لا يزال الصراع على الهوية في القدس حيًّا والمدينة مرشحة لأن تشهد جولات تصعيد في المستقبل، لأن إسرائيل تتجه سياسيًّا بخطى ثابتة إلى أقصى اليمين الذي لا يرى إمكانية للتفاوض مع الفلسطينيين حول مصير القدس، وليس أمام الفلسطينيين إلا الاستمرار في المواجهة.

الجزء الأول

شهدت فلسطين التاريخيةبحدودها الانتدابية هَبَّة كانت القدس عنوانها، وتخَلَّلها تصعيد عسكري في غزة؛ الأمر الذي يطرح تساؤلات حول خلفيات ما يجري في المدينة من صراع في الديمغرافيا والهوية الاجتماعية والدينية والوطنية، لأن الصراع حول هذه المفاهيم وحقائقها وتداعياتها على الأرض، هو ما أوصل الأوضاع في المنطقة لهذا الانفجار. تراجع الورقة وضعية مدينة القدس ومآلها المستقبلي من خلال هذه العناوين، مع إضاءة موجزة حول السياق الذي أدى إلى هذه الهبَّة.

سياق هَبَّة القدس

شهدت مدينة القدس مع بداية شهر رمضان 2021 (13 أبريل/نيسان 2021)، تطورات متسارعة بدأت بمحاولة الاحتلال ترحيل 28 عائلة لاجئة من حي الشيخ جراح شمالي القدس، في مشهدٍ ذكَّر الفلسطينيين بفكرة التطهير العرقي التي واجهها منذ النكبة، مرورًا بصدامات بين شرطة الاحتلال ومستوطنيه والشباب المقدسي في باب العامود، يوم 10 رمضان (22 أبريل/نيسان 2021)، لتصل ذروتها يوم 28 رمضان (10 مايو/أيار 2021) عندما حاولت ما تسمى جماعات المعبد المتطرفةاقتحام المسجد الأقصى، فردَّت المقاومة الفلسطينية في غزة بقصف القدس بالصواريخ لأول مرة منذ 2014.

وشهدت شوارع مدن وبلدات الخط الأخضر احتجاجات من فلسطينيي أراضي عام 1948، وكذلك في الضفة الغربية حيث اشتبك الفلسطينيون مع الاحتلال على امتداد نقاط التماس، في مشهد أعاد للأذهان أحداث انتفاضة الأقصى عام 2000، ودخلت غزة في حرب رابعة مع الاحتلال، وضعت فيها حماس كل المدن الإسرائيلية كافةً تحت النار لأول مرة بهذا الحجم منذ إنشاء الدولة.

وتوسعت الأحداث حتى عمَّت كل فلسطين الانتدابية، في مشهد نادر ذابت فيه الفروق بين مكونات الشعب الفلسطيني الذي سعت إسرائيل على مدى ثلاثة وسبعين عامًا لتقطيعه إلى هويات وكيانات ترتبط بقوانين متفاوتة، وأوضاع واحتياجات متباينة بشكل كبير.

وبالنظر إلى سياق الأحداث، فإن ما حصل لم يكن أزمة عارضة مع الحكومة الإسرائيلية، وإنما كان يقع ضمن سياق استراتيجي عملت فيه حكومة بنيامين نتنياهو على محاولة وضع قرار إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل موضع التطبيق، مع استغلال اتفاق أبراهامالذي ضمن لإسرائيل حلفًا ما، مع دول عربية، لاسيما أن بعض هؤلاء تغاضى أو تماهى مع الرؤية الإسرائيلية في القدس.

ويمكن فهم انطلاق الأحداث من حي الشيخ جراح في هذا الوقت بالذات باعتباره يشكِّل وفق وجهة النظر الإسرائيلية، الخاصرة الأضعف في شمال القدس، ولأن الحديث يدور حول 28 منزلًا فإن هذا بالاعتقاد الإسرائيليقد يخفِّف أثر عملية التطهير العرقي فيه، إضافةً إلى الصمت العربي العام عمَّا يجري في المسجد الأقصى.

هذا جميعًا شجَّع حكومة نتنياهو على محاولة التقدم في نفس الوقت خطوة للأمام في تنفيذ اقتحام 28 رمضان، بما يؤدي إلى البدء بإجراءات عملية لتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، فكان الرد الفلسطيني شاملًا ومساويًا لمكانة المدينة ومسجدها.

إلا أن الصراع في مدينة القدس بكل ما تملكه من رمزية ومكانة دينية وتاريخية ليس مؤقتًا بالأوضاع الحالية، وإنما يعود إلى فترة الاحتلال نفسها وطبيعة الإجراءات التي اتخذتها السلطات الإسرائيلية تجاه سكان القدس وعملت عليها طوال أكثر من خمسين عامًا، إضافة إلى الوضع الذي تعيشه مدينة القدس حاليًّا.

