بقلم علي اللافي

قد يُقلل البعض من المتابعين والمحللين من أهمية زيارة الوفد المصري لطرابلس وقد يقول البعض أنها خطوة من بين خطوات تكتيكية ومرحلية، ولكن لا أحد يُمكنه أن يُغيّب أن طبيعة العلاقة بين الجنرال المتقاعد “خليفة حفتر” والقاهرة في أسوأ مراحلها ذلك أنها بدأت في التغيّر والسلبية منذ أغسطس/أوت 2018 .

لقد بدأت يومها التباينات بين داعميه وحلفائه الإقليميين وخاصة حول أنه “عسكري” فقط أو أنه “سياسي وعسكري” في آن واحد، ورغم تواصل دعم المصريين الظاهر له حتى يونيو الماضي فإن المصريين بدوا منذ بداية سنة 2019 يُعيدون ترتيب أوراقهم في الملف الليبي ويُعيدون مراجعة الكثير من جزئيات الملف الليبي ومستقبل علاقاتهم مع مكونات المشهد الليبي عموما.

ولكن السؤال الرئيسي والمهم اليوم هو: هل تغيّرت فعلا مُعادلات العلاقة بين القاهرة وجنرال “الرجمة” (مقر إقامة “حفتر” الحالي) ؟، وهل سيُصبح فعلا مجرد رقم ثانوي في تسوية سياسية تُرسم ببطء وعلى نار هادئة وبعيدا عن الأضواء وفقا لخطة خَطّت وخاطَت معالمها المبعوثة الأممية بالنيابة “ستيفاني وليامز” وقبل بها المصريون ولكنّهم لايزالون يترددون في القبول يبعض تفاصيل ترتيبية ليس إلَّا، وهل يعني أنهم قد تخلوا أو هم بصدد التخلي عن “حفتر” بمرحلية وآليات ناعمة؟

الجزء الثاني

في الجزء الأول من هذه الدراسة التحليلية استعرضنا نقاط أو استفهامات ثلاث وهي:

كيف كانت زيارة الوفد المصري لطرابلس تتويجا لمرحلة وليس نقطة بداية في تغير السياسات تجاه الملف الليبي؟، ومدى ارتباط حفتر بالمصريين ومدى الترابط المنهجي والموضوعي، وما إمكانية تخلي مصر و السيسي؟

أما في هذا الجزء الثاني، فنستعرض النقاط أوالاستفهامات التالية:

كواليس وخلفيات زيارتي مدير المخابرات للرجمة، والوفد رفيع المستوى لطرابلس

من الواضح أن بعض تطورات لاحقة لزيارة رئيس المخابرات المصرية للرجمة ثم زيارة الوفد الرسمي رفيع المستور للعاصمة طرابلس، قد أكدت أنهما – أي الزيارتين- غير عاديتين وأنهما في اتجاه تحويل “حفتر”إلى رقم من بين أرقام عدة في المشهد الليبي وخاصة من حيث التأثير السياسي في الأحداث وفي مستقبل المشهد الليبي مترامي الأطراف والتفاصيل والمتداخل مع ملفات إقليمية عدة.

وذلك ما أدى بالمتابعين القول بتحول الدور المصري نحو الحياد الإيجابي والوساطة بين طرفي الصراع، وهو عمليا تحول عكسته طبيعة النقاش والتعامل أثناء الزيارتين وهو تحول قام على عدة متغيرات وتطورات أبرزها:

ـ ضغوط المجتمع الدولي وخاصة الأميركي نحو تسوية سياسية،

ـ إضافة الى تضارب المصالح المصرية الإماراتية أو ما أسميناه في مقالاتنا منذ 2018 بالتباينات المصرية الإماراتية،

ـ إضافة إلى كشف البعض عن بدايات تنسيق مخابراتي مصري مع تركيا،

ـ كما أن هناك تقييم مصري مفاده فشل مشروع “حفتر” وعدم جدوى تحدّيه لوفاق الشعب الليبي خلال الأشهر الماضية إضافة إلى مرتكزات المصالح الأمنية والاقتصادية المصرية وخاصة العمالة المصرية في السوق الليبي مضاف اليها الثروة النفطية ومشاريع إعادة الإعمار.

