أكد معهد “بروكينغز” للدراسات الأميركي، أن عملية السلام في ليبيا “لا يمكن أن تنجح سوى عبر إرساء آليات الحكم المحلي والتي تم تجاهلها في كل الحوارات والمبادرات السابقة”.

وأشار المعهد، في تقرير له، إلى أن “دراسة حديثة للبنك الدولي توصلت إلى ضرورة إيلاء اهتمام أكبر لقضايا الحكم المحلي في منع النزاعات وتسويتها، واستنادا للتجارب المتعلقة بجهود التخفيف من حدة الصراع في 7 دول، تحدد الدراسة مجموعة من العوامل التي تفسر نجاح أو فشل إصلاح الحكم المحلي في عمليات السلام”.

وتشدد الدراسة على أنه “في كثير من الأحيان يتم تناول هذه القضايا الحرجة بعد فوات الأوان وبدون تفاصيل كافية، لأن إصلاح الحكم المحلي حساس، ويسهل تسييسه، ويصعب التنازل عنه”.

ومع ذلك، فإن الفشل في معالجة هذه القضايا له تأثير كبير وسلبي على استدامة اتفاقيات السلام، إذ تمثل ليبيا حالة توضيحية، حيث تقع الحوكمة المحلية في قلب الصراع المستمر، كما أقر ذلك أيضا تقرير “بروكينغز” لعام 2019.

بلد ممزق

وقال المعهد: إن “ليبيا دخلت مرحلة حرجة في جهودها لحل الصراع الذي طال أمده، وفي 19 يناير/كانون الثاني الجاري، في إطار عملية منتدى الحوار السياسي الليبي، وتوصلت الأطراف إلى اتفاق مبدئي يقضي بضرورة طرح الاقتراح الدستوري لعام 2017 للاستفتاء من أجل التصديق عليه”.

كما تمت صياغة الاقتراح والموافقة عليه في يوليو/تموز 2017 من قبل هيئة صياغة الدستور، التي تم انتخابها في فبراير/شباط 2014.

وأوضح المعهد أنه “بمجرد الموافقة عليها، يجب أن يكون الاقتراح بمثابة الأساس القانوني للانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي ستجرى في 24 ديسمبر/كانون الأول 2021، في الذكرى الـ70 من استقلال البلاد، وقد كانت هذه خطوة رئيسة في عملية بطيئة ومقسمة حتى الآن لوضع ليبيا على طريق المصالحة والتعافي”.

وفي حين أن من المهم الاتفاق على أساس دستوري للانتخابات لاستكمال الانتقال السياسي في ليبيا، فإن الاقتراح الدستوري لعام 2017 في شكله الحالي يفتقر إلى قبول واسع من جميع شرائح المجتمع.

وعلاوة على ذلك، يستند قانون الاستفتاء إلى صيغة مفادها أن الاقتراح يجب أن يحظى بدعم الأغلبية في جميع المناطق التاريخية الثلاث، برقة في الشرق، وطرابلس في الغرب، وفزان في الجنوب.

وفي ظل معارضة بعض التجمعات الشرقية والجنوبية للمشروع، وكذلك بعض الجماعات في الغرب، هناك احتمال حقيقي برفض الاقتراح في الاستفتاء، وهذا من شأنه أن يعرقل العملية الانتقالية ويؤدي إلى تفاقم التوترات، مما قد يؤدي إلى اندلاع جولة جديدة من العنف، وفق “بروكينغز”.

وحتى في حالة المصادقة على الاقتراح من خلال الاستفتاء، فإنه لا يوفر أساسا مناسبا لاستقرار طويل الأجل وسلام مستدام، بسبب أوجه القصور الخطيرة في ترتيبات الحكم المقترحة، وبالتالي ينبغي على هيئة صياغة الدستور أن تنظر في جدوى إعادة فتح المسودة لإدخال عدد من التعديلات.

وتعد مركزية “ترتيبات الحكم المحلي” في البلاد، أحد العناصر الحاسمة التي يجب مراعاتها في الصراع الجاري، ولا سيما توزيع السلطة السياسية وموارد الدولة، وكان ينبغي معالجة ترتيبات الحوكمة المحلية في وقت مبكر، ومن الواضح أنه لن تكون هناك تسوية سياسية قابلة للتطبيق دون إحراز تقدم في هذا الجانب الحاسم.

ومع ذلك، وفي محاولة خاطئة لتعزيز التماسك الاجتماعي، ابتعد الليبيون والوسطاء الدوليون مرارا وتكرارا عن معالجة القضايا الخلافية سياسيا، وفشلوا في معالجة الحكم المحلي في الإعلان الدستوري لعام 2011 واتفاق “الصخيرات” عام 2015.

ويفتقر الاقتراح الدستوري لعام 2017 إلى العمق والتفاصيل الكافية حول الحكم المحلي، ويميل بشدة نحو نظام رئاسي قوي مع شكل ضعيف للغاية من اللامركزية.

وأشار التقرير إلى أن “هناك فرصة الآن لإنشاء مؤسسات تعكس مصالح أصحاب المتنوعين وتدعم نظاما أكثر فاعلية للعلاقات بين الحكومات يمكن أن يحافظ على دولة ليبية قابلة للحياة”.

