بقلم حسين سالم مجين

أصبح مع حدوث أيّ نزاع أو صراع في المجتمع الليبي منذ 2011م، يقفز إلى الذهن تساؤل مهم، وهو : ما دور القبائل والزعامات القبلية في دعم أو مساندة الأطراف المتصارعة أو المتنازعة؟

وهنا لا نريد إطلاق تعميمات مطلقة حول ذلك الدور وطبيعته، فالأمر بحاجة إلى البحث والكشف ، حيث يعد هذا الدور من الأدوار المتشابكة والمعقدة، بالتالي المهمة ليست بالسهلة، فضلا عن كون التوسع في بحثها قد يدفعنا إلى الخوض في جزئيات لا ثقل كاهل هذه المقالة، إنما ربما تضعفها.

وعمومًا فإن البناء الاجتماعي في المجتمع الليبي كما بيَّنه لنا الدكتور عقيل البربار يعتمد على نظام القرابة، حيث يعيش الناس وفقًا لعلاقات القرابة، بالتالي الوحدة الأساسية هي: البيت، أو العائلة الممتدة، وهي تمتد من خمسة إلى ستة أجيال، وأعضاء البيت لديهم الإحساس الكامل بالتكافل، والتماسك، والالتحام، وتُشكل عدة بيوت لحمة، وعدة لحمات تُكون قبيلة.

بالتالي فإن القرابة والنسب هما الرابطان الأساسيان للنظام الاجتماعي في المجتمع الليبي، وهذا يعني بأن القبيلة والفكر القبلي لا يزالان يُشكلان بنية العقل في المجتمع الليبي، لذلك كثيرًا ما كانت الحكومات في ليبيا تعمل وبشكل حثيث ومنذ 1951 – 2011م، على إرضاء مؤسسة القبيلة واستقطابها في صفها.

فالنظام الملكي أسس مجلس الشيوخ يضم في عضويته جل مشائخ القبائل، ونظام القذافي أسس كياناً أسماه القيادات الشعبية الاجتماعية، والذي يضم أهم الشخصيات الموالية له في مؤسسة القبيلة، وعملت مؤسسة القبيلة خلال تلك السنوات على دعم وتأييد السلطة، ووصل الأمر في عهد القذافي إلى تكليف أحد المقربين منه بشؤون وأحوال القبائل.

هكذا يتضح لنا أهمية دور القبائل في استقرار، أو استمرار السلطة؛ وذلك في حال حصولها على التأييد القبلي، أو زعزعة أو إزاحة السلطة أو سقوط الحاكم، في حال عدم حصولها على التأييد القبلي، فسقوط النظام السياسي في ليبيا العام 2011م، كانت أحد أهم أسبابه التأييد الذي تحصل عليه الحراك المجتمعي الداعي لسقوط السلطة، فسقطت السلطة بشخوصها، وسقطت معها أيضًا مؤسسات الدولة؛ في حين أن مؤسسة القبيلة وشخوصها لم تسقط ، فهذه المؤسسة تمتلك القدرة على التنظيم والتوجيه، وكذلك تحريك الأحداث.

بالتالي لا يمكن إنكار وجودها، ودورها في جل الأحداث الحاصلة في المجتمع الليبي سلبًا كان أم ايجابًا، كما لا يمكن الإلمام بهذه المؤسسة خارج دائرة العلاقات التاريخية، فالمشهد المجتمعي في ليبيا تاريخيًا يُبين لنا بروز ظاهرة “الصفوف”، وهي أحلاف بين القبائل الليبية؛ لمواجهة أيّ خطر قد يواجه تلك القبائل سواء سواء كان عدواناً داخلياً، أم عدوناً خارجياً.

وكانت أهم هذه الصفوف، هو صف يوسف شداد في جنوب تونس وغربي طرابلس، وصف البحر، والصف الفوقي في شرق وشمال طرابلس، وصف القبلة وفزان، ولا تزال هذه الأحلاف قائمة رغم قِدمها، فضعف الحكومات وغياب مؤسسات الدولة في مرحلة ما بعد 2011م، لم ينتج عنه غياب مؤسسة القبيلة، كما سبق وأن أوضحنا، إنما استمرت في العمل من خلال قيامها بإعادة هندسة العقل القبلي، ليتعاطى بشكل جدي مع تداعيات سقوط النظام السياسي 2011م كمرحلة أولى، والتعاطى كمرحلة ثانية مع ضعف الحكومات خلال مرحلة ما بعد 2011م، فبرزت المجالس والكيانات القبلية في كل أنحاء ليبيا، وتحملت تلك المؤسسة المسؤوليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الأمنية والعسكرية، وأصبح لها وظائف متعددة في مجالات عديدة؛ قد تكون أحيانًا غير محدودة.

