نورة الحفيان و محمود جمال

شهد الربع الأخير من العام 2020 والربع الأول من العام 2021 العديد من التحولات في الموقف المصري في الساحة الليبية؛ تحولات تقف خلفها العديد من الدوافع الداخلية الليبية العسكرية والسياسية. من جهة، والتحولات في المشهدين الإقليمي والدولي، من جهة ثانية.

الجزء الثالث

4ـ تطورات المشهد الدولي:

فرضت العديد من المتغيرات الدولية وضعا جديدا في المشهد الليبي بصفة عامة وعلى مواقف القوى الدولية والإقليمية ومن ضمنها مصر، كان أبرزها رحيل دونالد ترامب عن البيت الأبيض، هذا الأخير الذي كان يعتبر عبد الفتاح السيسي ديكتاتوره المفضل، كما كان داعما للتحالف الثلاثي (بن زايدالسيسيبن سلمان) ورؤيتهم بالسيطرة على ليبيا عن طريق الحسم العسكري عبر مشروع حفتر.

لكن تغيرت المعادلة مع مجيء جو بايدن، الذي أبدى توجها للضغط عن طريق ملف حقوق الإنسان والديمقراطية، ولطالما أكد في خطاباته أثناء حملته الانتخابية على ضرورة إنهاء بعض النزاعات الإقليمية ومن ضمنها ليبيا التي تسعى إدارته من خلالها إلى الحد من زيادة النفوذ الروسي فيها.

ولكل ذلك فقد أثر صعود بايدن بشكل سريع على داعمي حفتر، وبالأخص عبد الفتاح السيسي الذي استبق أي موقف أمريكي بتغيير نهجه ودوره في ليبيا عبر الانفتاح على العملية السياسية من خلال فتح قنوات الاتصال مع جميع الأطراف الليبية، والإعلان عن دعم السلطة المدنية الجديدة؛ حيث يريد السيسي من وراء هذه الخطوات تقديم نفسه للإدارة الأمريكية على أنه شريك مهم في عملية الحوار الليبي برعاية الأمم المتحدة وصاحب الدور الأهم على الساحة الليبية.

ثالثاً: سيناريوهات الدور المصري في ليبيا:

في إطار التحولات والاعتبارات السابقة، يمكن القول إن المسارات المستقبلية لدور النظام المصري في الملف الليبي، تتمثل في:

1- سيناريو تخلي نظام السيسي عن حفتر:

على الرغم من أن هذا السيناريو يصعب تحقيقه بشكل حاد وكامل، إلا أنه يبقى قائماً نظرا لاعتبارات إقليمية ودولية وتغير التوازنات في المشهد الليبي، ويبقى رهينا بمجموعة من الشروط والمحددات منها:

أ. تحقيق تسوية وتوافق سياسي عن طريق مصالحة وطنية شاملة بين مختلف الفرقاء الليبيين في الغرب والشرق بشرط ألا يكون حفتر جزء من هذه المصالحة، وذلك في ظل وجود توافق داخلي وإقليمي ودولي على عدم بقاءه ضمن المشهد الليبي، بحيث سيضطر السيسي مع هذا الوضع التخلي عن حفتر بما أنه أصبح في عزلة داخلية وخارجية، و التموضع على الحياد وأنه على توافق مع خيارات القوى الدولية من أجل إنهاء الصراع الدائر منذ سنوات في المستنقع الليبي، خصوصا الولايات المتحدة في ظل إدارة بايدن التي أعلنت عن سعيها إلى إنهاء العديد من الصراعات في المنطقة ومن ضمنها النزاع الليبي والحرب في اليمن.

كما سيقدم نفسه على أنه كان له دور كبير في حل هذه الأزمةإذا انتهت دواليبها بشكل دائمخصوصا في ظل احتضان مصر للعديد من الحوارات التي كان تهم سواء الشق السياسي المتعلق بالاستفتاء الدستوري والانتخابات أو الشق العسكري المتعلق باجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 لتثبيت وقف إطلاق النار، وعلى هذا الأساس، ففي ظل توافق المجتمع الدولي على ضرورة الحسم في الملف الليبي عن طريق الحل السياسي وليس عبر الحل العسكري، سوف يجد نظام السيسي نفسه أمام خيار الانصياع لقرارات وتوجهات المجتمع الدولي.

