبل مباشرة ساكن البيت الأبيض الجديد والذي يوحي اسم وزير خارجيته انه سيبحث الاستقرار التام في شمال افريقيا.

ومعلوم أن موقف إدارة “ترامب” في الفترة الأخيرة أقرب لتركيا في الملف الليبي – بل هو موقف متفهم لتدخلها في ليبيا باعتباره وازناً للتدخل الروسي- بل أن بعض المتابعين يؤكدون أن تركيا لم تدخل الساحة الليبية بهذه الكيفية الا بضوء اخضر كبير ودفع من إدارة “ترامب” وأساسا من قبل وترتيب من الدولة العميقة الامريكية التي عادت بقوة لمتابعة وإدارة الملف الليبي وكل ملفات القارة الافريقية .

من الصعب تكهن موقف إدارة “بايدن” من الصراع الليبي من حيث تفصيلاته والآليات الاستراتيجية والتكتيكية التي سيعتمدها خاصة أن الرئيس الأمريكي الجديد لديه توتراته مع كل من الرئيس التركي مثلما له توتراته مع الرئيس المصري “عبدالفتاح السيسي”، والثابت أنه لن يترك الملعب فارغاً بنفس الطريقة للحلفاء الخليجيين للتلاعب بالمنطقة دون قيود، وهو ربما ما سيشجع حلفاء حفتر لمسابقة الزمن ودفع “حفتر”المهيئ نفسيا وشخصيا للقيام بخطوة استباقية لخلط الأوراق وصناعة وقائع على الأرض.

وفي الخلاصة لا يُمكن تغييب أن الموقف التركي في ليبيا سيبقى لاحقا وفي ظل إدارة “بايدن” أقرب للمصالح الغربية والأمريكية من خلال التصدي للجنرال “حفتر” الذي يعد حليفاً لروسيا ويعتمد بشكل كبير على المرتزقة والسلاح الروسيين رغم أن التعقيدات في هذه النقطة كثيرة ومتشابكة وتقلل من أي أحكام مفترضة .

كل النقاط السابقة تؤكد أن حفتر ليس من السهل عليه تجاوز الأضواء الحمراء والمصالح الغربية ذلك انه في أبريل2019 منح الضوء “الأصفر الرفاف” وليس الضوء الأخضر كما يروج البعض، والثابت يومها أنه مُنح الفرصة للقيام بعملية سريعة وخاطفة وان ينهي الأمر بسرعة وهو ما أثبتته مكالمته يومها مع ترامب/بولتون حتى أنه مُنح فرصا أخرى آخرها في 9 أغسطس 2019 ولكنه أربك الأوراق ولم يحقق نتائج ليضع حتى حلفائه الروس في مأزق عندما رضخ للإماراتيين ورفض في 12 جانفي/يناير 2020 امضاء وقف إطلاق النار.

إن المجتمع الدولي لم ولن يسمح مستقبلا بإعادة الأمور للنقطة صفر والاضرار تباعا بمصالحه وبالتالي نعتقد جازما أن “حفتر” يُهدد ويبعث الرسائل ولكنه لم ولن يتحرك وان تحرك فانه سيقع في الفخ ـ وأي فخ ـ إنه البئر الأخيرة لطموحاته وتاريخه وأغلبه لم يكن تاريخا موفقا رغم بعض إنجازات لا يمكن تغييبها على غرار قبره لمشروع الفيدرالية.

“حفتر”يُناور إعلاميا وفي الواقع هو لا يلتزم بشروط الهدنة

بعد مرور أكثر من شهر ونصف على الاتفاق العسكري الليبي، الذي تضمن إخلاء خطوط المواجهة في محور سرت- الجفرة من المرتزقة، لا تبدي قواته ما يثبت استعدادها لتنفيذ هذا الشرط، بل على العكس من ذلك عاد “حفتر” لحشد ميليشياته والمرتزقة الأجانب على الجبهتين الغربية والجنوبية بمدينة “سرت” في الوقت الذي تجتمع لجنة (5+5) العسكرية في مقرها الدائم للإشراف على تنفيذ اتفاق جنيف لوقف إطلاق النار.

وما يؤكد ذلك هو رصد تحركات كبيرة لقواته وميليشيات “حفتر” في جنوب وغرب سرت، وتحشيد للمرتزقة والأسلحة بكميات مهولة وتحركات مستمرة ومناورات شبه دورية إضافة الى استمرار قدوم الأرتال القادمة من الشرق باتجاه الغرب، وهذا يدل على احتمالية نقض “حفتر” للعهد، والإخلال باتفاق 5+5″ خلال الأسابيع القادمة.

المؤكد أن من أهم بنود اتفاق 5+5 العسكري، الذي تم توقيعه في 23 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بجنيف، إيقاف تام لإطلاق النار ورجوع القوات المرابطة في سرت والجفرة إلى معسكراتها، وإخراج “المرتزقة” من البلاد خلال 90 يوماً.

وعقب الاتفاق عقدت اللجنة العسكرية المشتركة اجتماعاً ناجحاً في مدينة غدامس (400 كلم جنوب غرب طرابلس) وآخر في مقرها الدائم بسرت، تم فيهما وضع آليات تنفيذ ما اتفق عليه في جنيف، وخاصة ما تعلق بإنشاء لجان عسكرية فرعية وأخرى أمنية، وكل ذلك يعني أن إرسال أرتال عسكرية إلى خطوط التماس يتناقض مع روح الاتفاق، الذي يهدف إلى نزع فتيل الصراع من الاشتعال مجدداً، ويدلي بظلال من انعدام الثقة أمام سلام هش.