وصل البعض منها إلى عقد اتفاقيات أو برتوكولات تعاون مع دول أجنبية، فأصبح لها فأصبح لها دور مؤثر في الرأي العام، وطفحت على السطح المجتمع مسألة الهويات القبلية، بالمقابل أصبح هناك اضمحلال أو غياب للهوية الوطنية، فمثلا : اصبح هناك سؤال يتم طرحه على المواطن الليبي في اليوم الواحد أكثر من مرة وهو : من أيّ قبيلة أنت ؟!.

إن تلك المسؤوليات والوظائف والممارسات عززت إلى حد كبير من مسألة الهويات القبلية في المجتمع، ودفعت نحو تقوية سلطة تلك المؤسسة على حساب سلطة الحكومة ومؤسساتها، وبدأ هناك شعور يبرز بعدم تساوي في الحقوق في المجتمع ما بين القبائل، خاصة بعد تقسيم المجتمع إلى قبائل منتصرة، وأخرى منهزمة – وهي تلك التي كانت مؤيدة للنظام السياسي السابق-

ووصل الأمر ببعض القبائل المنتصرة إلى تقسيم المكاسب والمنافع فيما بينها، فأصبح هناك مثلًا: تواجد واضح لأبناء بعض القبائل – المنتصرة- في المناصب العليا في جل الوزارات ومؤسسات الدولة، وبدأ تدخل تدريجيًا بعض المفاهيم المعبرة عن تقسيم المكاسب والمنافع لعل أهمها ، مفهوما الغنائم ، والتمشيط ، فكل الموارد الاقتصادية والمالية المملوكة للدولة أصبحت تدرج ضمن سياق هذين المفهومين.

ووصل ببعض أبناء بعض القبائل – المنتصرة – إلى التعامل مع الأموال والممتلكات الخاصة أيضًا ضمن إطار المفهومين السابقين، فجرت مثلًا: عمليات – جمع غنائم أو تمشيط – تهدف إلى الاستيلاء على الأموال العامة، أو السيارات، أو المباني، أو غير ذلك، وكذلك أصبحت عمليات احتجاز أو اختطاف أصحاب رؤوس الأموال من الأمور المعتادة، وذلك من أجل ابتزازهم، وأخذ الأموال منهم، وهذا ربما فتح المجال واسعًا أمام انتشار ظاهرة الاختطاف؛ من قبل عدد كبير من العصابات التي أصبحت تمتهن تلك العمليات.

وعمومًا أصبحت صورة بعض أبناء القبائل- المنتصرة – نتيجة لانخراطهم في ممارسات الغنائم، والتمشيط أقرب إلى الصورة- القديمة – للبدوي الغازي، واتسمت أفعال بعض أبناء القبائل المنتصرة إلى استخدام العنف المفرط إزاء الآخرين، وهذا ربما هو نتاج شعورهم بحالة الاستعلاء والتمييز القبلي عن غيرهم من القبائل الأخرى.

وحاولت بعض القبائل أيضًا تضخيم وتعظيم دورها في مسألة سقوط النظام السياسي السابق، أو البحث عن أدوار وبطولات قديمة في تاريخ المجتمع الليبي، كل ذلك ربما ساهم في زيادة الشعور بحالة التمييز ما بين القبائل الليبية، وجرى في الوقت نفسه تهميش وإقصاء بعض القبائل، ووصل الأمر ببعض القبائل – المنتصرة – إلى ممارسة عمليات التهجير القسري ضد بعض القبائل سواء أكانت المعارضة أو المنافسة لها.

إن مسألة بقاء واستمرار مؤسسة القبيلة وقيامها بأدوار ومسؤوليات في المشهد العام، ربما يفسر اصرار بعض الدول الإقليمية، والدولية، ومنظمة الأمم المتحدة إلى ضرورة إقحام هذه المؤسسة في أيّ تسوية للسياسية تحدث في المسألة الليبية، مثلما حدث في لقاءات جنيف 2015، واتفاق الصخيرات 2016م، والمؤتمر الجامع الذي كان مزمع عقده في أبريل 2019م.

إن كل ذلك قد يدفعنا إلى القول بأن مؤسسة القبيلة في المجتمع الليبي لا تزال أقوى من أيّ سلطة حكومية ومؤسساتها.

إن السؤال الذي ربما يطرح خلال حديثنا عن القبيلة في المجتمع الليبي، هو : هل يمتلك شيوخ القبائل السلطة على أفراد القبيلة ؟

أنه من الوهم أن نعتقد بأن الصورة النمطية لتركيبة، وعلاقات أفراد القبيلة لا تزال على حالها دون أيّ تغيير. فمعايير تولى المشخية، أو رئاسة القبيلة قد تغيرت، ولم تعد كما كانت في السابق عبارة عن منصب موروث أبًا عن جد، ومعتمدة على معايير القوة، والشجاعة، وكثرة المال، والبنون.