وهنا لابد من التأكيد أن الدافع الأكبر لزيارة الوفد المصري لطرابلس هو تتويج لخطوات سابقة وبناء على تطورات في الإقليم واستباق لسياسيات “بايدن” المرتقبة اضافة الى براغماتية المصريين الساعين دوما الى تأمين حدودهم المترامية مع جارتهم الغربية والتي مثَّلت الاحداث فيها منذ 2014 تهديدا مباشرا للعمق المصري.

والثابت أيضا أن المصريين يرون في مدينة سرت الواقعة بين الشرق والغرب الليبي أهمية استراتيجية واقتصادية كبيرة لهم، واصبح لهم قراءة جديدة مفادها أن وجود حكومة ليبية على وفاق مع القاهرة سيمثل دافعا لتسهيل استيراد النفط، خاصة أن المدينة تعد المدخل الأهم للهلال النفطي الليبي، وطبعا فان ليبيا هي بالنسبة للقاهرة أكثر الأسواق جذبا للعمالة المصرية على مدار عقود، قبل أن تتضاءل أعدادها بحكم الأزمة الراهنة، في حين تسعى مصر إلى استعادة هذه المكانة مع تحول دول الخليج إلى بيئة طاردة للعمالة، خاصة بعد تفشي وباء كورونا.

ومعلوم أن موقع “مدى مصر” قد نقل قبل أيام عن مصادر – لم يكشف عنها- أن زيارة الوفد المصري رفيع المستوى للعاصمة الليبية طرابلس كانت لها عدة أهداف؛ أبرزها:

ـ رغبة مصر في “استباق المزيد من التحريض الإماراتي على مغامرة عسكرية، وهو ما يؤكد تنامي التباينات بين الحليفين المصري والاماراتي والتي أكدنا عليها في الجزء الأول من هذه الدراسة، ومما لاشك فيه أن المصريين وخاصة في أروقة المؤسسة العسكرية قد تنبهوا منذ مدة أن الإمارات قد سعت إلى التقزيم المتعمد للدور المصري في السياسة الخارجية، كما ان هناك تقييم مصري غير معلن مفادهأن تحوّل الامارات لعرّاب للتطبيع في المنطقة وعقدها لاتفاقيات تجارية مع الكيان الإسرائيلي سيضر الموارد المالية المهمة التي يتغذى عليها نظام السيسي.

هل يمكن أن يقبل “حفتر” أن يكون ورقة مرحلية ورقما من الأرقام؟

ممَّا لا شك فيه أن كل التطورات سالفة الذكر قد أربكت “حفتر” والمقربين منه مثلما أربكت بعض حلفائه في الداخل والخارج خاصة أنهم – أي حلفاء حفتر- قد انتظروا ان تكون زيارة “السيسي” لباريس داعمة لتواصل التحالف في الملف الليبي، ولعل ما يُشاع في الكواليس منذ يومين من تحركات” صدام حفتر” ولعبه لبعض أدوار والى عودة التسريبات حول مرض “حفتر” من جديد وتنامي الصراعات داخل مربعات “الرجمة”، ماهي إلا ترتبات موضوعية وانه من الصعب عليه في البداية على الأقل تقبل ان يكون رقما من الأرقام ومتأخر في الترتيب الهرمي للسلطة المقبلة في المشهد الليبي.

تصريحات“عقيلة صالح” يوم (30 ديسمبر الجاري)، أي في نفس اليوم الذي تم فيه استئناف نقاشات لجنة الحوار حول اختيار الآلية، هو في الحقيقة دفع بالصراع بين حلفاء الشرق الليبي السابقين، وحفتر يعي طبعا أن أي رئيس حكومة أو رئيس للمجلس الرئاسي لا يدوران في مربعات ضغوطه سيعني وبشكل آلي أنه سيكون مجرد فاعل في المشهد في مرحلة أولى ثم مهمشا في مرحلة ثانية وربما في مرحلة ثالثة قد يطلب منه المغادرة للمنفى الاختياري وربما أيضا الاجباري.

