يتداخل في ليبيا العامل السياسي تداخلا مباشرا مع العامل الاقتصادي، فلا استقرار يضمن اجراء انتخابات نزيهة ومعترف بها، دون ضمان نمو اقتصادي يدعم الاستقرار ويضمن تدفق رؤوس الاموال والاستثمار.

الجزء الأول

يحتاج المسار السياسي الليبي إلى ثلاثة متطلبات أممية مناطة بحكومة الوحدة الوطنية، وهي:

تهيئة الظروف أمام انتخابات عامة نهاية العام الحالي،

التمهيد لمصالحة وطنية شاملة،

وتحسين الخدمات للمواطن، مثل إعادة إعمار ما دمرته المعارك وتحسين القطاع المصرفي وتوفير السيولة المالية.

تلك قطاعات مرتبطة بالوضع على الميدان وتتأثر به في علاقة بالاستقرار السياسي الذي سينعكس بشكل مباشر على الاستثمار والاقتصاد مع عودة الحركة التجارية مع دول الجوار خاصة تونس، كأول شريك مغاربي عبر حراك مكوكي ومؤتمرات لرجال الأعمال، بالتزامن مع وضع ليبي مايزال هشا، مرتبكا وسائلا.

فالمجتمع الدولي مركّز حاليا على العملية السياسية، بينما مايزال اللواء المتمرد خليفة حفتر المدعوم من دول دائمة العضوية بمجلس الأمن الدولي يتهدد المسارين بشقيه السياسي والاقتصادي.

مقدّمة:

لم يكد يدخل إعلان وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في جبهة سرت الجفرة وسط ليبيا وشمالها، حتّى تحركت الدول الغربية والشرقية ودول الجوار لتتفقد مصالحها بليبيا.

فمصر رغم دعمها القوي للجنرال المتمرد حفتر قامت بتطبيع علاقاتها مع السلطات في طرابلس وافتتاح تمثيلها الديبلوماسي، وهي نفس الخطوة التونسية بعد سنوات إغلاق السفارة هناك، لتعود مع عودة الحراك الاقتصادي بنسق قوي من خلال زيارات سياسية على أعلى مستوى ومؤتمرات اقتصادية وعودة الخطوط البحرية والجوية ووعود بإلغاء كل القيود على السيولة في المعابر.

لكن في المقابل مايزال التخوف قائما أمام تعثر مشروع الاستقرار السياسي مع استمرار تدفق وصول المرتزقة المقاتلين إلى جانب حفتر، وهو الذي بدوره مايزال يستعرض قواته في مناورات وعروض عسكرية أمام مرئى الجميع متحديا قرارات السلطة المركزية، حيث القائد الأعلى للجيش رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ووزير دفاعه رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة.

ذلك جعل حكومة الوحدة الوطنية أمام تحديات كبرى داخلية وخارجية، تحدي توفير الاستقرار والانفتاح الاقتصادي لدعم الاستقرار السياسي وكمورد عيش للشعب.

أولا: متطلّبات المسار السياسي:

أتوفير مستوى من الاستقرار:

بعد تشكيل الحكومة الجديدة في ليبيا تبدو البلاد في حاجة إلى الاستقرار وحد أدنى لبسط الأمن وتحسين الخدمات وتوفير السيولة حتى يشعر المواطن بعودة مناخ الثقة والطمأنينة في المسار السياسي ومن ثمة الثقة في توفر أجواء للإدلاء بصوته بحرية وأمان.

لكن يبدو أن قلاقل مايزال يثيرها حفتر لا تبعث على الاستقرار، آخرها كان قيامه باستعراض عسكري احتفالا بذكرى الكرامة في تعد على قوات الغرب وتجاوز للجنة العسكرية المشتركة التي تعمل على توحيد المجهود العسكري ووقف التوتر والشحن بعد مناورات عسكرية بالذخيرة الحية، مما جعل رئيسي الحكومة عبدالحميد الدبيبة والمجلس الرئاسي المنفي في وضع احراج كبير، يحضران أو لا يحضران!

فإذا حضرا فهما مجرد ديكور ويكونا قد جردا صفة القائد الأعلى ووزير الدفاع من كل معنى أمام حفتر، واذا غابا فذلك يعني ضمنيا إعلان حرب على حفتر كقائد عام

حتى أن رئيس المجلس الرئاسي القائد الأعلى للجيش محمد المنفي اختار زيارة تونس، تهربا من الاستعراض العسكري الذي أقامه حفتر في بنينا ببنغازي حيث وجه له دعوة رسمية.

هذا دون نسيان الوجه الآخر للزيارة كتتويج للصفقات الاقتصادية والمعارض الاستثمارية التي دشّنها رئيسا الحكومة والبرلمان التونسيين هشام المشيشي وراشد الغنوشي، كما سنوضحه لاحقا.

