عماد الدين بادي & ولفرام لاشر

على الأغلب، لن تستطيع السلطة التنفيذية الجديدة تجاوز الانقسامات المؤسسية في ليبيا، ولن تفلح في الابتعاد عن الأنماط المختلة المألوفة للمنافسة التي طالما استخدمتها الأطراف المحلية في محاولاتها على الاستحواذ على السلطة داخل قالب الدولة.

انتخب الأعضاء الأربعة والسبعون في ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي تقوده الأمم المتحدة، في 5 شباط/فبراير الجاري، مجلسًا رئاسيًا مؤلَّفًا من ثلاثة أعضاء برئاسة محمد المنفي، وانتخبوا أيضًا عبد الحميد دبيبة رئيسًا للوزراء.

يقع على عاتق هذه السلطة التنفيذية الجديدة تشكيل حكومة وحدة وطنية سوف تُحضّر بدروها ليبيا للانتخابات العامة في كانون الأول/ديسمبر 2021. ولكن العملية التفاوضية التي قادتها الأمم المتحدة لانتخاب الهيئة التنفيذية الجديدة، والتي كان الهدف منها تفكيك نفوذ النخبة المتحصّنة وغير الخاضعة للمساءلة، أدّت بدلًا من ذلك إلى إعادة تأهيل هذه النخبة بعينها، ما أتاح لها فرض سيطرتها على المحادثات وتحديد نتيجة المفاوضات.

سوف يُعيد الاتفاق فرصة لخلط الأوراق، وستغتنم الطبقة السياسية هذا التغيير لتترسخ مجددا، وتناور لتمكِّن أفرادها من التمسّك بالمناصب الرسمية، مما سيحفّزهم لتعطيل عملية إجراء الانتخابات المرتقبة.

لقد تجنّبت المفاوضات الخوض في جميع الخلافات الجوهرية بين الأفرقاء المتنازعين في ليبيا، مثل الخلاف حول الجهة التي يجب أن تتولى قيادة الجيش الموحّد، وسبل تحقيق المساءلة عن الجرائم التي ارتُكِبت خلال حروب الأعوام الماضية.

فبدلًا من بناء إجماع سياسي يكون حجر الأساس لحكومة موحّدة، استندت الآلية التفاوضية على آلية تصويت بالأغلبية في ملتقى حوار سياسي مؤلَّف من أربعة وسبعين عضوًا. والنتيجة هي أن الشخصيات الأربع التي اُنتخبت لقيادة السلطة التنفيذية الجديدة ليس لديها أي رؤية سياسية مشتركة.

فالمصلحة المشتركة الوحيدة بينها تمثّلت في حشد الأصوات الضرورية للفوز في عملية الاقتراع، ما تطلّب البحث عن دعم أطراف محلية مختلفة. سوف يتعرّض كل مسؤول من هؤلاء الأربعة الآن لضغوط من هذه الأطراف المتناحرة كي يردّ لها الجميل من خلال تعيين أشخاص ينتمون لها في الحكومة الجديدة.

عملية المحاصصة بهذا الشكل من شأنها أن تضرّ بقدرة السلطة التنفيذية الجديدة على الالتفاف حول هدف مشترك والعمل من أجله.

ونتيجةً للتصويت بالأغلبية، أنتجت هذه العملية عدة أطراف خاسرة، وهو واقعٌ لا يتناسب مع سلطة تنفيذية تدّعي أنها حكومة وحدة. وقد حصد الفريق الفائز 53 في المئة من الأصوات في ملتقى يعتر في حد ذاته بالكاد يمثّل الأطياف السياسية والعسكرية المختلفة في ليبيا. ونتيجةً لذلك، مكانة السلطة التنفيذية الجديدة ومصداقيتها ضعيفة.

حوالي نصف المشاركين في ملتقى الحوار السياسي الليبي هم أعضاء في واحد من مجلسَي النواب المنقسمَين.

وقد عُرِف عنهم، خلال الأعوام السبعة الماضية، التنصل من إيجاد حلول سياسية من شأنها أن تتسبب في خسارة امتيازاتهم، وباتوا يجسّدون الطبقة السياسية التي تزعم الأمم المتحدة الآن أنها تسعى لتفكيك نفوذها من خلال ملتقى الحوار السياسي.

مَن صوت، سابقا، لهذه الطبقة من السياسيين لم يعد، في أغلب الأحيان، يعتبر بأنهم يمثّلون مصالحه ورغباته. أما المندوبون الآخرون في الملتقى فقد اختارتهم الأمم المتحدة بشكل مستقل، وتمت عملية اختيارهم بناء على تمثيل نفوذ أطراف أو جهات معيّنة، أو سعت إلى استرضاء القوى الخارجية التي تتدخّل في النزاع الليبي.

ولكن على الأرض، بما في ذلك في أوساط المجموعات المسلّحة التي خاضت معارك في الحرب الأهلية الأخيرة، يُنظَر إلى الملتقى على أنه يضم سياسيين انتهازيين وجشعين ذوي شرعية ضئيلة أو تأثير محدود.

