بقلم خيري عمر

تسعى هذه الورقة للاقتراب من الأطروحات السياسية والثقافية لجماعة الأمازيغ في ليبيا، وانعكاسها على مسألة الاندماج الوطني، وخصوصًا ما يتعلق بسياساتهم تجاه المرحلة الانتقالية وعمليات بناء النظام السياسي.

الجزء الأول

هذه النقطة تلقى أهمية من وجهة أن انسحاب الأمازيغ ارتبط بعاملين، هما: زيادة الوعي الإثني بمطالبهم بصفتهم جماعة إثنية، وتزايد الانقسامات في الدولة. فاستمرار هذه الحالة سوف يعزّز الحلول الانعزالية، كالمطالبة بالحكم الذاتي أو الفيدرالية. وتحاول الورقة تناول الآثار المترتبة على مقاطعة الأمازيغ لعمليات بناء النظام السياسي، وخصوصًا الاستثناء السياسي، كما في حوار “الصخيرات” بالمغرب، أو الاستبعاد الاجتماعي الديني في حالة إثارة الاختلاف المذهبي، بوصفه أحد عوامل الصراع، ومدى إسهام ذلك في ظهور مشكلة في الاندماج الوطني وتراجع تكامل الدولة.

مقدمة

كشفت المراحل الانتقالية عن ظهور نماذج من المطالب الاجتماعية والسياسية، ارتبطت بالجماعات السكانية، وبخاصة تلك التي واجهت اضطهادًا تحت حكم معمر القذافي، ولذلك تتناول نظرة الأمازيغ إلى فكرة الحقوق اللغوية بوصفها منطلقًا للحقوق الدستورية، ومدى اقترابها من تجانس النظام الثقافي للدولة.

يذهب الأمازيغ إلى أن الوحدة الوطنية تتحقق بالاعتراف المتبادل ضمن دولة المواطنة والعدل والمساواة، ويستندون في مطالبهم إلى دورهم التاريخي في بناء ليبيا، واستمرار وضوح الهوية الأمازيغية. وما يشير إلى تزايد الوعي بالهوية انعقاد ثلاثة مؤتمرات منذ سبتمبر 2011، بشكل يعكس الرغبة في ترسيم الهوية الأمازيغية في الدستور، والخروج من عصر الاضطهاد في النظام السابق، بوصف ذلك حقًّا إنسانيًّا لكل السكان، وأنّه يعكس تنوع مصادر الهوية الليبية.

وخلال هذه الفترة، شكلت الحقوق اللغوية المحور المركزي لمطالب الأمازيغ، حيث رأوا أن الوضع الدستوري للغة الأمازيغية يعد من المكونات الأساسية للدولة، فهو لايخضع للتصويت، ورغم انحسار الاختلاف حول كيفية تنظيمه في الدستور تراجعت المشاركة السياسية للأمازيغ، حيث ثارت مطالب أخرى تتعلق بنظام الحكم وطبيعة النظام المحلي.

وخلافًا لجماعتي الطوارق والتبو ظلّ الأمازيغ متمسكين بمبدأ التوافق حول إقرار المواد الدستورية الخاصة بالمكونات الثقافية، أمّا الطوارق والتبو فقد ذهبوا للمشاركة في انتخابات الهيئة التأسيسية ومجلس النواب على أساس القبول بمبدأ التصويت وفق الأقلية والأغلبية، وفي هذا السياق تتناول الورقة أثر اختلاف سياسات الجماعات الإثنية في الوضع السياسي لجماعة الأمازيغ ومدى اندماجهم في الدولة.

وهناك إشكالية أخرى تتمثل في أن ظهور مطالب الأمازيغ في ظل التواء الدولة ما بين الانقسامات الاجتماعية والسياسية يشكل تحدّيًا أمام الاندماج الوطني، وهذا ما يرتبط بتعقيدات تعريف الحقوق الإثنية، ومدى تحقيقها للمواطنة وتكافؤ الفرص، وهذا ما يُحدِث نوعًا من القلق في النظام السياسي، وبخاصة في ظل تزايد مطالب الأقليات، وضعف فرص الانتقال السياسي، وتزايد الانقسامات المؤسسية.

أوّلًا: الإطار الاجتماعي لأمازيغ ليبيا

تتسم القبائل في ليبيا بتماسك الهويات الجماعية، ورغم اتساع المدن أدّت الهوية القبلية دورًا قويًّا، وبخاصة في الشرق. كما كان التمركز حول العرقية الثقافية واضحًا في مجتمعات الأمازيغ والطوارق والتبو. ويتكون المجتمع في ليبيا من أربع فئات لغوية كبرى، هي: العربية والأمازيغية والتباوية، إضافة إلى فئات لغوية أصغر تتمثل في الهوسا والفولاني، وفيما يخص الأمازيغ، تبدو أهمية تناول التطورات التنظيمية المصاحبة لثورة فبراير/شباط 2011.