ب. اشتداد الخلاف الإماراتيالمصري في ظل تضارب المصالح بين الطرفين على ترتيب الأوضاع في المشهد الليبي، وكذا الخلافات البينية في العديد من القضايا الإقليمية الأخرى، هذا الأمر الذي يؤثر على مصالح مصر الإقليمية، إذا ما أدى إلى استمرار تحجيم مكانة مصر الإقليمية ودورها في العديد من الملفات، وذلك ما يظهر من خلال الدور الإماراتي فيما يخص سد النهضة وتطبيع الأخيرة مع كيان الاحتلال في ظل تجاهل القاهرة في هذا الملف، واختيار حفتر التحالف مع أبوظبي على حساب القاهرة، وذلك على ضوء  تزايد الدعم اللوجستي العسكري والتمويلي الذي تقدمه الإمارات لحفتر بشكل مستمر.

ويعتبر نظام السيسي نفسه أنه هو الخاسر من هذه المعادلة في ظل تزايد مخاطر وتهديدات المستنقع الليبي نتيجة المجاورة الجغرافية في مقابل أن الأمر لا يضر بأمن الإمارات، البعيدة جغرافيا عن ليبيا، بشكل مباشر.

جالتغيرات الحاصلة في العلاقات التركيةالمصرية عن طريق تهدئة التوتر الحاصل منذ 3 يوليو 2013، وذلك عبر فتح قنوات الحوار والتنسيق المشترك بين الجانبين في عدة ملفات وعلى رأسها الملف الليبي، الذي من الممكن معها تغيير منطق التحالفات، الذي تفرضه مجموعة من التغيرات الإقليمية والدولية.

وذلك في ظل حرص الطرفين على عدم الدخول في صراع عسكري مباشر من الممكن أن تكون له انعكاسات خطيرة خصوصا على الجانب المصري المرتبط جغرافيا وأمنيا بليبيا، حيث أن أي تطور ميداني عسكري يمكن أن يُدخل السيسي في أتون حرب هو في غنى عنها في ظل دخول نظامه في أزمات عديدة أشد خطورة كأزمة سد النهضة وغاز شرق المتوسط.

دتأثير العامل الأمريكي في المشهد الليبي عبر تغيير مساره في ظل إدارة بايدن، ومنطق معادلاته والرهانات القائمة عليه من طرف قوى إقليمية، وبحكم القاهرة امتداد جغرافي لليبيا فإن تفاعلها في الملف الليبي يتأثر بالتغييرات المتلاحقة التي شهدتها الساحة الدولية مع مجيء الإدارة الأمريكية الجديدة، التي تعتبر الملف الليبي من الملفات الشديدة الأهمية والتي تحظى باهتمامها وذلك بفعل الامتداد الروسي فيها والتي تعتبره واشنطن امتداد لمخططات المشروع التوسعي للروس في المنطقة ينطلق من ليبيا،

وللحد من هذا التمدد ستسعى واشنطن في التحكم أدوار القوى الإقليمية التي لها تأثير في المشهد الليبي ومن ضمنها مصر المتاخمة جغرافيا لليبيا، بحيث ستسعى إدارة بايدن على تحويل مسار توجهاتها في ليبيا قد يصل بنظام السيسي إلى حد التخلي عن ورقة حفتر تفاديا منه لتكرار سيناريو إدارة أوباما بناء على ما تم في 3 يوليو 2013 وإدارة ترامب في 2018 على إثر التقارب المصري مع كوريا الشمالية وذلك من خلال الضغط عليه بملفات حقوق الإنسان وإيقاف أو تقليص المعونة العسكرية الأمريكية”

هـ. تلقي حفتر المزيد من الخسائر والانتكاسات الميدانية مما يعني معه فشل مشروعه في ليبيا وهذا ما يزيد الضغوط على نظام السيسي في حال استمرار تقديم الدعم لخليفة حفتر، خصوصا أن معركة طرابلس أظهرت مدى ضعف قدرات حفتر العسكرية وبالأخص في ظل الخسارة الميدانية الخاطفة التي تعرض لها عبر العملية العسكرية لقوات الوفاق بمساعدة الحليف التركي، وذلك على الرغم من الدعم الكبير الذي تلقاه من قوى دولية وإقليمية.

