ساسة بوست

في 13 مايو (أيار) 2021، وفيما ذكرت أنه رد على الاعتداءات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني ومقدساته، أعلنت «كتائب الشهيد عز الدين القسام» الذراع العسكرية لحركة المقاومة «حماس» قصف مطار رامون في جنوب إسرائيل، والذي يبعد نحو 220 كيلومترًا عن غزة، بصاروخ أسمته «عياش 250»، في إشارة هنا إلى يحيى عياش، أحد قادة ومؤسسي «القسام» الأوائل،

فمَن هذا الرجل؟ وماذا فعل لكي تطلق حماس اسمه على أحدث صواريخها وأطولها مدى على الإطلاق؟

هدوء الطفولة يسبق عاصفة الشباب

في قرية رافات القريبة من مدينة رام الله، في الضفة الغربية لنهر الأردن، رُزق الشيخ عبد اللطيف ساطي عياش في السادس من مارس (آذار) عام 1966 بطفل، وكان الشيخ عبد اللطيف أحد المناضلين الفلسطينيين القدامى، وقد خدم في الجيش الأردني منذ عام 1955؛ إذ كانت الضفة الغربية في ذلك الوقت تحت سيادة المملكة الأردنية الهاشمية، لكنه ترك الجيش في عام 1963، ليعود إلى العمل بالزراعة والنقش في أرض الآباء والأجداد.

لم يكن الشيخ عبد اللطيف يعلم أن ولده البكر، الذي أسماه يحيى – تيمنًا بنبي الله يحيى بن زكريا عليه السلام، الذي أُمر في النص القرآني بأن «يأخذ الكتاب بقوة» وذكره النص بأنه «أوتى الحكم صبيًّا» – قد يكون له من اسمه نصيب، فالطفل الهادئ الخجول صغير الحجم، قليل الشكوى والبكاء مقارنةً بأقرانه، سيتحول بعد ذلك إلى عاصفة ستغير وجه الأرض، وسيُحيل قرية رافات الهادئة المغمورة، بعد عقود قليلة إلى محط أنظار الدوائر الأمنية والسياسية والإعلامية في إسرائيل، ولسنوات طويلة.

كان يحيى عياش متفوقًا في الدراسة، وبخاصةٍ في الرياضيات وعلوم الفيزياء والكيمياء، وهو ما أهَّله للحصول على فرصة لدراسة الهندسة الكهربية في جامعة «بيرزيت» عام 1984، وستكون سنوات الدراسة الأولى مفصلية في حياة يحيى عياش؛ فهناك سينضم إلى الكتلة الإسلامية، الذراع الطلابية لـ«حركة المقاومة الإسلامية (حماس، وسيصير أحد وجوهها البارزين، كما سيكتسب المعرفة التقنية التي ستساعده بعد ذلك في تدشين مشروعه «المقاوم» الذي سيغير شكل النضال الفلسطيني ضد الاحتلال.

خلال تلك السنوات أيضًا، لم تقتصد إسرائيل في مراكمة أسباب الغضب في نفس يحيى عياش، فعلى المستوى الشخصي، سيأمر الحاكم العسكري الإسرائيلي بتعطيل الدراسة في جامعة «بيرزيت» أكثر من مرة، غير آبه بمستقبل آلاف الطلاب الفلسطينيين، من بينهم عياش، الذي لم يتخرج في الجامعة إلا بعد أكثر من ثماني سنوات (ولم يحضر حتى حفلة تخرجه عام 1993؛ بسبب أنه صار مطلوبًا لدى الإسرائيليين حينئذٍ)، لكن المأساة الأهم بالنسبة للـ«مهندس» عياش، هو ما كان يجرى خارج أسوار الجامعة؛ إذ شهدت تلك السنوات اندلاع ما عرف بـ«الانتفاضة الفلسطينية الأولى».

في ديسمبر (كانون الأول) 1987، دهس مستوطن إسرائيلي أربعة عمال فلسطينيين من بلدة جباليا، شمالي قطاع غزة، وتحولت جنازة العمال في اليوم التالي إلى مظاهرة احتجاجية واجهها الجنود الإسرائيليون بالرصاص؛ ما تسبب في سقوط المزيد من الضحايا.

كانت تلك شرارة أشعلت فتيل الاحتجاجات في كافة المدن والقرى الفلسطينية، واستمرت حالة الغضب الفلسطيني عدة سنوات، وأخذت حيزًا كبيرًا من الاهتمام العربي والدولي وخُلدت تلك الأحداث في التاريخ باسم «انتفاضة الحجارة».

