بقلم خيري عمر

تسعى هذه الورقة للاقتراب من الأطروحات السياسية والثقافية لجماعة الأمازيغ في ليبيا، وانعكاسها على مسألة الاندماج الوطني، وخصوصًا ما يتعلق بسياساتهم تجاه المرحلة الانتقالية وعمليات بناء النظام السياسي.

الجزء الثالث

الأمازيغ ومشروع الدستور

خلال مشوار الفترات الانتقالية، طالب الأمازيغ بإجراء تعديلات دستورية على الإعلان الدستوري، (المادة 30)، لتضمن مبدأ التوافق في التصويت على مشروع الدستور الجديد، بدلاً من نظام الأغلبية (الثلثين)، حيث يرون أن مبدأ التوافق يضمن الوصول إلى العدالة، وتشمل هذه التعديلات الإعلان الدستوري الصادر في 3 إغسطس 2011، بأن المادة (1) جاءت خالية من النصّ على حق الأمازيغ في ترسيم لغتهم في الدستور، وذلك رغم الوعود التي قطعها “المجلس الوطني الانتقالي”.

كما أن المادة (30)، لا تتيح للأمازيغ التعبير عن رأيهم في إسم الدولة ولغتها الرسمية، وذهبت مطالب الأمازيغ إلى أن صياغة الوثائق الدستورية تتطلب تساوي التمثيل لكل مكونات الدولة، لا تمثيلهم حسب نسبة السكان، وهذا النمط يوفّر الصيغة الوطنية، بحيث لا تنفرد به مجموعة سكانية دون غيرها.

وإزاء عدّ الاستجابة لهذه المطالبة، اتجه الأمازيغ لمقاطعة المؤسسات الليبية، وكان أهمها تأكيد مقاطعة (الهيئة التأسيسية) ترشيحا وانتخابا، ومقاطعة انتخابات مجلس النواب، وعدم الاعتراف بشرعيتهما، ويستند موقف الأمازيغ إلى أن التمثيل يُعدّ شكليا، ودون تأثير في ظل غياب ضمانات للحقوق اللغوية.

وقد رفضت جماعة أمازيغ ليبيا مسودة قانون انتخابات الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، اعتراضا على ما عدّته “تمثيلا شكليا” لمكونات المجتمع، وذلك قبل أن يصوّت عليه المؤتمر الوطني العام في صورته النهائية، وبعد صدور القانون قرر “المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا” مقاطعة انتخابات الهيئة التأسيسية للجنة صياغة الدستور ترشحاً وانتخاباً.

كما اعترض أعضاء المؤتمر الوطني الليبي عن المكونات الثقافية (الطوارق، الأمازيغ، التبو) داخل المؤتمر ـ على محاولات عدد كبير من الأعضاء تغيير نص المادة (5) من مشروع قانون الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، التي تنصّ على أن المواد التي تخصّ المكونات ذات الخصوصية الثقافية يكون التصويت عليها بعد التوافق، غير أن إقرارها وفق قاعدة الأغلبية دفع الأمازيغ وغيرهم إلى إعلان المقاطعة، ولكنه فيما التزم الأمازيغ بموقفهم، شارك الطوارق والتبو في انتخابات الهيئة التأسيسية.

ويرى الأمازيغ أن تعريف التوافق في إعداد مشروع الدستور بأغلبية الثلثين مضافا إليها صوت واحد، بحسب المادة (5) من القانون ـ لا يحمي حقوق المكونات الثقافية: (الأمازيغ، والتبو، والطوارق)، حيث لا توجد ضمانات للاعتراف بحقوقهم الثقافية، ولذلك خلص “مجلس الأمازيغ” إلى مقاطعة انتخابات الهيئة التأسيسية.

ورغم إجراء انتخابات الهيئة التأسيسية في 20 فبراير 2014، فإنها ظلت بلا إنجاز واضح، وهناك جدل بأن مقاطعة الأمازيغ تشكّل معضلة دستورية، ولعل هذا الجانب يثير إشكالية اعتراض الأمازيغ على شرعية الدستور، فمن جانب، يوجد ضعف في تمثيلهم (عضوين) بينما يتشدد الإعلان الدستوري في وصف الأغلبية، ومن جانب آخر اعتبار تمثيلهم وجوبيا، ووفق هذه الأوضاع سوف تكون شرعية الدستور معلّقة على موافقة الأمازيغ على المشاركة في الاستفتاء على مشروع الدستور.

وترتبط هذه المسألة بطبيعة إدارة الحوار السياسي حول مطالب الأمازيغ في الإندماج السياسي في كيان الدولة وفق منظورهم للحقوق الدستوري في جانبها الثقافي واللغوي، ومن ثم سوف تكون مسألة تمثيل الأمازيغ في عملية إعداد الدستور تحديا من التحديات السياسية.

