بقلم علي اللافي

اعتقد البعض من المتابعين بين سنتي 2014 و2019 أن المصريين كانوا في تماه كامل مع حليفهم الاماراتي في الملف الليبي بينما كان الامر أن هناك التقاء مرحلي بناء على الاصطفاف الإقليمي (خلافات القاهرة مع قطر وتركيا).

وباعتبار ان المؤسسة العسكرية لم تعط أو تمنح لأي طرف لا في الداخل ولا في الخارج التصرف في الملفات الخارجية والاستراتيجية خاصة، فان استراتيجيتها المرحلية كانت قائمة على منطق “لا نتسرع بل نتفاعل ونقيم وندرس ردود الأفعال وموازين القوى على الأرض”، وهي آلية مستنسخة على استراتيجيا أمريكية معروفة ومتبعة منذ نهاية السبعينات في التعاطي مع القوى الدولية وما نسيه البعض أن مصر لم ولن تكون يوما مربع تحكّم لدى أي طرف إقليمي في مربعات المنطقة ولا دول الخليج بالذات.

ولعل ملف القبض على جاسوس اماراتي نهاية 2018 في مصر وتسليمه في وقت لاحق بناء على ترتيبات معقدة، جعل القاهرة والمؤسسة العسكرية بالذات تحتفظ بأوراق بديلة في الملف الليبي في العديد من مربعاته بناء على فكرة الجميع قابل للتعويض بما في ذلك الحليفين الرئيسيين في الشرق الليبي أي “عقيلة صالح” والعسكري المتقاعد “خليفة حفتر”.

وباعتبار أن زيارة وفد مصري قد تمت نهاية ديسمبر المنصرم اعتبرت تخلى فعلي وإن بمرحلية وآليات ناعمة على “حفتر”، فهل الزيارة الثانية والمرتقبة خلال الأيام القادمة ستكون تخلى ولو جزئي ومرحلي عن “عقيلة صالح” وان صُرح وسُرّب أن خلفياتها هي التبادل الأمني والدبلوماسي أساسا.

وقبل كل ذلك ما هي التحديات الأساسية التي ستواجه السياسة المصرية “الجديدة” في ليبياحتى تكون القاهرة مستقبلا طرفا مرجِّحاً في المسألة الليبية؟

أي تحديات من المُمكن أن تواجه السياسة المصرية الجديدة في ليبيا؟

مما لا شك أن القاهرة وان تابعت وتتابع عن كثب وبدقة التطورات الجارية إقليميا ودوليا كما لها البدائل وهامش التحرك بأريحية بناء على التطورات في الساحتين الليبية والاقليمية، ولكن نسق الأحداث والتطورات وتغير التحالفات عربيا ودوليا سيجعلها أمام تحديات جسام في ليبيا بالذات، ومما لا شك أن لقاء سفراء الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وإيطاليا وفرنسا والمملكة المتحدة، بحضور ممثلين عن البعثة الأممية في ليبيا، ورئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، فايز السراج، في 30 ديسمبرالماضي كان مؤشّراً مهمّاً امام أنظار القاهرة على عودة ليبيا إلى واجهة الأحداث.

ومما لاشك فيه أيضا أن المصريين توقعوا مثل غيرهم احتمال تصاعد تأثير السياسات الدولية في ليبيا خلال السنة الحالية خاصة في ظل تنامي نشاط دول أوروبية، فضلاً عن تركيا وهو ما يعني ان القاهرة ستضطر الى العمل على مسارين اثنين:

مسار أول، ويقوم على تفعيل وتنشيط الزيارات وإحياء خطابات الوساطات والمصالحات وعروض المساعدات الفنية والتدريب واستئناف العلاقات الدبلوماسية والتواصل في القضايا العربية الأخرى مع حكومة الوفاق.

مسار ثان، ويتمثل في تنمية وتطوير اصطفافها في إقليم الشرق الأوسط في انتظار اتضاح سياسات الرئيس المنتخب”بايدن”، ومدى تطابقها أو اختلافها عن خطابه الانتخابي.

وفي هذا السياق تحديدا يُمكن فهم زيارة رئيس المخابرات العامة المصرية، إلى بنغازي وزيارة الوفد الأول لطرابلس نهاية ديسمبر الماضي، ومما لا شك فيه أن الهدف الأهم والرئيسي لزيارة ذلك الوفد ورفيع المستوى هو في دفع حكومة الوفاق على القبول بدور مصري أكبر في غرب ليبيا، إضافةً إلى عدم ترك تلك المساحة خالية لدول أخرى وأولها تركيا والتخلص من الضغط الاماراتي في ضرورة تفعيل خيارات الحروب والانسياق وراء ذلك الى ما لا نهاية.

