بقلم عمر خيري

تسعى هذه الورقة للاقتراب من الأطروحات السياسية والثقافية لجماعة الأمازيغ في ليبيا، وانعكاسها على مسألة الاندماج الوطني، وخصوصًا ما يتعلق بسياساتهم تجاه المرحلة الانتقالية وعمليات بناء النظام السياسي.

الجزء الثاني

ثانيا: الحقوق الدستورية والثقافية

تتماثل توجهات الأمازيغ حول سياسات الحقوق الثقافية مع مطالب الجماعات الإثنية في النظم السياسية المختلفة، وقد تمكنت النظم الديمقراطية من تسوية المسألة الإثنية، حيث تتقارب فرص كل المواطنين في الحصول على حقوق متساوية، غير أن إنحسار سيطرة الدولة يشكّل تحديّا للتعامل مع هذه المطالب.

وتمثل حالة ما بعد القذافي فرصة ملائمة لتناول سياسات الأمازيغ تجاه الإندماج الوطني، وذلك من جهة تصوراتهم حول سكان ليبيا والحقوق السياسية.

وبشكل عام، يذهب الأمازيغ لتأكيد أهمية الدولة المدنية الديمقراطية، بوصفها أساسا للتعايش بين الجماعات الإثنية المختلفة، وعلى هذا الأساس كانت نظرتهم للدولة الوطنية والحقوق الدستورية.

الدولة الوطنية

يذهب الأمازيغ إلى أن الوحدة الوطنية تتحقق بالاعتراف المتبادل ضمن قواعد تقوم على المواطنة والعدل والمساواة، ويستندون في مطالبهم إلى دورهم التاريخي في بناء ليبيا واستمرار وضوح الهوية الأمازيغية، وهذا يشير إلى تزايد الوعي بالهوية، التي يتمثل في الاهتمام بعقد المناقشات في وقت مبكر بعد سقوط نظام القذافي، حيث بدأوا في عقد المؤتمرات منذ سبتمبر 2011، وبشكل كشف عن الرغبة في ترسيم الهوية الأمازيغية في الدستور، ليعكس تنوع مصادر الهوية الليبية.

ورغم وضوح التوجه الإثني لدي الأمازيغ بدت محاولات لخلق إطار وطني يسمح بتوسيع الإطار المشترك بين الجماعات الإثنية، من خلال تقريب المواقف السياسية، حيث تعمل بعض المؤسسات المحلية على تجميع مصالح الجماعات الإثنية، ومنها مساعي المجلس المحلي والمجلس العسكري لمصراتة، وبعض مؤسسات المجتمع المدني، بدعوة الطوارق والأمازيغ والتبو للإسهام في إطار وطني، ولعل الإسهام الذي تقدمه هذه الملتقيات تكمن في تقريب وجهات النظر حول تعريف المشكلات الإثنية والاقتراب من المصلحة الوطنية.

ولأحل مناقشة الوضع الدستوري لأمازيغ ليبيا، انعقد في طرابلس “ملتقى الاستحقاق الدستوري لأمازيغ ليبيا” في 12 يناير 2013 بقاعة الاجتماعات بفندق “ريكسوس” بطرابلس بحضور رئيس المؤتمر الوطني العام، وعدد من أعضاء المؤتمر والحكومة الانتقالية، وعدد من رؤساء المجالس المحلية ورؤساء الأحزاب وأعضاء منظمات ومؤسسات المجتمع المدني، وحشد كبير من الأهالي والحرائر من العرب والأمازيغ والطوارق والتبو في مختلف مناطق ليبيا، ورؤساء البعثات السياسية والقنصلية في ليبيا، وشهد هذا الملتقى تأسيس المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا، واقترح الملتقى عددا من الآليات التي تعكس جوانب السياسات اللغوية، وهي:

ـ يكون الترسيم مرحليا خلال فترة قد تتجاوز أو لا تتجاوز خمس عشرة سنة، بدءً بالمجتمعات المحلية الأمازيغية والتباوية.

ـ إنشاء مركز للتخطيط اللغوي لكل من اللغة التباوية والأمزيغية، ويكون تحت الإشراف المباشر لرئيس الوزراء أو رئيس البلاد.

ـ تدريس اللغات الأمازيغية والتباوية مرحليا خلال فترة لا تتجاوز خمس عشرة سنة في المناطق الناطقة بالأمازيغية، إضافة إلى العاصمة السياسية والاقتصادية طرابلس وبنغازي، باعتبارهما عاصمتين للأمازيغ أيضا إلى أن تتم معايرة هاتين اللغتين من خلال مراكز التخطيط اللغوي، لتصبح ملزمة التدريس في كل أرجاء ليبيا، ولكل المستويات التعليمية، باعتبارهما من اللغات الوطنية.