الثابت أن تقبل “حفتر” للتهميش وابعاده عم دور المتحكم الأول في المشهد وعلى الأقل في شرق ليبيا، أمر صعب بل وقد تترتب عليه بعض خطوات قد يرتقي بعضها للمغامرات غير المحسوبة من طرف نجليه “صدام” و”خالد” وخاصة الأول أو حتى مغامرة من طرفه هو بنفسه، وهو ما يعود بنا الى تصريحاته ضد الاتراك والتي لم يكررها بعد تهديده من طرف وزير الدفاع التركي وبعد زيارة الوفد المصري لطرابلس إضافة الى أن لغة الاعلام المصري قد تغيرت وسط انباء عن زيارة ممثل لعقيلة صالح لأنقرة.

كل ما سلف ذكره سيُحيلنا الى سؤال أهم بعد التهميش الواضح لحفتر وهو هل سيخير بين الدور البروتوكولي والمنفى؟

هل سيُخير بين الدور البروتوكولي والمنفى، وهل سيختار بنفسه أن يكون “عيديد” أو “قرنق” أو “دستم”؟

كُل الخطوات المتسارعة في المدة الأخيرة (زيارة رئيس المخابرات للرجمة وطبرق – زيارة الوفد المصري لطرابلس – تصريحات عقيلة عن التوصل لحل سياسي – استئناف الحوار – لهجة الاعلام المصري – تواصل عقيلة مع الاتراك من طرف شخص مقرب من السعوديين بل وكان سفيرا بالرياض)، تُحيل الى العديد من الاستفهامات وحول رؤية المصريين لمستقبل حليفهم السابق والرئيسي في الشرق الليبي والذي من الواضح أنه تحول الى حليف رقم2 بعد “عقيلة” حاليا وبعد من يمثل الشرق في الرئاسي.

الثابت أيضا أنهم – أي المصريين – قد رفضوا أن يكون “العبار” رئيسا للحكومة رغم اختيار “حفتر” له بغض النظر عن سقوط تلك الصفقة وذلك الاختيار وخاصة في ظل كواليس تتحدث عن عرض قُدم للوفاق ومفاده اخراج “حفتر” من المشهد تماما، ليبقى السؤال هو سيُخير “حفتر” بين دور بروتوكولي وبين المنفى خاصة وان تسريبات منذ اشهر اكدت ان الروس قد قالوا لحفتر أنه “عليك اختيار منفى مستقبلي لأنه لا مستقبل لك في المشهد الليبي المقبل”.

والراجح حاليا ان تتم تلك الخطوات بمرحلية وليس بسرعة أو بشكل مباشر وآني ولا حتى خلال الأسابيع القادمة، ولكن سيبقى السؤال مدى قبولية “حفتر” بذلك وهو ما أوضحناه في الفقرة السابقة وفي هذا الجزء الثاني من دراسة الحال، أي في مدى ان لا يقوم حفتر أو نجله “صدام” بمغامرة غير محسوبة بغض النظر عن الشكل أو رد البعض على ذلك الشكل خاصة وأن “حفتر” من حيث المقارنة ليس بعيدا عن شخصيات مثله لعبت أدوارا في أزمات بلدانها ونقصد هنا كل من “عبد الرشيد دستم” الأفغاني أو “جون قرنق” السوداني أو “فرح عيديد” الصومالي.

** الخلاصة، أوهل ستخلى عليه المصريون عبر مرحلية وبآليات ناعمة؟

الثابت أن تخلّي المصريين – نظام السيسي- عن “حفتر” ثابت ويقيني، ولكن تبقى المسألة في مدى وجود منطق توخي المرحلية وفي هوية وطبيعة الآليات التي ستعتمد في عملية التخلي، ولكن قبل ذلك لابد من تبين أن عددا من التطورات والقضايا هي التي ستدفع لتلك التفاصيل وعلى مستويات عدة:

ما هو محلي، على غرار إدارة علاقة نظام “السيسي” بالبرلمان، والأزهر وملفات حقوق الانسان وملف المعتقلين وملفات الإسلاميين وبقية المعارضين وصداع القنوات المصرية في الخارج.