سُمِّيت بذلك لأنه لم يكن من سلاح لدى الشباب الفلسطيني الثائر حينئذٍ سوى الحجارة والمقلاع، والسكين أحيانًا، افتقر الفلسطينيون حينها إلى الرصاص والبارود الذي استخدمه الجنود الإسرائيليون بكثافة فقتلوا أكثر من 1300 فلسطيني، وأصابوا 90 ألفًا، عندها تتلألأ في ذهن «المهندس» الشاب الغاضب، المغرم بالهندسة والعلوم، فكرة جريئة، لم تلبث أن تملكت عقله، ليعكف من فوره على تنفيذها بدأبٍ وإصرار.

«باصات إسرائيل» تحت رحمة يحيى عياش

في عام 1992، وبالصدفة البحتة، اعترض رجال الشرطة الإسرائيليون سيارة تقل ثلاثة فلسطينيين في تل أبيب، ليكتشف الإسرائيليون عند تفتيشها مفاجأة مدوية، فقد كانت السيارة معبأة بكمية كبيرة من المتفجرات التي صنعت من مواد أولية بسيطة، الجازولين وبيروكسيد الأسيتون، وقد قدّر خبراء المتفجرات أنها قادرة على إحداث انفجار ضخم يمكن أن يتسبب في خسائر مؤلمة.

جُنَّ جنون الإسرائيليين؛ إذ كانت تلك طريقة جديدة لم يألفها الفلسطينيون، وبعد التعذيب، أقر الشبان الثلاثة الذين اعتُقلوا بأنهم كانوا على وشك تنفيذ عملية «فدائية» داخل العاصمة الإسرائيلية، وبرز اسم يحيى عياش لأول مرة بوصفه أحد المخططين؛ إذ صار منذ ذلك الحين على قائمة المطلوبين للاحتلال الإسرائيلي، وبدأت رحلة المطاردة.

لكن المطاردة هذه المرة كانت مختلفة عما تعود عليه الإسرائيليون، فقد كانت مطاردة متبادلة وندية تمامًا؛ إذ كان يحيى عياش يطارد الإسرائيليين ويقضُّ مضاجعهم ويفاجئهم من حيث لم يحتسبوا.

اختمرت المعادلات في ذهن يحيى عياش، وتطورت قدراته على تصنيع المواد المتفجرة بأبسط الأدوات المتوفرة من حوله؛ لا تعقيدات كبرى، ولا حاجة إلى صفقات سلاح مستحيلة في ذلك الوقت، فقط بضع مواد كيميائية بسيطة متوفرة في الصيدليات أو المستحضرات الطبية، وسيكون عقل المهندس قادرًا على تحويلها إلى متفجرات فتاكة في دقائق قليلة.

في فبراير (شباط) 1994، اقتحم مستوطن إسرائيلي يدعى باروخ جولدشتاين باحة الحرم الإبراهيمي (ثاني أهم المقدسات الإسلامية في فلسطين بعد المسجد الأقصى) في مدينة الخليل، فاتحًا نيران مدفعه الرشاش على المصلين فقتل منهم 29 وجرح العشرات.

كانت مذبحة كبرى هزت مشاعر المسلمين، لا سيما أنها وقعت في شهر رمضان وخلال صلاة الفجر، وفي حين اكتفى أكثر المسؤولين العرب والدوليين بعبارات الشجب والإدانة، كان يحيى عياش يخطط لردٍّ أكثر قوة.

بعد المذبحة بأسابيع قليلة، وفي السادس من أبريل (نيسان) اقتحم رائد زكارنة أحد أعضاء كتائب «القسام» بسيارته المعبأة بالمتفجرات التي تحمل بصمات يحيى عياش في محطة حافلات مدينة العفولة الإسرائيلية.

أوقف سيارته أمام حافلة مزدحمة وضغط زر التفجير، فأسفرت العملية عن مقتل تسعة إسرائيليين، ولم تكن تلك سوى الحلقة الأولى من مسلسل الانتقام الفلسطيني الذي حمل توقيع يحيى عياش، ردًّا على مذبحة الخليل.

لم يكد يمر أسبوع حتى كان عمار عمارنة يتسلل إلى مدينة الخضيرة الإسرائيلية، ليفجر نفسه بين مجموعة من المستوطنين موقعًا ستة قتلى، وبعد ذلك بأشهرٍ قليلة، في أكتوبر (تشرين الأول) أرسلت «كتائب القسام» أحد أعضائها، صالح نزال، بعدما جهَّزه يحيى عياش بنفسه، إلى شارع ديزنغوف في تل أبيب، حيث فجر نفسه في حافلة مزدحمة فقتل 22 إسرائيليًّا وجرح العشرات، في كل تلك العمليات وغيرها، توجهت أصابع الاتهام الإسرائيلية إلى يحيى عياش الذي سطع نجمه بين الفلسطينيين والإسرائيليين على حدٍّ سواء.