وقد أفاد رئيس المجلس الأمازيغي أن رفض مطالب الأمازيغ يدفع نحو عرض مطالبهم على الدول الأوروبية، لتوضيح أن مقاطعتهم للفترة الانتقالية كانت بسبب انحراف المسار الديمقراطي، وانهيار المؤسسات المنتخبة، كما أشار إلى أن التدخلات الدولية تعمل على خلق صراع مذهبي، وأشار بشكل خاص إلى دور السعودية في دعم المذهب المالكي على حساب المذهب الإباضي الذي يعتنقه الأمازيغ، وهذا يهدد فكرة الاندماج الوطني في ليبيا.

وخلص تقييم “مجلس الأمازيغ” إلى أن المشكلة لم تعد فقط في اختراق الإعلان الدستوري، وإنما في انقسام المؤسسات التشريعية، حيث يرى أن مشكلة ليبيا تكمن في جمود “الهيئة التأسيسية” لصياغة الدستور، ولم تتمكن من إنجاز مشروع الدستور، وهذا يحملها مسؤولية تردّي الأوضاع التي تعصف بالبلاد، ويرى “المجلس” أن هذا الوضع هو نتيجة التسرع نحو الحلول التلفيقية.

ويرى الأمازيغ انهيار المؤسسات وإخفاق التحول الديمقراطي إلى كثرة الدول المتدخلة في الشؤون الليبية، وفي الصراع على السلطة، وهذا أدّى إلى ظهور صراعات قبلية عرقية أسهمت في تأخّر ليبيا، فقد ظهر انهيار الدولة في عدم احترام قرارات المحكمة العليا، والإنقلات الأمني، وتوقف التعليم، وقطاع النفط.

وفي رحلة “رئيس المجلس الأمازيغي” إلى أوروبا التقى برئيس المحامين في الملف الليبي لدى محكمة الجنايات الدولية، ولجنة التحقيق في قضايا الملف الليبي، حيث طلب الوفد الليبي من المحكمة أن تتسلم سيف القذافي، لعدم توافر ظروف كافية لمحاكمته في ليبيا، واستند هذا الموقف إلى عاملين: الأول أن أجهزة الدولة لا تستطيع إجراء مثل هذه المحاكمات، والثاني أن سيف القذافي يعمل على تكوين تحالف قبلي لاستعادة السلطة.

وقد عدّ “المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا” أن استبعاد الأمم المتحدة لممثل المجلس عن كل جولات الحوار الطويلة يمكن اعتباره إهداراً لحقوق الأمازيغ في تقرير مصير الدولة الليبية، وهو ما يعني أن الحوار الذي أدارته الأمم المتحدة كان حوارا إقصائيا، وخلص إلى أنه غير معني بـ “الاتفاق السياسي الليبي” بسبب استبعاد ممثل “المجلس الأمازيغي”.

وعدّ الأمازيغ أن صدور مشروع الدستور يستكمل مشوار التهميش في مؤسسات الدولة، وقد استخدم الأمازيغ مصطلح الشعوب الأصلية بوصفه أساسا لحق الإعتراض على مشروعات القوانين، لا على أساس الأغلبية والأقلية، وهو مفهوم يستند إلى إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية.

السلطة الإنتقالية

وفرت الثورة الليبية فرصة لانبعاث الولاءات التي تعبر عن التركيبة الإجتماعية ـ الثقافية، فخلال الثورة على نظام القذافي كانت الوحدة بين المقاتلين يحددها عاملان: العامل الديني والعامل القبلي، فقد وجدت الجماعات التي كانت تنتمي إلى تنظيمات سياسية محظورة الفرصة سانحة لقلب النظام، وشكلت تنظيمات مسلحة، لكن بقى المحدد القبلي هو الأهم في تحديد التضامن، وتشكيل الوعي الجمعي لليبيين في مرحلة القضاء على نظام القذافي.

ومنذ تكوين المجلس الإنتقالي، بدا واضحا تفهّم مؤسسات الدولة لمطالب الأمازيغ، وذكر ممثل المجلس الانتقالي سالم قنان أن “توصية المجلس هي أن اللغة الأمازيغية لغة وطنية”، وهو ما يمهد لوضع إطار يكرّس التعايش بين مكونات المجتمع الليبي، فالتعددية اللغوية لا تعني التفرقة والإنقسام.

وفي ظل سعي الأمازيغ إلى إظهار هويتهم في المجتمع، صدر قرار سمحت فيه السلطات الإنتقالية الليبية للمواطني بقيد الأسماء الأمازيغية في السجل المدني للمواليد الجدد، باعتبارها من الحقوق الأساسية للطفل، وتعكس تعدد الهوية الثقافية.

واتساقا مع التوجهات العامة للدولة في المرحلة الانتقالية، أشار رئيس المؤتمر الوطني محمد المقريف إلى حق الأمازيغ الليبيين في الاعتراف بلغتهم في الدستور، فخلال اول ملتقى أمازيغي في يناير 2013 حول الاستحقاق الدستوري ـ اتضحت ملامح الخطاب الرسمي للدولة في أن الإعتراف بالتنوع اللغوي لا يشكّل مساسا بالوحدة الوطنية للبلاد.