ومن المهم التأكيد أن التحرّكات المصرية الأخيرة لا تعكس “تحولاً كلياً” أو “تغيراً جذرياً” في مقاربة الملف الليبي ذلك أن القاهرة تتحرك عمليا ودائما ضمن منظور أمني/ اقتصادي/ تكتيكي محدود، بل يمكن القول إنها تفتقد لاستراتيجية طويلة المدى رغم أنها أفضل من أغلب الدول العربية والثابت أن هناك ضغوط كبرى لمصادر التمويل الخارجي:

ـ الضغوط الأميركية والأوروبية أساساً وخاصة في ملفات الشرق الأوسط والمنطقة العربية عموما وبعض الملفات الافريقية…

ـ الضغوط السعودية الإماراتية (أساسا منذ انقلاب 3 يوليو في 2013)، وهي ضغوط تتعلق بتشكيل مستقبل المنطقة العربية وقيادة الثورات العربية المضادة…

وفي الأخير، لا يمكن تغييب أن واقعية القاهرة في الملفات الخارجية خلال الشهرين الماضيين والأخذ بالمحاذير منذ أغسطس/أوت 2018 لم ولن يُغيب أبدا آثار الاستبداد الممارس في كل مدن مصر وقراها مصحوبا بتغييب شبه كلي للحريات العامة والخاصة وتنامي عدد المعتقلين إضافة الى تصاعد نفوذ أصحاب المال والأعمال والساسة المقرّبين من النظام إضافة الى تهميش دور وزارة الخارجية خصوصاً، ومضاف الى كل ذلك عامل البيروقراطية المدنية في وضع واقتراح السياسات والبدائل والمبادرات.

عقبات امام دور مصري قوي في ليبيا

يُواجه الدور المصري في ليبيا عقباتٍ إضافية تقلّص من فرص استعادة مصر حضورها السابق وطبعا ضعف قدرتها على التأثير في العالم العربي مثلما كانا جاريا بين عقدي السبعينات والثمانيات من القرن الماضي أو إقليم الشرق الأوسط. كما لا يمكن تغييب القراءة الاستراتيجية والمتمثلة في تراكم الأخطاء والمبنية على عدم استيعاب وفهم سياقات البيئة الدولية والإقليمية منذ منتصف السبعينات أي إمضاء البلد لاتفاقيات سلام مخزية وظالمة وصولا للانخراط في تدمير ثورات الربيع العربي وهو ما يعني آليا موقع إقليمي مهيمن لإسرائيل، على حساب مصر بل والأمة العربية والإسلامية جمعاء.

لم تنتبه مصر منذ 2014 عندما دعمت “حفتر” وحلفائه في الداخل الليبي أن ذلك سيؤدي حتما الى تدويل المسألة الليبية بحيث غاب البُعد العربي فيها، بل وتم اجبار ودفع كل العرب لأداء أدوار وظيفية وتحول الصراع الليبي الى حرب بالوكالة كان العرب جميعا فيه حطبا لسياسات دولية ترتهن كل المنطقة، ولعل انهيار وزنهم والذي تسبب فيه “أحمد أبو الغيط”، أكبر الكوارث في المنطقة المغاربية والشمال الأفريقي إضافة الى تراجع كل الأدوار العربية الإقليمية في كلّ القضايا الاستراتيجية العربية منها والدولية.

ثالث العقبات هو في مدى قدرة المصريين على التخلص من تراتبات سياساتهم وتحالفاتهم السابقة وهم في ذلك ليسوا مخيرين بل مجبرين حيث من المنتظر أن يشهد دور الإمارات ووكلائها في ليبيا كثيرا من الضبط بل التضييق عليهم وحصر مساحات تحركهم السابقة خاصة اذا عاد “بايدن”إلى خط السياسة الأميركية التقليدية والمرتكزة على التعدّدية واحترام الاتفاقات الدولية، وتفعيل دور المنظمة الأممية والتعاون مع الحلفاء في أوروبا وحلف شمال الأطلسي، وكل ذلك يعني نهاية أدوار “حفتر” و”الورفلي” و”المنيار” وكل مكونات السلفية الليبية المدخلية وبعض سياسيي المناطق الثلاث طالما كانوا وكلاء للإماراتيين في حروب ومآسي ليبيا مثلما كان البعض الآخر وكلاء لبقية أطراف الصراع.