صار يحيى عياش المطلوب الأول لدى الإسرائيليين، حتى إن بعض بيانات «كتائب القسام» التي تتبنى فيها عمليات التفجير صارت تحمل توقيع «أبناء المهندس يحيى عياش»، ليشكل الفتى العشريني صداعًا في رأس الحكومة الإسرائيلية وجيشها.

وضع إسحاق رابين صورةً له في مكتبه، وصار يسأل قادة استخباراته وأجهزته الأمنية يوميًّا: «هل قُتل هذا الرجل أم لا؟».

لكن المحاولات المضنية للأمن و«الشاباك» الإسرائيلي للإيقاع بيحيى عياش قد باءت بالفشل، كان المهندس حريصًا على السرية وشغوفًا بالكتمان، لا يبيت في منزل واحد أكثر من ليلة واحدة، ولا يبقى على هيئة ثابتة.

تناقل الإسرائيليون والفلسطينيون على حد سواء أساطير عديدة عن براعته في التنكر، فهو يتخفى في هيئة حاخام يهودي أو جندي في «جيش الدفاع» فلا يثير ريبة الإسرائيليين، ويأخذ شكل شيخ مسلم أو يختفي بحجاب امرأة فلا يلفت أنظار المارة في شوارع الضفة.

حتى إن رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين قال عنه متندرًا: «أخشى أن يكون عياش جالسًا بيننا في الكنيست»، وسواءً أكانت تلك الحكايات حول عياش حقيقية، أم تشوبها بعض المبالغات، فالمؤكد أنه لا دخان بغير نار، وأن «المهندس» الحمساوي قد أعيا الإسرائيليين لسنوات طويلة، حتى صاروا ينشرون صورًا له في الصحف بأشكال مختلفة مطالبين بالعثور عليه حيًّا أو ميتًا، وبأي ثمن.

عُمِّمت صورة عياش وأوصافه على كل جنود وضباط الجيش الإسرائيلي، ورغم ذلك فإن أحدًا لم يتمكن من إلقاء القبض عليه، رغم لجوء الإسرائيليين في ذلك إلى كل الأساليب المحظورة، من القبض على عائلة عياش وتهديدها، والتنكيل بأهل قريته، وتعذيب معتقلي «حماس» لدفعهم إلى الإدلاء بأي معلومات قد تدل عليه

ثغرة في جدار مُحكم.. كيف اغتالت يد الخيانة «مهندس القسام»؟

مع تكثيف الإسرائيليين بحثهم عنه، قرر يحيى عياش الانتقال من الضفة الغربية إلى قطاع غزة، جُنَّ جنون الإسرائيليين مجددًا بعدما اكتشفوا قدرته على عبور حواجز الجغرافيا بهذه السلاسة، وكثَّفوا الضغوط على أجهزة السلطة الفلسطينية للقبض على يحيى عياش، لكن كل تلك المحاولات لم تأتِ بنتيجة، حتى وجد الإسرائيليون أخيرًا طرف خيط قد يقودهم إلى «المهندس».

بحسب الرواية الإسرائيلية، كان ثمة نقطة ضعف وحيدة في خطة التأمين التي وضعها عياش لنفسه: زوجته وابنه، اللذان بقيا في الضفة الغربية واستمر عياش في الاتصال بهما عبر الهاتف، وبمراقبة الاتصالات أدرك «الشاباك» أن الزوجة تنوي الانتقال إلى قطاع غزة لتكون قريبةً من يحيى عياش، وهو الإجراء الذي سهلته إسرائيل (غضت الطرف عنه)، فشوهدت الزوجة بعد ذلك في بيت لاهيا شمال القطاع، قبل أن يختفي أي أثر لها بعد ذلك.

افترض «الشاباك» أن عياش سيبقى قريبًا من مكان إقامة زوجته، فكثَّف البحث، ليتوصل الضباط الإسرائيليون إلى أسامة حماد، أحد ناشطي «حماس» الذي كان صديقًا لعياش منذ أن كانا يدرسان معًا في جامعة «بيرزيت»، وكان يحيى عياش يزور منزل أسامة من حين لآخر، ليلتقى هناك بزوجته وطفله، ويجرى مكالمة هاتفية للاطمئنان على صحة والده في الضفة الغربية، وكانت هذه هي نقطة البداية والتي نجح الإسرائيليون في توظيفها جيدًا.

