ميهاري تاديل مارو

تناقش هذه الورقة سؤالين حرجين ومترابطين على خلفية تجربتي إثيوبيا وراوندا. السؤال الأول، ما هي عناصر الدولة التنموية في ليبيا وما هي شؤونها السياسية والإقتصادية والثقافية؟ والسؤال الثاني، في ضوء الاختلافات بين مواقف القوى داخل وخارج ليبيا، هل تعتبر إقامة دولة تنموية هناك أمراً ممكناً؟

الجزء الثاني

القسم الأول: عناصر نموذج الدولة التنموية الرئيسية

مبادئ الدولة التنموية

تشكّل الدولة التنموية، على النقيض من الدولة الليبرالية وكبديل عنها، دولة تشارك الحكومة بصورة وثيقة في التخطيط الاقتصادي الكلي والجزئي لتنمية الإقتصاد، مع محاولة توزيع مواردها لتطوير حياة أفضل للشعب“.

وفقاً لمرجع أوكسفورد، فإن الدولة التنموية شكل من أشكال تدخل الحكومة المباشر والمتضافر والمستدام في التنمية الإقتصادية الوطنية عبر وضع السياسات الصناعية كالنمو المعتمد على التصدير والتحكم باليد العاملة“.

وفي محاولة منه لفهم تنميتها الإقتصادية الإستثنائية أوائل ثمانينيات القرن الماضي، أطلق تشالمرز جونسون (1982) على اليابان مصطلح دولة تنموية“. وغالبا ما ينطبق المصطلح على بلدان شرق آسيا، كاليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، حيث كان التكنوقراطيون والمخططون مسؤولين عن تشكيل الإقتصادات استراتيجياً بدل مجرد تنظيمها بصورة غير مباشرة.

في هذا الصدد، إن الإطروحة الأساسية للذهنية التنموية هي أن تعزيز التنمية الإقتصادية وتوطيد المواطنة جانبان مترابطان في عملية تحرير واحدة“.

إذ جمعت الدول التنموية تدخل الدولة مع القطاع الخاص النشط، متخذة بذلك مقاربة النموذج الياباني“.

ويستند الإقتصاد السياسي للدولة التنموية إلى مفاهيم الدولة التنموية والرأسمالية التنموية“. بعبارة أخرى، يحصل في الدولة التنموية مزيج بين نظرية التنمية البنيوية والإقتصاد الكلي الكينزي مع التنمية الإقتصادية المدفوعة بالإنفاق العام.

وينصبّ التركيز على التحّول عبر توسيع البرامج بصورة كبيرة في مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية والحكم الإجتماعي. وباعتباره نموذجاً منطبقا للحكم السياسي والإقتصادي، ومع ترسيخ احتكار العنف، فالشغل الشاغل للدولة التنموية هي النمو الإقتصادي المصحوب بسياسة قوية تدعم الفقراء.

في الدولة التنموية، تتحكم التنمية الإقتصادية للبلاد بالوظيفة العامة للدولة وتخصيص مواردها.

وبالتالي، تحتكر الدولة التنموية استخدام العنف ووسائله وسلطات وضع المعايير والسلطات التنظيمية والتنفيذية والمجال الإقتصادي. وتنبع شرعيتها من أدائها في تحقيق معايير الجودة والكمية في تقديم المنافع العامة.

وتخصص الموارد للإلنفاق العام دون مواجهة الضوابط التي عادة ما تواجهها دولة ليبرالية بقيادة السوق في تخصيص مواردها. وتسمح القيود المفروضة على الدولة على هذا النحو باستقلالية عملية صنع القرار (على المستويين المحلي والخارجي) وتُسرّع التنمية الإقتصادية العادلة وعملية بناء الدولة.

وبالتالي، يمكن للدولة أن تمتلك الموارد الوطنية الرئيسية كالنفط والغاز وتتولى آليات استخدامها بغية تحقيق الحكم الفعّال، والخدمات الإجتماعية العامة المناصرة للفقراء، وتطوير الصناعة، وإعادة الإعمار والتنمية في مرحلة ما بعد الحرب.

وفي حالات التحول الناجحة، تتطلب الدولة التنموية رؤية بعيدة المدى واعترافاً بدور الدولة الذي لا بديل له لتحقيق التحول الإجتماعي السياسي والإقتصادي.