وهذا ما يعد خسارة كبيرة لنظام السيسي في ظل رفض القاهرة لحرب حفتر على الغرب والتي قادها في أبريل 2019 متجاهلا تحذيرات  القاهرة للسير في هذه الخطوة لما لها من تداعيات خطيرة على الوضع الأمني وعلى حسابات السيسي السياسية والعسكرية، ما وضع الأخير  في موقف صعب وفرض عليه أمر واقع لم يكن ضمن حسابات ومخططات الدور المصري (نظام السيسي) في المشهد الليبي.

وبناء على ذلك سيتصاعد احتمال تخلي مصر عن مساندة حفتر في ظل تمسكه بالخيار العسكري، خصوصا أن هذا الخيار أصبح يشكل تهديداً حقيقياً على أمن مصر الحدودي.

2- سيناريو استمرار دعم السيسي لحفتر:

يبقى هذا السيناريو، من وجهة نظرنا، هو الأكثر ترجيحا، لكن تختلف درجة هذا الدعم وكذلك وسائله بين طريقة مباشرة أو غير مباشرة وتبقى الطريقة الأخيرة هي الأقرب إلى أرض الواقع:

أـ الدعم المباشر

يقوم هذا السيناريو في حال فشل التسوية السياسية نتيجة تمسك حفتر بالخيار العسكري مع توسيع نطاق العمليات الميدانية واستمرار الدور الروسي من خلال ميليشيات فاغنر، وتحويل ليبيا إلى أتون حرب طاحنة، بجانب تواصل الدعم الإقليمي من طرف الإمارات، والدولي من طرف روسيا و فرنسا، وذلك باعتباره السبيل الوحيد لبقائه ضمن المشهد الليبي في ظل استبعاده من معادلة التسوية وتضاؤل حظوظ دخوله في المشهد السياسي لما بعد انتخابات ديسمبر 2021؛

ففي ظل هذا الوضع ستقوم رؤية السيسي على تقديم الدعم المباشر لخليفة حفتر والتدخل عسكريا في ليبيا على أساس ذريعة حماية الأمن القومي المصري من الأخطار المحدقة به، لكن في الحقيقة هو يسعى لحماية نظامه من أي اهتزاز ممكن أن يلحق به إذا فشل مشروع حفتر الذي كان يراهن عليه لحسم النزاع في ليبيا لصالحه.

يتصاعد احتمال هذا السيناريو  في حال استمرار تحالف محمد بن زايد مع السيسي و تجاوزه للمشاكل القائمة بينهما، فعلى الرغم من النقط الخلافية بين الطرفين إلا أن هذا الأمر من الممكن ألا يؤثر على طبيعة هذا التحالف خصوصا في ليبيا بحيث أن المصالح التي تحكم العلاقة بين النظامين تجعله بمنأى عن التأثيرات التي تثيرها بعض الخلافات حول بعض الأمور التنسيقية، خصوصا أن بن زايد يفضل الخيار العسكري الذي يراه هو الفيصل لنجاح مشروعه الذي هو محل التطبيق من طرف حفتر في ليبيا.

ويرى السيسي أن بقاءه في حلف بن زايد هو تأمين لنظامه من أي تصدعات ممكن أن تلحق به، خصوصا أن بن زايد كان في طليعة الأنظمة الداعمة بقوة لنظام السيسي باعتباره هو أيضا مشروع الإمارات في قيادتها لمشروع الثورات المضادة وباعتبارها الداعم الأكبر لانقلاب 2013.