ـ فتح أقسام في الجامعات الليبية، وتقديم منح لدراسة اللغات والثقافات الأمازيغية والتباوية، وإنشاء وتمويل مراكز بحثية مهمتها اللغات والثقافات في ليبيا، والاستعانة بالخبرات الدولية في ذلك.

ـ كتابة كل الشعارات واللوحات والوثائق الرسمية باللغات العربية والأمازيغية والتباوية، ومن الأمثلة على ذلك: العملة، وشعارات الحكومة والوزارات والهيئات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية العامة والخاصة، وكذا كتابة مستندات السفر والهوية، واللوحات على الطرق العامة.

ـ النص الدستوري على حق التبو والأمازيغ ممن لا يفهمون العربية في الحصول على مترجم ومفسّر في المحاكم.

ـ يكون من شروط الحصول على وظيفة في المجتمعات المحلية الأمازيغية والتباوية إجادة اللغة الأمازيغية في مناطق المجتمعات الأمازيغية، وإجادة التباوية في مناطق المجتمعات التباوية.

ويضع المطالبون بالتعدد اللغوي تصورا للإطار الدستوري يقوم على التنوع، وتذهب إلى أن أولويات الدستور الدائم تكون في ترسيم اللغات العربية والأمازيغية والتباوية على قدم المساواة من دون أي تمييز، وهذا يشير إلى قبول التعايش ضمن الدولة الوطنية، وهو ما يتلاقى مع عدم تشكيلهم حركات انفصالية، والإكتفاء بتوسيع مفهوم الحقوق السياسية والإجتماعية.

فمع بدء المرحلة الانتقالية في أول سبتمبر2011، أعلن كثير من الثوار الأمازيغ استعدادهم للتعاون الكامل مع الحكومة المؤقتة على أساس وحدة ليبيا، والاعتراف بالخصوصية الثقافية، غير أن الإعلان الدستوري المؤقت، لم يشر بشكل واضح إلى اللغة الأمازيغية.

الحقوق اللغوية

وبعد ثورة فبراير 2011 شكلت الحقوق اللغوية المحور المركزي لمطالب الأمازيغ، حيث رأوا أن الوضع الدستوري للغة الأمازيغية حق أساسي لا يخضع لمعايير الأقلية والأغلبية، ورغم انحسار الاختلاف حول هذا الحق، عدّ مؤتمر الأمازيغ الأول أن عدم تضمين اللغة في الدستور يفقد المؤسسات شرعيتها السياسية.

وقد شكلت المسائل الثقافية حيزا مهما في جدول أعمال المؤسسات الأمازيغية، وخصوصا ما يتعلق بالمطالبة بالإعتراف الرسمي باللغة الأمازيغية بوصفها لغة وطنية إلى جانب العربية، وتخصيص حصة للأمازيغ في الأجهزة الإنتقالية والهيئات المنتخبة.

ـ الإعتراف باللغة الأمازيغية لغة وطنية رسمية، إلى جانب اللغة العربية، ودعمها في المؤسسات التعليمية، ووسائل الإعلام، والتداول العام.

ـ الإلغاء الفوري لكل التشريعات والممارسات الجائرة ضد الأمازيغ وحقوقهم، وما ترتب عنها، كفقد الأراضي، وتقييد استخدام اللغة الأمازيغية، وعرقلة الحقوق المدنية والإدارية الجهوية، وتقييد حق ممارسة الشعائر الدينية المذهبية، ومنع المسميات الأمازيغة، وحظر تأسيس الجمعيات والتظاهرات الثقافية والحقوقية الأمازيغية، وتشويه التاريخ الليبي، وطمس المعالم الحضارية الثقافية والجغرافية.

ـ وقف انتهاك حقوق مناضلي وباحثي الأمازيغية، ورد الاعتبار إلى المتضررين.

الأمازيغ وثورة فبراير

برز دور أمازيغ جبل نفوسة في الصراع ضد القذافي في عام 2011، وهي المنطقة الثالثة تاريخيا من حيث حجم السكان المستقرين بعد كل من طرابلس وبنغازي، وكان دورهم أساسيا في التقريب بين السكان الأمازيغ في مدينة زوارة الساحلية وفي واحتي السوكنة وأوجيلا وكاباو، بوصف ذلك خطوة لخلق وعي مشترك تجاه المرحلة الانتقالية، وترتيبات النظام السياسي.