الأعضاء الثلاثة الذين تم انتخابهم للمجلس الرئاسي هم تجسيد لهذه الطبقة السياسية، وقد تولّوا العديد من المناصب العامة منذ عام 2011. ولكن انتخابهم في المجلس يجافي التوقعات نظرًا إلى أنهم لا يملكون قاعدة قوية وفعلية خاصة بهم، ولم يؤدّوا أي دور في النزاع الأخير. على النقيض، في الطرف المقابل، رئيس الوزراء عبد الحميد دبيبة شخصية مؤثِّرة.

منذ سنة 2011، كرس عبد الحميد، بالتنسيق مع عمه وشريكه في الأعمال، علي الدبيبة الذي كان أيضا عضوا في ملتقى الحوار السياسي الثروة التي جمعاها بطريقة مشبوهة عندما كانا مسؤولين تنفيذيين في القطاع العام في عهد القذافي لتمويل العديد من الفصائل المسلّحة في مسقط رأسهما مصراتة. ونتيجةً لذلك، يعتبر رئيس الوزراء الجديد شخصية جدلية.

ليس السبب وراء فوز دبيبة والمرشحين الآخرين أنهم استقطبوا دعمًا قويًا من الأعضاء الأربعة والسبعين في ملتقى الحوار السياسي، وإنما يعود السبب إلى أن عددًا كبيرًا من هؤلاء الأعضاء أراد إلحاق الهزيمة بخصومه الذين انضووا في قائمة يقودها وزير الداخلية النافذ في طرابلس، فتحي باشاغا، ورئيس البرلمان المنقسم في شرقي البلاد عقيلة صالح.

وقد كون عقيلة و باشاغا، اللذان انحازا لطرفي النزاع المتعارضين خلال الحرب الأهلية الأخيرة، عداوات كثيرة داخل معسكرَيهما. وقد أثار تحالفهما الانتهازي نفور عدد كبير من الأطراف الأخرى.

وبدلًا من أن تختار الأطراف المتناحرة هؤلاء السياسيين ذوي الثقل العسكري لقيادة حكومة وحدة جديدة، قرّر أغلب المندوبين دعم مجموعة من الأشخاص الذين بدا أنه يسهل تطويعهم. وحصل دبيبة أيضًا على الدعم من سياسيين وتشكيلات مسلحة أشبه بالمافيات في طرابلس والزاوية نظرا لخلافهم مع باشاغا.

افتقار الفريق الفائز في الانتخابات إلى قاعدة قوية وانتماء سياسي واضح قد يتيح له فرصة استقطاب الدعم من مجموعات مختلفة، بما في ذلك بعض الجهات الخاسرة في هذه العملية. ولكن هذا لا يعني أن السلطة التنفيذية الجديدة قادرة على تخطّي الانقسامات الليبية.

كل ما يعنيه ذلك هو أن الفصائل المتخاصمة سوق تنتهز الفرصة لتقاسم مغانم الثروة النفطية الليبية، وتستعملها لتعزيز وزنها السياسي والمجموعات المسلحة التابعة لها، مثلما تعاملت مع الحكومات الليبية السابقة، ومنها حكومة الوفاق الوطني التي شُكِّلت في أواخر عام 2015.

الجانب الأكثر أهمية فيما يتعلق باصطفاف الأطراف المحلية حول السلطة التنفيذية الجديدة هو موقف خليفة حفتر، الذي تسيطر قواته على المناطق الشرقية والوسطى للبلاد.

ينحدّر رئيس المجلس الرئاسي الجديد محمد المنفي من شرقي البلاد، وهو شخصية لم يدعم حفتر علنا ولم يقطع علاقاته معه. أما رئيس الوزراء دبيبة فيوصف بالانتهازية، ومن المحتمل أن يبحث عن آليات تسوية مع حفتر، الذي من جهته قد يحاول أن يستخدم الحكومة الجديدة للحصول على مصادر تمويل جديدة عبر تعيين حلفائه في مناصب حكومية.

وفي ذات الوقت، لا يستطيع حفتر أن يقبل بسلطة هذه الهيئة التنفيذية الجديدة بشكل مطلق؛ فهو يحتاج إلى أعداء في غربي ليبيا للاحتفاظ على هيمنته على الشرق الليبي. قد يُبقي حفتر على موقف متناقض من السلطة التنفيذية الجديدة، بحيث يتحوّل من حين لآخر إلى العداوة العلنية، ويستغلّ مع هذا الفرص التي تتيحها له الهيكلية الجديدة بقدر المستطاع.

بعيدا عن هذه الترتيبات الهشّة، يستحيل عمليًا التوصل إلى اتفاق لتوحيد قيادة التشكيلات المسلحة في ليبيا. فالثقة غائبة، والتصدّعات التي أحدثتها الحرب الأخيرة عميقة. لن تقبل المجموعات المسلحة في غرب ليبيا بدور قيادي لحفتر، في حين أن الأخير متمسّك بمطالبته باستلام قيادة الجيش بمفرده، ويعتبره أمرًا غير قابل للتفاوض.