مجتمع الأمازيغ

هناك تقديرات بأن الناطقين بالأمازيغية يشكلون حوالي 5-10% من سكان ليبيا، ويقيم غالبيتهم في جبل نفوسة وزوارة وغدامس، إضافة إلى الطوارق والأواجلة ويتكلمون العربية، إضافة إلى الأمازيغية، أما أمازيغ جبل نفوسة فيُعَدَّون الأكثر تمسكًا باللغة والثقافة الأمازيغية، وقد يكون سبب ذلك قربهم الجغرافي من الجزائر، أما الأواجلة فيَعدُّون أنفسهم مستعربين أكثر من سكان جبل نفوسة.

ولا تمثل هذه النسب سوى نسب صغيرة من التعداد السكاني العام في ليبيا، وتُعدّ مناطق الناطقين بالأمازيغية من أكثر المناطق استقرارا على امتداد التاريخ الليبي، غير أنه في مرحلة الاستعمال الإيطالي هُجِّر الأمازيغ من مناطق وجودهم التقليدية إلى المدن الرئيسة كطرابلس، بنغازي، وسبها.

وبينما لم يشر دستور المملكة الليبية 1951 إلى لغة الأمزيغ والتبو، إلا أن تضمينها في الإعلان الدستوري مهّد لتحديد مكانتها في الدولة، حيث يمكن تضمين نوعية وطبيعة الحقوق اللغوية، التي تتمثل في الحق في استعمالها أمام القضاء، وحق الأمازيغ والتبو في الحصول على مترجمين في إثناء المحاكمات أو التحقيق.

ويمكن رصد أهم المشكلات التي تعرض لها الأمازيغ في عهد القذافي، التي تتحدد في أن النظام الليبي جعف اللغة الرسمية والوحيدة هي اللغة العربية من منطق قومي، ومنع تداول أي لغة أخرى، وهذا يعني عدم الإعتراف بالأمازيغية بمكوناتها المختلفة: التاريخية والجغرافية والأنثروبيولوجية، وأنه لا تحمل أي وثيقة رسمية مهما كان نوعها، أو أي كتاب مدرسي أو تخصصي في جميع المؤسسات التعليمية ـ أيّ إشارة أو دلالة إلى أمازيغية ليبيا، حيث سُنّ قانون منع المسميات الشخصية الأمازيغية، وحرمان الأطفال حاملي الأسماء الأمازيغية من حقوقهم المدنية، وحرمانهم من حق التعليم والإلتحاق بالمدرسة، وحق الحصول على أي أوراق ثبوتية إلا بشرط تغيير إسمهم الإمازيغي إلى إسم عربي، ودفع غرامة مالية باهضة.

الثقافية الشعبية والسياسية

تعد الأمازيغية أحد مكونات الثقافة الأصلية في ليبيا، وتعمل إلى جانب الثقافات الأخرى إلتي تعكس روابط تاريخية واجتماعية وحضارية، وبشل عام، تنظر الحركة الثقافية الأمازيغية إلى أن بلدان شمال أفريقيا ذات ثقافة تجمعها وحدة واحدة، وهي تقسم السكان إلى مجموعتين: مجموعة حافظت على اللغة القديمة، ومجموعة اكتسبت لغة أخرى، ولذلك يقوم موقف الامازيغ على أن الجذور الثقافية في ليبيا ترجع إلى الأمازيغية.

وبمرور الوقت، تشكلت ثقافة سياسية تقوم على التعايش المشترك، حتى جاء القذافي بأفكار القومية العربية ، بشك دفع الأمازيغ إلى العودة للبحث عن الجذور الثقافية، وهذا ما أدّى إلى ظهور بعض الشخصيات الأمازيغية المتطرفة، وهو ردة فعل على الطرح الأيدولوجي السياسي.

وفي ظل حكم القذافي تعرض الأمازيغ في ليبيا للإلقصاء المنهجي من الحياة السياسية تحت مشروع التحول إلى الجماهيرية المنتثقة من ثورة 1969، التي قامت على فكرة الوحدة والتساوي بين مكونات الدولة والإنضواء تحت الهوية العربية وإنكار الهويات الفرعية. وحظرت القوانين على الأمازيغ إعلان هويتهم، والحديث عن الخصائص المخالفة للإشتراكية والقومية العربية.