القدس: الجغرافيا والسياسة

اختلف مفهوم مدينة القدس من الناحية الإدارية والسياسية عبر تاريخها الطويل باختلاف طبيعة الحكم الذي مرَّ عليها، إلا أن اختلاف المفهوم لم يكن في أية فترة تاريخية بعيدًا عن حدود سور المدينة تبعًا لشكل ومفهوم المدن القديمة وعناصرها التي كان أهمها السور.

لكنها بدأت تخرج من البلدة القديمة المسوَّرة مع نهاية فترة الحكم العثماني؛ حيث بلغت مساحة الحدود البلدية للقدس في ذلك الوقت حوالي مربعًا.

وكانت حدود البلدية في ذلك الوقت تمتد لتشمل حي الشيخ جراح شمالًا وحي البقعة إلى الجنوب الغربي ومنطقة مستشفى شاعري تصيدقاليهودية غربًا. وكان عدد الأحياء التي بُنِيت خارج حدود البلدة المسورة خلال تلك الفترة يبلغ 102، منها 24 حيًّا فلسطينيًّا أو مختلطًا، و78 حيًّا يهوديًّا.

ومع بداية حرب عام 1948 وإعلان دولة الاحتلال، سيطرت قوات الهاغاناه الصهيونية على كامل القسم الغربي لمدينة القدس بعد أن ارتكبت مجموعة من المذابحبحق سكان القرى والأحياء العربية في تلك الجهة كان أشهرها مجزرة دير ياسين“.

وكانت هذه المرة الأولى التي تقسم فيها مدينة القدس إلى قسمين: شرقي، وغربي، حيث كانت مساحة الجزء الغربي الذي تم احتلاله في ذلك الوقت تبلغ نسبة 85% تقريبًا من مساحة بلدية القدس الكاملة في العهد البريطاني. بينما بقي القسم الشرقي من المدينة بيد القوات الأردنية.

في صبيحة يوم 7 يونيو/حزيران 1967، تمكنت قوات الاحتلال من السيطرة على الجزء الشرقي من مدينة القدس، وأصبحت المدينة كاملة تحت سلطة الاحتلال، وتحاول دولة الاحتلال في أدبياتها تقديم هذا الاحتلال على أنه توحيدٌ لشطري المدينة الموحدة تحت السلطة الإسرائيلية. وتستعمل في الإشارة إلى ذلك الحدث بيوم توحيد القدس“.

وكان أول ما قامت به سلطات الاحتلال بعد عشرين يومًا فقط من احتلال الشطر الشرقي من مدينة القدس، أي في يوم 27 يونيو/حزيران 1967، إصدار تشريع عن الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي يقضي بتوحيد شطري القدس تحت السيادة الإسرائيلية.

وتبع ذلك (29 يونيو/حزيران 1967) إزالة وتدمير جميع الحواجز العسكرية التي كانت تفصل بين شطري المدينة بين عامي 1948 و1967 في إشارة واضحة إلى توحيد المدينة، وشهدت مدينة القدس توسعات في حدود البلدية الإسرائيلية بدءً من ذلك العام لتصبح حدود البلدية كاملة تغطي مساحة حوالي 126 كيلومترًا مربعًا هي حدود البلدية الرسمية حتى اليوم.

ولكن الاحتلال لم يوسِّع الحدود الشرقية للمدينة كثيرًا في الأحياء والقرى العربية الشرقية حرصًا على عدم ضم الكتلة الفلسطينية التي تقع في قريتي (أبو ديس) و(العيزرية) إلى حدود القدس لتقليل نسبة السكان الفلسطينيين داخل حدود البلدية.

ومن الضروري الإشارة إلى أن كامل هذه التوسعات والضم كانت تتم في أغلبها في شرقي القدس في الأراضي غير المطورة عمومًا، وذلك كرصيد واضح لصالح المستوطنات التي تنتشر في المنطقة.

علمًا بأن القسم الشرقي من مدينة القدس يتبع بالكامل بلدية الاحتلال، وتعامله البلدية الإسرائيلية بنفس القوانين التي تجري على القسم الغربي، مع فارق واحد في كيفية تطبيق القوانين؛ إذ إنها تميل في العادة لتطبيق قوانين البناء والتنظيم بشكل أكثر صرامةً وعنفًا أحيانًافي الأحياء الشرقية التي يسكنها الفلسطينيون.

__________

مواد ذات علاقة