كان خال أسامة، كمال حمَّاد، رجل أعمال غزاوي ناجحًا، يتمتع بعلاقات طيبة مع كبار المسؤولين الفلسطينيين، ويملك ثروة قدرها 20 مليون دولار جناها من المقاولات في أعمال البناء، وبقليل من الابتزاز والتهديد تمكن الإسرائيليون من إقناعه أن عليه التعاون في سبيل الحفاظ على تجارته، طُلب منه بعد ذلك أن يوظف أسامة حماد في أحد أعماله لكسب ثقته، وأن يزوده بهاتف محمول، وبعد ذلك بعدة أشهر طُلب من كمال إعادة الهاتف إلى الإسرائيليين، الذين زرعوا فيه بدقة 50 جرامًا من المتفجرات ثم أعادوه لكمال ليعطيه لابن أخته أسامة مجددًا.

كانت الخطة تقتضي أن يعطل الإسرائيليون الهاتف الأرضي في بيت أسامة، لدفع يحيى عياش إلى استخدام الهاتف المحمول المزروع فيه المتفجرات بديلًا، وعندها يجري تفجير العبوة الناسفة من خلال إشارة إلكترونية عن بعد عقب التأكد من صوت عياش على الهاتف، لكن المحاولة الأولى قد باءت بالفشل، بسبب سلك مقطوع في القنبلة الصغيرة، فطلب الإسرائيليون الهاتف مجددًا، وأعادوه إلى كمال فأسامة، بعدما أصلح الخبراء التقنيون الخلل.

حانت فرصة أخرى بعد عدة أسابيع، ففي الخامس من يناير (كانون الثاني) 1996، اتصل عياش بوالده عبر الهاتف المحمول، وحين سمع الإسرائيليون صوت «المهندس» على الخط ضغطوا زر التفجير فورًا، انفجرت القنبلة في رأس عياش ليتنفس الإسرائيليون الصعداء أخيرًا، بعدما تمكنوا من القضاء على «الثعلب» الذي مكر بهم لسنوات.

نزل خبر اغتيال يحيى عياش كالصاعقة على الفلسطينيين الذين اعتبر الكثير منهم «المهندس» بطلًا وطنيًّا عابرًا للتنظيمات والفصائل، وبرغم الخلاف الذي كان موجودًا في ذلك الوقت بين حركة «حماس» وبين السلطة الفلسطينية وأجهزتها بزعامة ياسر عرفات (كانت «حماس» تتابع التفجيرات داخل إسرائيل فيما كان عرفات يركز على المفاوضات ويعد عمليات «حماس» تضعف موقفه)، فإن الأخير كان في مقدمة المعزين في يحيى عياش، وأمر بإطلاق اسمه على شارع في مجمع السلطة الفلسطينية بمدينة رام الله.

سار في جنازة «المهندس» نحو 100 ألف فلسطيني، واجتاحت الشوارع الفلسطينية مظاهرات غاضبة منادية باسمه، وشنت «حماس» سلسلة عمليات تفجيرية داخل المدن الإسرائيلية انتقامًا لمقتل قائدها، ولا تزال الحركة تحيى ذكرى اغتياله سنويًّا، كما أطلقت «كتائب القسام» اسمه «عياش 250» على أحدث صواريخها، والذي استهدفت به في 13 مايو الجاري لأول مرة مطار رامون جنوب إسرائيل قرب مدينة إيلات، على بعد 220 كم من غزة، والذي يُعد أطول الصواريخ من حيث المدى لدى الكتائب.

أما كمال حماد، الذي ساهم في القضاء على عياش، والذي – وفقًا لروايته ورواية «الشاباك» الإسرائيلي – لم يكن مطلعًا على تفاصيل العملية بشكل كامل، فقد بقى حيًّا، لكن حياته قد انهارت تمامًا؛ إذ صادرت السلطة الفلسطينية أمواله، بعدما صار في أعين القطاع العريض من الفلسطينيين «خائنًا» واضطر للهرب إلى إسرائيل.

وفي مقابلة تليفزيونية أجراها معه التليفزيون الإسرائيلي وبُثت في أبريل (نيسان) 2018، يروى كمال كيف أن حياته تغيرت، ففقد كل ثروته، ولا يزال يعيش إلى اليوم «في رعب هائل من الاغتيال والانتقام»، ويعيش في مكان سري، ويغلق على نفسه الأبواب والنوافذ، رغم أنه نفَّذ كل ما طلبه منه «الشاباك»، و«خاطر بكل شيء في سبيل صنع السلام» حسب قوله، وأشار إلى أن إسرائيل «ترفض إعطاء زوجته الجنسية الإسرائيلية»، وسحبت منه كل الامتيازات بعدما انتهت العملية وافتضح دوره فيها.

_____________

مواد ذات علاقة