فالنظم السياسية التي حكمت ليبيا خلال الفترة من 1951- 2011م، عملت على تفكيك تلك المعايير، وإعادة تركيبها مرة أخرى، بحيث تتعاطى مع مسألة الولاء والتأييد النظام السياسي، فمثلا : جل من تولوا العضوية في مجلس الشيوخ في العهد الملكي كانوا من مشائخ القبائل الذين لديهم ولاء خاص لشخص الملك وللعائلة السنوسية، حيث كان النظام السياسي الملكي يستعين بهم في حلحلة الكثير من قضاياه ومشاكله الداخلية.

بالمقابل كان النظام الملكي يمنحهم المزايا المالية، والمعنوية بما يمكنهم للقيام بأدوارهم ومسؤولياتهم اتجاه أفراد قبائلهم، في حين عمل النظام القذافي على فك وإعادة تركيب تلك المعايير مرة أخرى، من خلال تأسيس كيان القيادات الشعبية الاجتماعية (كما أسلفنا)، ويناط به العمل على دعم ومساندة النظام السياسي داخل القبائل، ومن أهم شروط العضوية في هذا الكيان كانت مسألة الولاء للنظام السياسي.

قام رأس النظام نفسه باختيار بعض الأشخاص لتولي رئاسة هذا الكيان، أو القيام باختيار بعض الأشخاص ليكونوا ممثلين لقبائلهم في هذا الكيان، في حين كان جل الأشخاص الممثلين لقبائلهم يفتقرون إلى مخزون من العلاقات اجتماعية، والنفوذ، والمكانة الاجتماعية، والاحترام والتقدير داخل قبائلهم، فكل ما يقوم به هؤلاء – الشيوخ الجدد- هو نقل توجيهات وتعليمات النظام السياسي إلى أفراد قبائلهم، بالمقابل كانوا يتحصلون على بعض المزايا المالية.

وببساطة شديدة أصبحوا ممثلين للنظام السياسي داخل قبائلهم ،أكثر من كونهم ممثلين لقبائلهم لدى النظام السياسي، إذ إن هدفهم أصبح الدفاع عن النظام السياسي، وإذا أضفنا إلى كل ما سبق حقيقة أخرى وهي أن طبيعة النظام السياسي الاستبدادي كانت ترفض وجود أيّ أشخاص ربما قد يكونوا منافسين له في السلطة؛ حتى وإن كانت الأمر على مستوى القبيلة، كل ذلك جعل سلطة هذا الكيان تكاد تكون معدومة في بعض القبائل.

وهذا الأمر جعل هناك تراجع ملحوظًا في مكانة بعض شيوخ القبائل، وهذا الأمر ينسحب تقريبًا على جل القبائل في المنطقة الغربية، حيث لم يعد هناك مثلا : شخصًا واحد تنصاع له كل القبيلة بكل أفرادها، كون ذلك سُيشكل خطراً على السلطة ، إنما أصبح هناك مجموعة من الأشخاص، يكونوا في العادة موالون للنظام السياسي، ويمثلون القبيلة، ويتحدثون باسمها.

وأصبحت مسألة انصياع الأفراد لمشائخ قبائلهم – الجدد- متفاوتة من قبيلة إلى قبيلة، وتكاد تكون معدومة في بعض القبائل – كما ذكرنا سابقًا-، بالمقابل لا تزال قبائل المنطقة الشرقية، وإلى حد ما وقبائل المنطقة الجنوبية، تحتفظ بوجود بعض الشخصيات القبيلة القادرة على التأثير داخل القبيلة؛ ولكن بعيدًا عن عضوية الكيان المذكور، وينصاع أفراد القبائل لهم، وهذا ربما الذي عجل في سقوط المنطقة الشرقية بكاملها العام 2011م، من قبضة النظام السياسي السابق قبل المنطقة الغربية.

ومع بدايات الحراك المجتمعي 2011م، أعلنت جل القبائل بشخوصها تأييدها لذلك الحراك وسقوط شرعية النظام السياسي، ومع سقوط النظام السياسي، وتقسيم المجتمع – كما سبق وذكرنا آنفا- إلى قبائل منتصرة وأخرى منهزمة، أصبحت مسألة المرور بالقبائل المنتصرة ضروري لمن يريد أن يتولى مسؤولية السلطة في الدولة.

ومع دخول المجتمع الليبي في الحرب الأهلية سنة 2014م، والتي تمخض عنها حالة الانقسام الحكومي؛ ما بين الحكومة المؤقتة بشرعية البرلمان في المنطقة الشرقية، وحكومة الإنقاذ بشرعية المؤتمر الوطني في المنطقة الغربية، ومن ثم إحلال محلها حكومة الوفاق الوطني في سنة 2016م بالشرعية الدولية.