ومن الملاحظ أن الجدل حول المطالب الأمازيغية انتقل إلى مرحلة تنظيم استخدام هذه الحقوق، لا إنكارها، وهنا يعد من المفترض أن ينتقل النقاش إلى التفكير في الصيغ الممكنة للاستفادة من الحقوق الأساسية.

وقد ظهر الأمازيغ بوصفهم مسألة مذهبية إثنية عندما نشرت اللجنة العليا للإفتاء (الحكومة المؤقتة) فتوى بتكفير أتباع المذهب الإباضي في ليبيا، وقد عدّ “المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا” الفتوى بمثابة تحريض صريح على الإبادة الجماعية للأمازيغ، وانتهاكا للمعاهدات والمواثيق الدولية، ومن خلال قراءة المحتوى الثقافي للفتوى، بتدو آثارها السياسية مثيرة للاهتمام، حيث لا تنصرف فقط إلى إثارة صراع مذهبي، ولكنها تجعل الانقسامات السياسية أكثر حدة، فبالنظر إلى الترابطات والتحالفات القائمة، تزيد احتمالات الصراع بين المكونات الثقافية بشكل يهدد تكامل الدولة والاندماج الوطني، فمنذ بداية الأزمة، ظهر انحياز كثيرين من جماعة التبو إلى عملية الكرامة، فيما ساند الطوارق والأمازيغ المكونات السياسية والعسكرية المناهضة لمشروع حفتر في غرب ليبيا.

وخلال الفترة الانتقالية، ظل الأمازيغ متضامنين مع الحكومات التي مرّت على طرابلس، فقد اندمجوا مع حكومة المؤتمر الوطني العام، وبعد اندلاع النزاع حول الشرعية الدستورية بين المؤتمر ومجلس النواب ـ انحاز الأمازيغ إلى حكومة الإنقاذ الوطني، وهي الحكومة التي تشكلت في نهاية أغسطس 2014 برئاسة عمر الحاسي ثم خليفة الغويل، غير أنها انتهت مع ظهور حكومة الوفاق الوطني.

وفي هذا السياق، شارك الأمازيغ في التحالفات العسكرية بداية من “فجر ليبيا” وانتهاء بـ “بركان الغضب”، وهي تحالفات مضادة لمحاولات خليفة حفتر في السيطرة على العاصمة طرابلس.

وكان دخول الأمازيغ في تحالف “فجر ليبيا” في أغسطس 2014، وفي حكومة الوفاق في 2019، امتدادا لموقفهم ضد عودة نظام القذافي والحكم العسكري، كما أن تسمية “الجيش العربي الليبي”، استنادا إلى الأغلبية العربية تعبّر عن ميليشيات عرقية، وأن البديل هو جيش وطني يكون مظلة لكل الأعراق في ليبيا.

خاتمة

في سياق الوضع السياسي في ليبيا، يمكن تصنيف مسألة الأمازيغ قضايا بناء الدولة وتحديد العلاقة بين مكوناتها الدينية والثقافية. وهذا ما يشكّل جانبا جوهريا في الأزمة السياسية، خصوصا مع إثارة النزاعات الدينية والاستبعاد الاجتماعي، فيما تحتدم الخلافات والصراعات السياسية.

ولعل المعضلة التي تواجه السياسة الليبية تكمن، بشكل أساسي في أن بناء سياسات الصراع ظلت متفوقة في الفترة الماضية على محاولات بناء السلام. ومن ثم، يشكّل عدم الوصول إلى إطار سياسي يستعيد مشروعية المؤسسات، ويثبط الصراعات الأيديولوجية ـ وضع البلاد أما خيارات متباينة، قد لا يكون من بينها الحل السياسي.

وبشكل عام، يشير الوضع السياسي للأمازيغ بعد حقبة القذافي إلى ميلهم إلى الإنخراط في الشؤون العامة، والخروج من العزلة الاختيارية مع استمرار تحفظهم عن المشاركة في المؤسسات بسبب الخلاف على هوية الدولة، كما وردت في الإعلان الدستوري، الذي يصف ليبيا بأنها دولة عربية، من دون إشارة إلى المكونات الأخرى.

وهناك إشكالية أخرى تترتب على الانقسامات الاجتماعية في ظل وجود المعضلة الدستورية، إذ إن غياب القبول والرضا عن القواعد القانونية يشكّل تحدّيا أمام الاندماج الوطني، نظرا للتعقيدات المتعلقة بتعريف الحقوق، ومدى تحقيقها للمواطنة وتكافؤ الفرص، وهذا يضفو نوعا من القلق في النظام السياسي، وخاصة في ظل تزايد مطالب الأقليات، وضعف فاعلية الحوار السياسي، وتزايد الإنقسامات المؤسسية.

ولعل المشكلة التي تترتب على انقطاع الأمازيغ عن النظام السياسي تكمن في حدوث فجوة سياسية، في حال انسحاب المكونات الثقافية من العملية السياسية، كما حدث في حوار “الصخيرات” بالمغرب، حيث يترتب عليه اتساع الانقسامات الاجتماعية والسياسية.

_____________

المصدر: دورية رؤية تركية ( السنة 9 العدد 1)

_______________

مواد ذات علاقة