على نطاق أوسع، وبما أن العملية التفاوضية لم تؤدِّ إلى أي تقارب سياسي فعلي، فمن المرجح استمرار الانقسامات المؤسسية. وعند محاولة تشكيل الحكومة، سوف تصطدم آليات التوحيد بنفس المشاكل التي واجهتها الحكومة السابقة المعروفة بحكومة الوفاق الوطني.

تستند خارطة طريق ملتقى الحوار على قيام مجلس النواب الليبي بمنح الثقة لحكومة الوحدة الجديدة. ولكن البرلمان منقسم ولم يلتئم بالنصاب المطلوب قانونًا منذ سنوات. غالب الظن أن عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب بشقّه الشرقي، سوف يستخدم من جديد، بعد الهزيمة التي ألمّت به، استراتيجيته القائمة على تعطيل المصادقة على حكومة لا يسيطر عليها.

تجنّبًا لذلك، تُعوِّل خارطة الطريق التي وضعتها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا على ملتقى الحوار السياسي كخيار بديل لمنح الحكومة الثقة. ولكن قد يتعذر أيضًا التوصل إلى إجماع داخل الملتقى، لا سيما وأن الحكومة الجديدة لا تستطيع التوفيق بين المطالب الضيّقة للجهات الممثَّلة في الملتقى من جهة وبين الأفرقاء الآخرين الذين تسعى إلى استمالتهم من جهة أخرى.

وبالنسبة لصالح وحفتر، من المفيد الإبقاء على الحكومة في شرقي البلاد من أجل الحد من تأثير السلطة التنفيذية الجديدة، والاحتفاظ بمصادر تمويل مستقله.

ولكن حتى في طرابلس، من شأن العوائق التي ستواجهها الحكومة الجديدة أن تُصعب على وزراء دبيبة تسلّم حقائبهم الوزارية، وقد يجد رئيس الوزراء الجديد صعوبة في التعامل مع الوزراء الحاليين – وأبرزهم وزير الداخلية باشاغا.

هذا التفكك المؤسساتي سوف يجعل ليبيا هشّة وعرضة للتأثر بسياسيات الأطراف الخارجية. كانت الفرصة سانحة أمام روسيا وتركيا والإمارات العربية المتحدة لتخريب المحادثات لو أنها شعرت بأن نفوذها مهدَّده بقيام حكومة وحدة حقيقية تُعطي الأولوية للسيادة الليبية ومبادئ عدم التدخل.

بدلًا من ذلك، سوف تستمر الفصائل المتناحرة داخل الحكومة الجديدة وخارجها في السعي إلى الحصول على الدعم من تلك القوى. وحتى الآن، يصعب التنبؤ بردُّ الفعل المصري، نظرًا إلى أن مصر قدّمت دعمًا قويًا لصالح، وقد تجد أن مصالحها غير ممثَّلة على نحوٍ كافٍ في الحكومة الجديدة.

ولكن بصورة عامة، سوف تسعى الأطراف الخارجية إلى الإبقاء على الانقسامات الليبية فيما تحصد المكاسب الاقتصادية التي يمكن أن تتأتى من الترتيبات المرتجلة لاستئناف الإنفاق العام.

في حين أن قاعدة النفوذ الضعيفة للحكومة الجديدة ستجعلها، على الأرجح، غير قادرة على التمسك بالسلطة لفترة طويلة، وستسعى الفصائل التي ستضمها الحكومة إلى تأجيل الانتخابات لأطول فترة ممكنة.

هذا فضلًا عن أن الخطة الرامية إلى إجراء الانتخابات بحلول كانون الأول/ديسمبر 2021 سوف تصطدم أيضًا بعوائق كالخلاف حول الأساس الدستوري لإجراء انتخابات.

وفيما لا يزال الالتباس يحيط بمصير الانتخابات، قد تعمد الأطراف في الشرق الليبي التي تعتبر تمثيلها في الحكومة الجديدة ليس كافيًا إلى تأجيج المشاعر الانفصالية المتنامية في شرق البلاد.

وفي طرابلس، سوف تؤدّي المنافسة بين الأطراف والتشكيلات داخل مؤسسات الدولة، بما في ذلك القطاع العام، إلى احتدام التشنجات، مكررة بذلك نمطًا بات مألوفًا في غربي ليبيا منذ عام 2011. المعطيات الحالية لا تشير إلى أن حكومة الوحدةالجديدة في ليبيا سوف تتمكن من تجنّب هذين السيناريوين في الوقت ذاته.

***

ولفرام لاشر باحث مشارك أول في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية  في العاصمة الألمانية برلين.

عماد الدين بادي زميل بحثي أول غير مقيم في برنامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي وباحث أول في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظّمة العابرة للحدود“.

_____________

مواد ذات علاقة