زيارة وفد مصري ثان: هل هي ترتيبات دبلوماسية وأمنية أم تخل جزئي على الأقل عن “عقيلة صالح”؟

تم خلال الأيام الماضية تداول معطيات مفادها عن إجراءات وترتيبات لزيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري، ورئيس جهاز الاستخبارات العامة اللواء عباس كامل، إلى العاصمة الليبية طرابلس، وأوضحت مصادر مطلعة أن الزيارة المرتقبة ستأخذ طابعاً رسمياً علنياً، ومن المقرر أن يتم خلالها تدشين العمل مجدداً بالسفارة المصرية في طرابلس، كاشفة في الوقت ذاته أن العمل لن يكون بمستوى تمثيل سفير دائم، وإنما سينطلق بقائم بالأعمال، لافتة إلى أنه سيتم أيضاً تدشين العمل بقنصلية في مدينة بنغازي في الشرق الليبي.

ومعلوم انه تم الحديث سابقا عن تعيين السياسي “عبدالمجيد مليقطة” سفيرا لليبيا في القاهرة وهو مقترح تم تقديمه للمصريين اثناء زيارة سرية قام بها السراج للقاهرة في أكتوبر الماضي .

ولا يمكن تغييب معطى رئيسي ومهم وهو تقديم كافة الأطراف الفاعلة في الغرب الليبي تعهدات بحماية المصالح المصرية على أراضي غرب ليبيا، وفي مقدمتها مقر السفارة، وهو تعهد قدّمه – وفقا لصحف عربية- بشكل واضح قائد المنطقة العسكرية الغربية، اللواء أسامة الجويلي، حينما التقى الوفد المصري الذي زار طرابلس في نهاية ديسمبر الماضي وتحديدا لمسؤول اللجنة المصرية المعنية بالشأن الليبي، اللواء أيمن بديع. واضافة الى ذلك شهدت الايام الماضية مشاورات موسعة بشأن مشاركة شركات وعمالة مصرية في عمليات إعادة الإعمار، موضحة أن حكومة الوفاق الليبية والكتل الفاعلة في قرارات غرب ليبيا، أبدت موافقة على مشاركة الشركات المصرية.

ومن الواضح ان مصر تبذل جهوداً واسعة في الوقت الراهن، لمنع اللواء المتقاعد خليفة حفتر من تنفيذ عملية عسكرية واسعة في الجنوب الليبي، كما أن القاهرة ترفض بشدة انزلاق الوضع في ليبيا إلى المواجهات العسكرية مجدداً، لقطع الطريق أمام أي أطراف للتدخل مجدداً، أو جرّ القاهرة إلى سجال عسكري في الوقت الراهن.

ومعلوم أيضا أن أبوظبي سعت إلى فرض نفسها كطرف يتم السعي نحوه للتدخل لوقف الهجوم العسكري في حال تنفيذه بعد أن شجعت بأشكال مختلفة الجنرال المتقاعد “خليفة حفتر”على شن عملية عسكرية واسعة النطاق شبيهة بما حدث في أبريل 2109 ، ومن ثم تحاول العودة كطرف رئيسي على طاولة المفاوضات المعنية بالشأن الليبي، الا أن الثابت أن الروس والمصريين يرفضون ذلك بل أن المصادر تتحدث عن وجود توتر في العلاقات بين الإمارات وروسيا بشأن ما يجري في ليبيا، نظراً للتنسيق الروسي ــ التركي، بعيداً عن أبوظبي وعن مربعات التقاء بين القاهرة وانقرة ولو بشكل غير مباشر وسري حسب البعض.

والخلاصة أن القاهرة تعي أنها لابد لها أن تُغيّر في المعادلات وأن تخلط الأوراق خاصة في ظل اقتراب الامارتين من “صدام حفتر” والذي يحاول خلط الأوراق والسير في ركاب الإماراتيين حتى أنه نمى خلال الايام الماضية الخلافات داخل قاعدة الرجمة، وهي خلافات أسفرت عن استبعاد وتهميش المتحدث باسم مليشيات الشرق الليبي “أحمد المسماري” ونزع معظم صلاحياته بل وتم نقل كافة صلاحياته إلى اللواء خالد المحجوب، رئيس ما يعرف بإدارة التوجيه المعنوي في مليشيات شرق ليبيا.