الخدمات والإستقرار أولاً، ثم تتبعهما الديمقراطية

بعبارة موجزة، تعتمد الدولة التنموية بصورة كبيرة على تقديم الخدمات السريع والفعال لتعزيز رفاهية المواطنين. وإن فشلت الدولة التنموية بتحقيق هذا الهدف تفقد شرعيتها. وبصورة عامة لكن غير شاملة، تترافق الديمقراطية في إفريقيا بالتشكك والتقلقل والعجز، في حين لابد من وجود الدولة التنموية لتحقيق الإستقرار وتقديم الخدمات. إذ تحل الديمقراطية مرتبة ثانوية في الأهمية. وفي حين تفتقر الدولة التنموية إلى الشرعية الشعبية، إلا أنها تعتمد على قدرتها على تقديم الخدمات لإستعادة سمعتها السياسية الحسنة.

مع ذلك، يمكن لتقديم الخدمات الإجتماعية أن يساعد على تحقيق الإستقرار الإجتماعي وقد يعزز ميل الشعب إلى الديمقراطية. لكن الأداء الإقتصادي المذهل لا يمكن أن يحل محل الديمقراطية الدستورية. وتُعد فعالية تقديم الخدمات والحفاظ على الإستقرار مصدراً لشرعية السلطة، لكن الديمقراطية وحدها هي التي تضمن استدامة الشرعية. إذ ترتبط التنمية والحرية ارتباطا فحين يتفشى الفقر، تبقى الحرية في خطر، ودون الحرية يستحيل القضاء على الفقر. وحين يتم تقديم الخدمات وتحقيق الإستقرار على حساب الديمقراطية، قد تنهار الحكومة في البلاد.

عملية الانتقال إلى اقتصاد وتنمية ما بعد الصراع

يعد الانتقال إلى مجتمع مابعد الصراع أمراً في غاية الأهمية بحيث لا يمكن تركه للسوق الحرة وحدها. فللأزمة الاقتصادية تداعيات محتملة على السلام والأمن في المجتمع.

إذ لا توفّر الدولة التنموية الآليات التشريعية والتنظيمية والتنفيذية التي يعمل السوق من خلالها وحسب، بل تحدد ملامح الدولة النهائية ومسار الإقتصاد السياسي أيضا. ويعمل القطاع الخاص داخل الحدود التي وضعتها الدولة، في حين تدير الدولة الإقتصاد وتمّول القطاع الخاص.

نتيجة لذلك، تتعدى الدولة التنموية على حيّز القطاع الخاص في العديد من مجالات المصلحة العامة بغاية حل الأزمات المالية والإقتصادية الحالية والمستقبلية.

فمن الناحيتين النظرية والعملية، يسيطر القطاع الخاص على الحيّز الإقتصادي. وأثناء قيامه بذلك، يقود جميع المصالح، بما فيها الجهات الفاعلة العامة والخاصة المشاركة في الأنشطة الإقتصادية.

بناء على ذلك، وبالإلضافة إلى سيطرتها على الإقتصاد، تحتكر الدولة استخدام العنف ووسائله، وسلطات وضع المعايير، والسلطات التنظيمية والتنفيذية. وبهذه الطريقة، تعكس المفهوم الرأسمالي التقليدي لأدوار القطاعين العام والخاص.

ففي اقتصاد السوق، تتدخل الدولة لتصحيح تعديلات السوق وإخفاقاته. وعلى النقيض من ذلك، تعمل الحكومة، في الإقتصاد التنموي، كوكالة استثمار رئيسية ويتدخل القطاع الخاص لإتمام الإستثمار العام والعمل الإقتصادي.

باختصار، يملأ القطاع الخاص ثغراتالإقتصاد التي خلفتها وفي حين تسيطر الدولة على الإقتصاد، يلعب القطاع الخاص دوراً داعماً.

وفي العملية الإنتقالية، تتيح الدولة التنموية فرصة أفضل لتحقيق بناء الدولة الإنتقالية بنجاح، واستقلالية السياسة الوطنية واللحاق بالركب الإقتصادي بعد حرب مدمرة.

يتبع في الجزء الثالث

***

ميهاري تاديل مارو ـ أستاذ (دوام جزئي) في مركز سياسات الهجرة، ومنسق أكاديمي لبرنامج القادة الشباب من أفريقيا في كلية الحوكمة عبر الوطنية، المعهد الجامعة األوروبية؛ يشكر المؤلف الزملاء في برنامج مسارات الشرق الأوسط على تعليقاتهم ومساعدتهم في هذا البحث.

__________

المصدر: منصة الحوار الليبيتابعة لبرنامج مسارات الشرق األوسط في معهد الجامعة الأوروبية. يرمي المشروع إلى إقامة منتدى للحوار والتبادل بين القوى السياسية الرئيسية في ليبيا، والباحثين الليبيين والدوليين، والجهات الفاعلة الأساسية في المجتمع الدولي، بشأن سياسات أساسية لمستقبل ليبيا.

مواد ذات علاقة