وبعد إسقاط القذافي بدأ الأمازيغ في الإعلان عن رموزهم الثقافية، كالإحتفال برأس السنة الأمازيغية في 13 يناير والمطالبة بجعله عطلة في المدن الأمازيغية، فيما قررت المجالس المحلية للمناطق التي يسكنها الأمازيغ جنوب، وجنوب غرب ليبيا جعل هذا اليوم عطلة رسمية. في عشر مناطق، هي: زوارة، وقاهرة سبها، ووادي ألآجال، وجادو، ونالوت، ويفرن، وكاباو، والقلعة، والرحيبات، وأوباري، حيث نص قرار تلك المجالس على “اعتبار اليوم الأول من السنة الأمازيغية الموافق للثالث عشر من شهر يناير عطلة رسمية في مناطق هذه المجالس”.

وطالب القرار المؤتمر الوطني العام أعلى سلطة تشريعية في البلد بـ “اعتماد هذه المناسبة ضمن جدول العطلات الوطنية الرسمية”، وتقوم فكر الاعتراف الرسمي بالبعد الأمازيغي لليبيا بأنه بعد أصيل، وأن الأمازيغية ملك للجميع، وتراث مشترك بن أبناء البلد.

ويعكس البيان الأول للمؤتمر الليبي الأمازيغي بداية تحول في الحراك الأمازيغي، حيث تصدى لقضية التهميش، واعتبر أن زمن إقصاء الأمازيغ انتهي، وأن ليبيا يجب أن تعترف بالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للأمازيغ، ويجب أن تؤسس على مبادئ المواطنة والشراكة العادلة، بدون تمييز بين المواطنين على أساس الأصل الإثني، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين.

ثالثا: الأمازيغ في الفترة الإنتقالية

يعد نوري أبو سهمين أول أمازيغي يتولى مسؤولية سياسية عليا في ليبيا، بعد انتخابه رئيسا للمؤتمر الوطني العام، حيث حصل على 96 صوتا من أصل 184، وكان أبو سهمين حجر الزاوية في إدارة الأزمة السياسية الحالية، فقد حافظ على المؤتمر الوطني بوصفه هيئة تشريعية رغم التحديات التي واجهته في يوليو 2013، ولم يحاول فرض الهوية الأمازيغية على ليبيا، لكنه شدد على ضرورة التعامل مع اللغة الأمازيغية، بوصفها مكونا ثقافيا للوطن، كالمكونات الأخرى، الطوارق والتبو.

الأمازيغ والانتقال السياسية

ومن خلال الإطلاع على عينة من بيانات المؤتمر الأمازيغي يتضح أن رؤيته للإنتقال السياسي تتركز في تقييم الدولة على جماعة الأمازيغ وقبولها ضمن الأطر الرسمية، وخلص في تقديره السياسي لثورة فبراير بأنها لا تزال تمثل امتدادا لنظام القذافي، وأن المؤسسات الجديدة هي مجرد استنساخ للمؤسسات القديمة، باعتبارها سياسات عنصرية تفتح المجال لطرح خيارات عديدة تنقص من الوحدة الوطنية.

ورغم أن سقوط نظام القذافي شكّل فرصة للأقليات الأمازيغية كي تطالب بالحصول على حقوقها، ومباشرة بعد تبني دستور مؤقت في أغسطس 2011 عقدت فعاليات أمازيغية يوم 26 سبتمبر 2011 مؤتمرا في طرابلس شهد تأسيس تنظيم يدافع عن الأمازيغ بليبيا:”المؤتمر الليبي للأمازيغ”.

وخرج المؤتمر ببيان يبرز موقفه من الإعلان الدستوري الذي عدّه الأمازيغ عنصريا، لكونه لا يعترف بالتعدد الثقافي واللغوي والاجتماعي في البلد، ولأنه جعل من اللغة العربية لغة رسمية من دون الإشارة إلى اللغة الأمازيغية، وعدّت وثيقة الدستور الجديدة عموما دون مستوى تطلعات الأقلية الأمازيغية، حيث لا يمهد الطريق لبناء مجتمع ديمقراطي متعدد وعادل، وأنه ضد حقوق الإنسان والمواثيق الدولية.