ما هو إقليمي، على غرار ملف سد النهضة والوضع الإقليمي المتغير في دول الساحل والصحراء لغير صالح مصر، وعدم وضوح في مربعات عدة في علاقته مع الخليجيين وتنامي الخلافات مع الاماراتيين أساسا…

ما هو دولي، على غرار علاقاته غير المستقرة مع الايطاليين والإدارة الامريكية ومعلوم أن “بادين” ليس “ترامب”رغم أن هذا الأخير رفض مقترحا للسيسي حول قمة مع المسؤولين الأفارقة في القاهرة شبيهة بقمة “ترامب” مع المسؤولين العرب في الرياض في بداية 2017.

الثابت اليوم أن المؤسسة العسكرية المصرية كانت وطوال السنتين الماضيتين تميل الى المزاوجة بين المقاربتين سالفتي الذكر في الجزء الأول من هذه الدراسة (أي:”الإبقاء على حفتر كحليف وكعسكري فقط”– “التخلي عنه واخراجه من المشهد تماما”)، وهي عمليا المالكة فعليا للملف رغم الفعل السياسي للجامعة العربية وللخارجية المصرية فيه بدرجات أقل.

وبالتالي من المنتظر أن تُمارس ليونة لا تُهدد موقعها في الداخل المصري وأيضا رؤيتها لسير الإقليم ككل وفي تماه مع شركائها الرئيسيين سواء كانوا دوليين أو اقليميين وأيضا بناء على رؤيتها الاستراتيجية لكل المنطقة.

ان الوضع القائم والمتغيرات التي جدت منذ مايو الماضي وخاصة بعد هزيمة حفتر في الغرب الليبي حقائق تؤكد أن نظام “السيسي” لم يعد يملك كل الأوراق في أن يصر على دور لحفتر أو حتى يُواصل دعمه سواء كعسكري وقبل ذلك كسياسي وبالتالي لا يمكن السماح له بإعادة انتاج “قذافي آخر” في ليبيا ولا حتى نقل النموذج المصري بحرفية الى ليبيا أي ان منطق إيجاد “سيسي ليبيا” انتهى كسيناريو فعليا منذ 2014 وتحديدا منذ خسر حلفاء حفتر المحليين معركة المطار.

كما أن العمر الافتراضي سياسيا لحفترووجوده كشخص في واجهة الأحداث مستقبلا أمر جد مستبعد في آفاق ما بعد مارس القادم لأن دوره الفعلي والوظيفي انتهى موضوعيا.

والثابت أنه لا يُمكن بناء حل في ليبيا بوجود شخص مثل “حفتر” في المربع الأول للحلول وان كان إخراجه منه في خطوة واحدة أمر جد صعب إلا باختفائه لسبب من الأسباب، أي ان قبول المصريين بإخراجه قد يكون عبر مرحلية مُرتبة ومدروسة أو عبر آليات ناعمة، وذلك أمر ممكن خاصة بعد أن أيقن المصريون أنفسهم أن الرجل عجز عن بسط نفوذه وأن أدواره الوظيفية انتهت وأنه أصبح خارج المعادلة في أفق نهاية السنة القادمة في ليبيا. بل أنه قد يكون فعليا مثالا لـ”عيديد” ثاني ، أو “دوستم” ثاني أو “قرنق” آخر.

أما على صعيد الترتيبات السياسية خلال بداية السنة القادمة فان فكرة تصعيد رئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح (أو “عبد الجواد العبيدي” أو “شريف الوافي”) على حساب “حفتر” من المؤشرات الواضحة والتي ستثبت تراجع دور حفتر وانتهاء مشروعه، لكن ذلك لا يعني انتهاء دوره تماما، حيث لا يزال له نفوذ عسكري على الأرض خاصة وان نجله “صدام” قد جمع منذ فترة العديد من الصلاحيات كما أنه على تواصل مستمر مع الاماراتيين.

***

علي اللافي – كاتب ومحلل سياسي مختص في الشؤون الافريقية

___________

المغاربي للدراسات والتحاليل

مواد ذات علاقة