كل تلك الأحداث جعلت من مسألة الاستقطاب القبلي تدخل في سباق غير معلن ما بين الأطراف المتنازعة، وربما أصبح الأمر أكثر وضوحًا مع حرب طرابلس 2019م، ما بين قوات تابعة للحكومة المؤقتة، وقوات تابعة لحكومة الوفاق الوطني، حيث قطعت القوات التابعة للحكومة المؤقتة المئات من كليومترات برًا من بنغازي، مرورًا بالجفرة، إلى الشويرف، وغريان ووصولًا إلى تخوم طرابلس.

في الحقيقة ما كان ليتم ذلك لولا حصولها على تأييد ودعم القبائل لها، في حين لم تكترث – في البداية- حكومة الوفاق الوطني كثيرًا بأهمية الاستقطاب القبلي، وحدثني أحد مشائخ قبائل القبلة من أولاد أبوسيف، بأنه نبه السيد فائز السراج رئيس المجلس الرئاسي إلى مسألة الاهتمام بالاستقطاب القبلي حيث ذكر له ” بأنه بحاجة إلى وجود خليفة احنيش يعمل معه” واحنيش؛ هو الشخص المكلف من قبل معمر القذافي بشؤون القبائل في النظام السياسي السابق.

فبعد أسابيع من حرب طرابلس 2019م، تنبهت حكومة الوفاق الوطني إلى أهمية الحصول على التأييد القبلي لها، فبدأ المجلس الرئاسي في استقبال الوفود القبلية، واطلاق الوعود، بالتالي دخلت مسألة الاستقطاب القبلي في سباق معلن هذه المرة ما بين الأطراف المتنازعة، فكل طرف يحاول أن يُبين مدى حصوله على تأييد القبائل له، وبينت تطورات الحرب إن بعض القبائل لم تكتفي بإصدار بيانات التأييد وحسب، إنما أصبحت طرفًا أيضًا في أتون الحرب الدائرة في طرابلس.

فمثلا : لوحظ إن بعض الجماعات المسلحة التابعة للقبائل المؤيدة للحكومة المؤقتة قامت بالمشاركة في الحرب، لعل أهم تلك القبائل هي : قبائل المقارحة، والمشاشية، وترهونة، والمغاربة، وفي الوقت نفسه قامت بعض الجماعات المسلحة التابعة للقبائل المؤيدة لحكومة الوفاق الوطني بالمشاركة في الحرب والوقوف إلى جانب قوات حكومة الوفاق الوطني، منها على سبيل المثال قبائل : زليتن، كاباو ، مصراتة.
إن السؤال الذي ربما يطفو على السطح الآن هو : هل عمليات الاستقطاب القبلي ستؤدى إلى تغيير موازين القوى بين الأطراف المتصارعة في حرب طرابلس؟
قبل الإجابة على هذا التساؤل نريد الاستباق بطرح مقولة وهي ” أن حرب طرابلس لقد أحدثت تغييرًا في موازين القوى، حيث أنها ستؤدى بالضرورة إلى تغيير الفاعلين المحليين”.

إن استقطاب القبائل عامل مهم جدًا في عملية تغيير موازين القوى، فالقبائل سواء في المنطقة الغربية، أم في المنطقة الشرقية، أم في المنطقة الجنوبية، قامت بأدوار مهمة سواء في استمرار النظام السياسي السابق لمدة أربعين سنة ونيف، وساهمت أيضًا بعد ذلك في سقوطه العام 2011، وساهم العامل القبلي بعد ذلك في دعم قوات التابعة للحكومة المؤقتة للاستيلاء على الموانئ النفطية العام 2016م، وكذلك ساهم العامل القبلي في دعم ومساندة نفس القوات لبسط نفوذها في الجنوب العام 2019م.

لاشك أن زيادة الاستقطاب والتأييد القبلي يعد شرطًا مهمًا لاتساع النطاق الجغرافي للأطراف المتصارعة لكنه لا يكفي ليحدث تغييرًا في موازين القوى؛ فالدعم والمساندة وحتى المشاركة القبلية في الحرب لن يحسم معركة طرابلس.

فالمعركة سوف ترتكز على عناصر حسم أخرى، أهمها : مدى امتلاك أسلحة نوعية، والحصول على الدعم الدولي، ومن ثم سيأتي دور الاستقطاب والتأييد القبلي في معركة، والذي سيكون أقرب إلى دور المُيسر والمُسهل لأحداث التغيير في موازين القوى.

_______________
الحوار المتمدن

مواد ذات علاقة