وقد تمحورت ثقافة الأمازيغ الشعبية حول شعارات إثنية، فأحيانا ترفع شعارات، مثل شعار: “أنا أمازيغي بدون دولة” بوصفه صيغة للتعبير عن الظلم والتهميش الذي لاقاه الأمازيغ خلال عقود مضت، حيث يرون أنه لا توجد دولة تحميهم من الطغيان، وهو فيما يبدو تفسير يرى أن الأمازيغ يبحثون عن دولة تجمع شتات الأمازيغ في شمال إفريقيا، وهو ما ينعكس في بروز مطالب تبدأ بالحكم الذاتي أو حق تقرير المصير.

إذن هي حالة تقع بين مطالب الإندماج وبين الإنفصال، فالحدّ الأقصى يتعلق بالبحث عن دولة لا عن صيغة للتعايش الإجتماعي والسياسي، وهنا تبدو أهمية النظر في المطالب السياسية للأمازيغ، وبخاصة تلك التي تتعلق بالمشاركة السياسية والوضع الثقافي.

ولعل المسألة الأساسية هنا، تتعلق بكيفية معالجة مطالب الأمازيغ، والبحث في أسباب انتقالها من الاجتماع إلى السياسة، فثمة جدل بأن الديمقراطية التعددية تعدّ مظلة كافية للتعبير عن تطلعاتهم بوصفهم أحد المكونات الاجتماعية.

وعلى الرغم من أن الإسلام يشكّل القاسم المشترك بين مكونات الشعب الليبي، ظلت المسألة الإثنية تمثّل معضلة في إدارة الاختلاف فيما بين الجماعات السكانية، حيث يتسم الخطاب السياسي للأمازيغ بدرجة كبيرة من الوعي الإثني، وذلك عندما يتبنى مطالب الحقوق السياسية ومناهضة التهميش والإستبعاد.

وفي وقت مبكر بعد ثورة 17 فبراير 2011، بدأ الأمازيغ في بلورة مطالبهم السياسية، إذ أعلنوا عن هويتهم في سبتمبر 2011، في إثناء انعقاد “المؤتمر الأمازيغب الليبي” الأول في طرابلس، حيث رُفع العلم الأمازيغي، فيما تولّت قوات أمازيغية حماية الإجتماع.

وقد ظهرت الجوانب الثقافية خلال انعقاد المؤتمر، حيث برزت شعارات توضّح اتجاهات التفكير الأمازيغي، كشعار “الثقافة الأمازيغية حقّ لنا”، و “شعب ليبيا يتنسم عبق الحرية”.. فيما تُلِيَ في بداية المؤتمر النشيد الوطني الليبي باللغتين العربية والأمازيغية.

وقد تعكس المواقف تطلعات الأمازيغ لتوطيد مكانتهم في الدولة، لكنها من جهة أخرى قد تعكس جوانب التنوع في المجتمع، حيث تطرح خطابا للتعايش اللغوي، ووجود رغبة مشتركة في إعادة بناء الدولة على قواعد مشتركة تتسع لكل المكونات.

الأطر المؤسسية للأمازيغ

أُسس المؤتمر الليبي للأمازيغية في 17 ديسمبر 2000، بوصفه حركة سياسية تجمع بين النشاط السياسي والنشاط المدني، ويعرّف المؤتمر الليبي للأمازيغية نفسه بأنه منبر للنضال الأمازيغي الوطني ضمن باقي منابر العمل النضالي الأمازيغي والوطني، وقد بلور مطالبه في التضمين الدستوري والرسمي للمكون الحضاري الأمازيغي في الهوية والثقافة الوطنية الليبية.

وشكلت انتفاضة 2011 مرحلة جديدة لأمازيغ ليبيا، حيث اضطلع “المجلس الأمازيغي الليبي” بالتنسيق بين مختلف الميليشيات، وإنشاء هيئة للربط بين المجالس المحلية في مدن الجبل بوصفه جزءً من “المجلس الوطني الانتقالي” من أجل التعبئة ضد النظام في بعض مدن الجبل، مثل نالوت وجادو ويفرن.

وفي 26 سبتمبر 2011، غُيّر اسم المجلس الوطني الأمازيغي إلى المؤتمر الوطني الليبي الأمازيغي، لكونه أول تعبير ملموس عن هوية سياسية أمازيغية في تاريخ ليبيا، ثم غُيّر اسمه لاحقا، ليصبح المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا، وأُجريت انتخاباته الداخلية في أكتوبر 2015.

كما طُرحت سلسلة من المبادرات غلب عليها الطابع الثقافي والأجتماعي، إذ أعاد محمد مادي فتح بوابة “تاولت” الإلكترونية، كما ظهرت جمعيات ومواقع إخبارية ومحطات إذاعية وقنوات تلفزيونية، لتعزيز الإنتماء بين الأمازيغ.

يتبع في الجزء التالي بدءً بـ ثانيا: الحقوق الدستوري والثقافية

***

المصدر: دورية رؤية تركية ( السنة 9 العدد 1)

_______________

مواد ذات علاقة