فثمة تركيز على التهميش في الخطاب السياسي الأمازيغي، ويشيرون بشكل خاص إلى فترة القذافي بأنها فترة شاهدة على الظلم الاجتماعي، والاستبعاد من المشاركة في شؤون الدولة، وهذه المسألة تتطلب نوعا من النظر في حقيقة التهميش، فمن المعروف أن النظام الليبي السابق قام على أساس أفكار سلطوية ترتب عليها نظام حكم فردي يعتمد على الموالين المحليين، ومن ثم شكلت سياسية التهميش والإستبعاد أساس سياسة النظام تجاه المعارضين والأقليات، وحرمها من حق التعبير,

ويتمثل التحدي في كيفية توفير مساحات مشتركة للتلاقي بين لغة الخطاب السياسي بين الدولة والأمازيغ، فرغم مشاركة السلطات الانتقالية وتفهمها لمطالب الأمازيغ، ظل الخطاب التقليدي منتشرا في منتديات الأمازيغ والعديد من المقالات المنشورة، ورغم وجود اتجاه عام لدى الدولة بقبول (دسترة) اللغة الأمازيغية، إلا أن الأمازيغ ذهبوا يؤكدون مطالبهم في كثير من المنتديات الثقافية والسياسية.

وخلال فترة ما بعد الثورة ظهر نوع من الخطاب السياسي الذي يتبنى خيارات حدية، بحيث يرى أن إقرار الحقوق الثقافية للأمازيغ يكون مقابل الإندماج في الدولة، فكثير من المقالات كشفت عن القلق من تبني الخطاب القومي، واعتبار اللغة العربية لغة رسمية دون غيرها من اللغات “الأصلية”، وهذا يكون في مقدمة المطالبة بحق تقرير المصير.

ولقد لجأ “ثوار الأمازيغ” إلى استخدام وسائل للضغط على السلطة الإنتقالية، وبجانب الهجوم على المؤتمر الوطني، بدأت اعتصامات بمجمع مليتة للنفط والغاز، واستمر هذا الإعتصام لمدة اسبوعين، وهو ما أدى إلى توقف صادرات الغاز والنفط، ولم ينته إلا بطلب من المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا، الذي جاء على خلفية أحداث طرابلس (15 نوفمبر 2013)، ولم يكن اعتصام مجمع مليتة للغاز الوسيلة الوحيدة للضغط على المؤتمر الوطني، حيث كانت هناك محاولات عديدة للأمازيغ، من خلال الملتقيات والتظاهر والإعتصام بالمدن الأمازيغية، وهي محاولات كانت ضعيفة التأثير في القرار السياسي في ليبيا.

وقد أصدر المؤتمر الليبي الأمازيغي بيانا حول الحوار الوطني والوضع السياسي الذي تمر به البلاد ـ أشار فيه إلى التزامه بالمسؤولية الوطنية، وإحساسه بالوضع الخطير الذي تعيشه وتمر به البلاد، والأخطار المهددة لسلامة واستقرار ووحدة الوطن، كما طالب المؤترم ببدء حوار وطني أمازيغي ـ أمازيغي لمناقشة مسألة “الحق الإمازيغي” في ليبيا و (دسترته)، للوصول إلى توافق يضم المعنيين بالمسألة الأمازيغية الليبية كافة، ويهدف المؤتمر الأمازيغي من هذه الخطوة إلى توحيد الموقف الأمازيغي، والدخول إلى الحوار الوطني بموقف متجانس تجاه مطالب الأمازيغ.

وإزاء استمرار الأزمات السياسية اعتبر الأمازيغ أن أهدافهم السياسية يمكن أن تصل إلى الحكم الذاتي أو الفيدرالية، حيث تشير إدبيات الأمازيغ إلى أن تعريفهم للهوية والحقوق الأساسية يشمل ثلاثة مكونات، هي اللغة، والإنسان، والأرض، إن الاعتراف باللغة الأمازيغية والهوية الأمازيغية لا يجدي في دولة يُعَدّ فيها الأمازيغ أقلية يمثلون 10%، فلابد من (دسترة) موارد مالية، وكذلك تمكين الأمازيغ الليبيين من تكوين الأحزاب السياسية الخاصة بهم،

ولذلك لا تتوقف المطالب عند الحقوق اللغوية، ولكنها تمتد إلى المطالبة بالحكم الذاتي أو حق تقرير المصير باعتباره من الحقوق الطبيعية لسكان ليبيا الأصليين، كما أن طرح الفيدرالية حلا لأمازيغ ليبيا هو تشكيل لأجل الحفاظ على هويتهم القومية واللغوية، وإحداث تنمية اقتصادية، أما أن يضعوا في الدستور اللغة الأمازيغية لغة رسمية ثانية شكلا فقط، كما حدث في المغرب إذ جُعلت مجرد ديكور وخربشات تحت الكتابة العربية، فهذا لن يفيد في شئ بدون سيادة على الأرض والمجال الجغرافي، أي ستكون قومية ليس لها أي قيمة.

يتبع في الجزء الثالث بدءً بـ “الأمازيغ ومشروع الدستور

___________________

المصدر: دورية رؤية تركية ( السنة 9 العدد 1)

مواد ذات علاقة