ب. الدعم غير المباشر

وهو الطريق الأكثر احتمالا أن ينتهجه النظام المصري داخل نفس الإطار الاستراتيجي للتعامل مع الملف الليبي، بحيث أن نظام السيسي لن يرفع يده تماما عن دعم مشروع خليفة حفتر، لكن ضمن مخطط بعيد المدى، من خلال اتباع تكتيك مغاير تحت بند مراقبة الوضع تكتيك خداعيانطلاقا مما سوف تفرزه التغيرات السياسية والميدانية والتقلبات الإقليمية والدولية؛

لذلك يمكن أن يسعى السيسي عبر هذه الاستراتيجية إلى ترميم علاقاته مع الغرب الليبي بالأخص في ظل الحكومة المؤقتة الجديدة، وأيضا احتضانه لأبرز ملتقيات منتدى الحوار الليبيالليبي وذلك ليكون نظامه ضمن الحلقة السياسية والعسكرية ضمانا لاستمراريته كفاعل قوي في المشهد الليبي، وبالتالي فتح المجال لحفتر ليكون ضمن المشهد السياسي لما بعد الانتخابات العامة في ديسمبر 2021، ضامنا مركزا له ضمن أركان أقوى مؤسسات الدولة وهي المؤسسة العسكرية ليُحكم قبضته كأقوى فاعل في المشهد الليبي، وبالتالي تنفيذ مخططات مشروع حفتر بدعم إماراتيمصري يزكيه الدعم الدولي من طرف أحد أقوى الفاعلين الدوليين ألا وهي روسيا، للوصول في الأخير إلى الهدف الذي رسمته وخططت له هذه القوى وهي وصول حفتر إلى سدة الحكم. فنظام السيسي ما زال يرى في نجاح مشروع حفتر امتدادا لمشروعه الذي رسمه وخطط له بمساعدة الإمارات ليصل به إلى الحكم في العام 2013 بعد أن قاد انقلابا على أول رئيس مدني منتخب لمصر.

ختاماً

من خلال متابعة تطورات الموقف المصري من المشهد الليبي يمكن الخروج بالعديد من الاستنتاجات:

1ـ تغيير النظام المصري استراتيجيته في التعامل مع الملف الليبي من خلال الانفتاح على كافة القوى والأطراف الفاعلة في المشهد الليبي بعد فشل الحسم العسكري لصالح خليفة حفتر وذلك عن طريق ازدواجية العسكريبالسياسي بهدف عدم فقدان القاهرة لخيوط التأثير في الملف الليبي.

2ـ بالرغم من التغييرات المرحلية الحاصلة في الموقف المصري من ليبيا، إلا أن القاهرة بمعية أبو ظبي على الرغم من الخلافات العالقة بين الحليفين فيما يخص المهام والأدوار، يسعيان إلى بقاء حفتر كجزء من المشهد الليبي وعدم استبعاده بشكل كلي من التسوية السياسية التي تعمل عليها كافة الأطراف الإقليمية والدولية، لأن أي خروج لحفتر من المشهد سيعيد الملف الليبي إلى نقطة الصفر والعودة إلى منطق استمرارية الصراع عن طريق القوة والسلاح.

لذلك فإنه من غير المرجح تخلي القاهرة نهائيا عن ورقة حفتر في ظل عدم وجود رؤية واضحة في المشهد السياسي النهائي حتى الآن.

3ـ تطورات المشهد الليبي على المستوى الميداني والسياسي والتحولات الإقليمية والدولية كانت من أبرز العوامل المؤثرة في تغيير نهج وسلوك القاهرة اتجاه الملف الليبي، وذلك من أجل ضمان مكانة مؤثرة لها في المشهد الليبي في حال نجاح سيناريو خيار التسوية السياسية.

4ـ التنسيق الاستخباراتيالأمني بين تركيا ومصر في الملف الليبي، ربما وصل إلى درجة كبيرة من التقارب أو التفاهم بين البلدين على المستوى السياسي في ذلك الملف، وهو ما سيدعم تفاهما أكبر بين البلدين في غيره من الملفات.

___________

مواد ذات علاقة