التحشيدات والخطوات -سالفة الذكر أعلاه- بيّنت على أن العاصمة قد يقع ارباكها بتحركات لبعض حلفاء موضوعيين لحفترعلى غرار المداخلة وتياراتهم وأنصارهم وان بطريقة غير مباشرة ورغم ان المعادلات السياسية والأمنية قد توحي بذلك، الا أن ما هو صحيح أيضا أن “حفتر” له في مربعاته وفي الشرق تحديدا الكثير من الارباك وعمليا لا تمنحه الوقائع راحة في الشرق بالتوازي مع أي تحركات في اتجاه اشعال معارك وحروب جديدة خارج المنطقة الشرقية أو مواقعه الحالية وهي أصلا مواقع غير ثابتة ولا محصنة تحصينا كاملا.

ما لا يمكن تغييبه أيضا ويدفع باتجاه تفكير قوات “حفتر” في حرب جديدة تخلط الأوراق هو تعدد التقارير الإعلامية التي تتحدث عن تزويد قواته براجمات صواريخ صربية حديثة تسمى “مورافا”، تم الكشف عنها في 14 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي خلال استعراض بالذخيرة الحية لكتيبة “طارق بن زياد” المدخلية (التابعة لميليشيات حفتر).

كما أن دولة الإمارات سلّمت قواته راجمات الصواريخ “مورافا”، باعتبارها أول دولة أجنبية تستورد هذا السلاح الحديث من صربيا (بدأ تصنيعه في 2011 ودخل الخدمة نهاية 2019)، وكل تلك المعطيات تؤكد أنه مازال يستعد لجولة جديدة من القتال، بالرغم من هزائمه الكبيرة والقاسية في يونيو/حزيران الماضي، كما أن الإماراتيين واصلوا تزويده بالأسلحة رغم الحظر الأممي، كما أن عمليات تهريب الأسلحة لميليشياته تتم أمام أعين عملية “إيريني” البحرية التي أطلقها الاتحاد الأوروبي.

هل عاد حفتر لمنطق “أكون قائداً للجيش أو لا أحد..”

الثابت أن تحركات حفتر العسكرية باتجاه خطوط التماس منذ اسبوعين قد تزامنت مع ترنح الحوار السياسي وتعثره ودخوله في مسلسي “الارجاء” و”التمطيط” وخاصة في ظل فشل رئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح، في الفوز بمنصب رئيس المجلس الرئاسي أولا ثم ثانيا أن المعادلات الجديدة إقليميا ودوليا لم تعد في صالح “حفتر” رغم خطوة السراج في اتجاه روما ولقاء “حفتر” بالإيطاليين وبمدير المخابرات المصرية.

هذا الأخير جاء لإقناع حفتر بصفقة مفترضة عرضها “السراج”، بل ويُقال أنها شبيهة تفصيلا بمضمون اتفاق أبو ظبي2 من حيث الخطوط الكبرى، ولكن مشكل “حفتر” أنه يعي جيدا أن وضعه في الشرق لم يعد مريحا فهو في خلاف مع “عقيلة صالح” – أو أنه في حد ادنى لم يعد مطمئنا لطموحاته وخطواته وتحالفاته مع بعض قوى دولية-

إضافة الى ان السراج واي حلفاء مفترضين في ترتيبات أي صفقة لن يُغيّبوا أن “حفتر” وان ظهر قويا فانه في موقع ضعيف ولم يعد كما كان قبل أبريل2019 وخاصة بعد خروجه من “ترهونة” ومن محاور جنوب العاصمة بتلك الطريقة، كما أن “بايدن” ليس “ترامب” والذي أصلا تراجع عن دعمه ودعم وحلفائه الإقليميين في ليبيا بالذات بل وتحول الى حليف للأتراك.

حاول حفتروحليفه المصري لعب ورقة “أحمد معتيق” ثم حاول كسب “مصراتة” والبحث عن صفقة، ولكن كل محاولاته ترنحت وعرفت السلبية وهو ما يعني أنه سيبحث عن حلول خارج المربعات السياسية وهو أصلا محبذ للحسم عبر الحروب.

ولكن الأفق ضيق في كل الاتجاهات وسيضطر بالتالي للهدوء لأيام أخرى وانتظار تطور الأمور خلال الأيام والأسابيع القادمة بناء على ان هناك ترتيب يعرف “حفتر” أنه جار للقيام بتسوية سياسية تطبخ فعليا على نار هادئة وسينتظر هل ستكون التسوية مقبولة بالنسبة له أم لا؟ أو أنه سيقول للجميع أكون قائدا للجيش أو لا أحد؟

ولكنه في الأخير قد يقبل أن يبقى لمدة ثم يختار “الحاسي” أو غيره ليكون وجوده وخروجه ناعمين مقابل ضمان شكلي لوجود أبنائه في المشهد المقبل بغض النظر عن التفاصيل والتي ستبقى في تلك الحالة اجرائية وترتيبية لا غير.

مشكلة حفتر انه حتى لو قبل بتسمية رئيس حكومة وكان ذلك جزء من التسوية فانه لا يثق الا بنفسه وهو الذي حلم ان يكون مثل القذافي وعمل على انتاج القذافي2 وان يكون هو نفسه ذلك المنتج كما أنه اعتبر ان انتصاره في أبريل2019 امرا مسلما به، وهو أيضا حلم ان يكون “سيسي ليبيا” وذلك استحال أيضا فماذا يمكن أن يحدث في ذهنه وآفاقه السياسية، انه لن يقبل باي وضعية الا اذا أُرغم على ذلك ليبحث مجددا عن المناورة والتفكير في الحرب والانتصار المفقود منذ 1987 .

***

علي اللافي– كاتب ومحلل سياسي مختص في الشؤون الافريقية

_____________

المغاربي للدراسات والتحاليل

مواد ذات علاقة