ويدعو غرب البلاد، وهو الأكثر اكتظاظا بالسكان، إلى نظام مركزي قوي بسبب المخاوف بشأن تفكك البلاد وما ينتج عن ذلك من فقدان السيطرة على الموارد الموجودة بشكل أساسي في الشرق والجنوب.

ويتخذ المسؤولون في الشرق وجهة نظر مختلفة اختلافا جذريا، بحجة أن النظام الفيدرالي ضروري لضمان حصولهم على فرصة عادلة للمشاركة في ترتيبات الحكم في البلاد، واكتساب سيطرة أكبر على الموارد المحلية، وتجنب هيمنة طرابلس في المستقبل. 

وفي الوقت نفسه، تنقسم المجتمعات في الجنوب -حيث تعيش معظم الأقليات في البلاد- حول هذه القضية، فبعضها حريص على تحقيق قدر أكبر من الحكم الذاتي الإقليمي، فيما يدعو البعض الآخر إلى نظام لامركزي داخل دولة موحدة من شأنه أن يساهم في تحسين تقديم الخدمات المحلية.

وبالتالي، تختلف الآراء بشكل كبير، وهناك فروق دقيقة مهمة لما تعنيه الجهات الفاعلة المختلفة بكلمة “الفيدرالية” و”الاستقلالية” و”اللامركزية”، ومع ذلك، حتى في تصويرها المبسط، فإن وجهات النظر هذه تشكل المعايير لإيجاد ترتيبات حوكمة محلية مستدامة، يوضح المعهد الأميركي.

طريق صعب

ولفت التقرير إلى أنه “بناء على الترتيبات الواردة في الاقتراح الدستوري لعام 2017، يمكن صياغة حل وسط على طول أحد المسارين المحتملين: دولة موحدة ذات لامركزية قوية أو ترتيب فيدرالي ضعيف”.

ويستلزم المسار الأول الإبقاء على الهيكل الحالي للتقسيم الجغرافي -المحافظات والبلديات-، ولكن يضمن نظاما قويا للحكم اللامركزي مع ضمانات دستورية لأهمية سياسية ومالية وإدارية، واختصاصات ممنوحة للمحافظات والحكومات المحلية، وخصوصا، استفادة المناطق المنتجة للنفط من حصة مناسبة من عائدات الموارد. 

وأشار التقرير إلى أنه “ولاستكمال ذلك يجب البحث عن آليات لتقاسم السلطة على المستوى المركزي، مثل اعتماد سلطة تنفيذية شبه رئاسية وتمثيلية إقليمية، وزيادة حصة ممثلي الشرق والجنوب في الغرفة التمثيلية بالهيئة التشريعية”.

وإضافة لذلك، يمكن أن يظهر في هذا النموذج نهج “عاصمة الفرع” الإقليمي، مع وجود السلطة التنفيذية في طرابلس والسلطة التشريعية في بنغازي والقضاء في سبها. 

وستوازن هذه الترتيبات بين قوة السلطة المركزية وانخراط الفاعلين الإقليميين الرئيسين في المركز، مقابل توفير مستويات الحكم الذاتي المرغوبة والتي يمكن التحكم فيها.

ويمكن أن يكون المسار الثاني هو تشكيل ترتيب فدرالي واضح، لكنه ضعيف، يمنح الحكم الذاتي للمناطق التاريخية الثلاث، ويُستكمل بترتيبات تقاسم السلطة في المركز.

وقد يكون هذا ترتيبا غير متماثل، حيث يتم نقل المزيد من الكفاءات إلى المنطقة الشرقية من برقة، بالإضافة إلى أحكام ثقافية خاصة لاستيعاب التنوع في المنطقة الجنوبية من فزان.

وسيظل مثل هذا النموذج بحاجة إلى تهدئة مخاوف القبائل في الغرب -وإلى حد ما البعض منها في الجنوب- من أن الشرق ومعه غالبية موارد البلاد سينفصلان في النهاية، ، بحسب تقرير المعهد الأميركي.

كذلك، يجب أن يأخذ أي إصلاح للحوكمة في الاعتبار حقيقة أن العناصر الرئيسة للنزاع تتطور حول القضايا على المستوى الإقليمي، بدلا من المستوى المحلي، ويجب أن يتجنب ترسيخ الانقسامات الإقليمية وإدامتها.

وبدلا من رسم خطوط إدارية على طول الحدود الخلافية للمناطق التاريخية الثلاث، قد تكون الدوائر الانتخابية الـ13 المعتمدة في الانتخابات البرلمانية السابقة بمثابة أساس، وقد يُستكمل أي قرار بشأن ترتيبات الحوكمة المحلية (اللامركزية) بشرط انقضاء الوقت بدوره للسماح بانعكاس الظروف المتغيرة وتكييف موازين القوى المتغيرة في المستقبل.

وختم المعهد تقريره بالقول: إن “من الصعوبات الأخرى التي يواجهها واضعو الدستور ضيق الوقت، وبالنظر إلى مدى تباعد مواقف الأطراف المختلفة، سيكون هناك، مرة أخرى، إغراءات لتجنب القرارات الصعبة مثل تلك المتعلقة بالحكم اللامركزي”.

____________

مواد ذات علاقة