هذا مثال أن استعمال ورقة شرق ليبيا سيكون محل تجاذب كبير بين المصريين والاماراتيين لفترة قادمة وطويلة نسبيا والى حدود تشكيل الحكومة منتصف فبراير القادم والسير في انجاز الاستحقاقات القادمة بما ان التجاذب لم ولن يحسم الا في جوان/يونيو القادم بين القاهرة وحليفها السابق ومن يمثلهما في شرق ليبيا.

مستقبل تطورات الملف الليبي ومستقبل رهانات القاهرة فيه خلال الشهرين القادمين

الثابت أن هناك تحدّيات أساسية تواجه السياسة المصرية في ليبيا وهي أكثر من أن تحصى، ولكن الثابت أيضا أن ما يعيق تحول القاهرة الى لاعب رئيسي ومهيمن، أو حتى مرجِّح في المسألة الليبية -التي تم تدويلها منذ 2015 وصعب راهنا إعادتها إلى مسألة إقليمية- بدون التعاون مع تركيا ودول المغرب العربي ومنظمة الاتحاد الأفريقي. وقد يكون ذلك صعبا ما لم تغيّر القاهرة سياستها الخارجية رغم المحاولات الجارية بالتعاون مع السعوديين لإحياء خطاب”المصالحات الخليجية والعربية”. وهو خطاب وسياسة قد لا يعكسان تحولاً في السياسات بقدر ما ينطوي على خطابٍ مرحلي وتكيّفي لدرء السيناريوهات الأسوأ، والضغوط المتوقعة التي تنتظر بعض الدول العربية في عهد بايدن”.

مما لا شك أن القاهرة تتابع عمل المبعوثة الأممية بالإنابة في ليبيا”ستيفاني وليامز”وتتواصل معها باستمرار، ومعلوم ان هذه الأخيرة قد عقدت الإثنين الماضي الاجتماع الأول للجنة الـ18 (الاستشارية) لمناقشة أهداف ومهام هذه اللجنة والإطار الزمني المحدد لعملها. وجدّدت وليامز التأكيد أن اللجنة ذات مهمة استشارية، وستعمل على مدى أسبوعين لإنتاج وتقديم توصيات لمعالجة الاختلاف الذي برز حول آلية اختيار السلطة التنفيذية، وإجراءات تسمية أعضائها، وتقديم توصيات بشأن عملية الترشيح، وبناء التوافقات بين أعضاء الملتقى.

كما عقدت اللجنة القانونية جلستها الافتراضية الثالثة، وتبادل خلالها عدد من أعضاء اللجنة مقترحات للترتيبات الدستورية للانتخابات الوطنية. وشملت المقترحات مجموعة من الخيارات التي تهدف إلى تسهيل تنفيذ خريطة الطريق التي توافق عليها أعضاء ملتقى الحوار السياسي الليبي منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2020.

كل ذلك وما سبق يعني أن القاهرة مُلمة بالتفاصيل والى أين يُمكن أن تُؤدي، وأنها قد تتنازل أيضا ولو جزئيا عن حليفها الثاني أيضا أي عن “عقيلة صالح” وتدفعه لسحب ترشحه للرئاسي وتترك المجال لـ”البرعصي و”العبيدي” و”الوافي” ليكون أحدهم مُمثلا لشرق ليبيا في المجلس الرئاسي وقد يبقى “عقيلة صالح” رئيسا لمجلس النواب.

الثابت أيضا أن المصريين بدوا اكثر تحررا واستعدادا للتعاطي مع المتغيرات في ليبيا وفي الإقليم ولتغيّر السياسيات الأمريكية المرتقب بداية من نهاية الشهر الحالي، ولكنهم لم يستوعبوا بعد أن بنية النظام وما يأتيه في الملفات الداخلية قد يُعيقهم في براغماتية التعامل مع الملف الليبي، وهم سيبقوا مُترددين في قطع خطوات عدة.

تخلّي المصريين عن “حفتر” ليس محسوما وليس نهائيا وإن تم فسيكون بمرحلية وآليات ناعمة، أما “عقيلة صالح” فقد يتخلون عنه جزئيا عبر بقائه رئيسا للبرلمان وسيكون المصريون مرنين بالقبول بالمتغيرات وما أكثرها مستقبلا في ليبيا في ظل حكومة انتقالية ستعد لمستقبل ليبيا والذي سيبدأ يوم 24 ديسمبر المقبل .

***

علي اللافي – كاتب ومحلل سياسي مختص في الشؤون الافريقية

_____________

المصدر : الصباح نيوز التونسية

مواد ذات علاقة