أيضا، ذلك ما جعل رئيس حكومة الوحدة الوطنية يتوجه إلى الجزائر، أمام تحديات كبرى داخلية في تعارض لاتفاقية جنيف الموقعة نهاية أكتوبر الماضي لتوحيد المؤسسة العسكرية، وبالتالي فهي رسائل استياء تدمر جهود الوحدة الوطنية من طرف مهووس بالسلطة بينما لم نر مثلا، احتفال طرابلس بالذكرى الأولى للانتصار على العدوان.

هذا الاستقرار يتطلب وقف جلب المرتزقة في الوقت الذي سجّلت فيه قوات الغرب الليبي أكثر من سبعين رحلة جوية من سوريا عبر أجنحة الشام انطلقت من مطارات دمشق وقاعدة حميميم الروسية باللاذقية، لتقل عناصر موالية لحفتر بمطار بنينا ببنغازي وقاعدة الخادم الإماراتية جنوب المرج، وهنا نتساءل عن أي جدوى من الحديث عن اخراج المرتزقة من البلاد.

يجري ذلك رغم فرض أمريكا عقوبات على الشركة الجوية السورية التابعة لصهر الأسد لعقوبات أمريكية لنقلها مقاتلين وأسلحة ومعدات بين روسيا و سوريا وكثيرا مايتم تشويش مسار الرحلات مع دخول الأجواء الليبية.

بتمهيد أرضية المصالحة:

يمكن القول انه إذا لم تتوفر المتطلبات السابقة، فسيكون غيابها معرقلا لدفع عجلة المصالحة، التي ستكون هي الأخرى عاملا في اتجاه الاستقرار وتحسن الاقتصاد.

وهنا لايسعنا إلا ذكر التنويه ببوادر المصالحة التي بدأت من الزاوية بإطلاق سراح عدة أسرى من كتيبة كاملة تابعة لقوات حفتر الذي قابلها باطلاق سراح نساء من سجن قرنادة، وبالتالي يمكن ملاحظة وجود تقدم سياسي وأمني واقتصادي الى حد الآن ولو محدود.

ولأهمية ذلك الاستقرار فقد حذر تقرير الاستخبارات السنوي الأمريكي المعروف باسم تقييم التهديد السنوي من استمرار عدم الاستقرار في ليبيا وتواصل خطر تجدد القتال واندلاع حرب ليبية.

رغم أن التقرير الصادر عن لجنة المخابرات بمجلس الشيوخ (أول تقرير زمن بايدن) اعتبر أن هناك بوادر تصالح لتجاوز الخلافات بين فرقاء ليبيا لكن القوى الأجنبية تواصل ممارسة نفوذها وتأثيرها في الداخل الليبي، وبحسب التقرير من المرجح أن تواصل القوى الأجنبية دعمها المالي والعسكري لوكلائها وستكون هناك نقطة مشتعلة محتملة إذا لم تلتزم روسيا وتركيا بوقف إطلاق النار الذي توسطت فيه الأمم المتحدة أكتوبر الماضي والذي في رأس مطالبه ترحيل القوات الأجنبية.

وهنا نذكر تصريح رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة الذي اتهم قبل مدة أطرافا لم يسميها بالسعي إلى إشعال حرب ليبية من خلال تعطيل مرافق الخدمات العامة.

وهنا لابد كذلك من التذكير من وجود أطراف ليبية تسعى لتعميق الصراع وأولها تجار الحروب والمستفيدون من اشتعالها، حتى أن البعض اعتبر قدرة حكومة الوحدة خلال مدة عملها القصيرة نسبيا باجراء انتخابات في ديسمبر المقبل، والتصدي للمستفدين من استمرار الحرب، يعد إنجازا هائلا.

كذلك فإن المصالحة تتطلب اعلان حرب على المتورطين في جرائم وجبر ضرر المتضررين، وهناك جرائم أخرى متعددة قد تشمل حتى مهربي السلاح الذين ربحوا أموالا طائلة من اذكاء الصراع.

إضافة الى قيادات العصابات والتشكيلات العسكرية المجندة من طرف اللواء المتمرد خليفة حفتر، التي تاجرت بالسلاح وجندت المرتزقة وهي تتخوف حاليا من تهميشها أو القضاء عليها تماما مثلما حدث مع محمود الورفلي الذي تعرض للتصفية في وسط النهار وفي قلب بنغازي.

إلى ذلك ينضاف تجار الخردة والذين غنموا مغانم كثيرة من بقايا المعارك من الذخيرة كالأسلحة الخفيفة والثقيلة، ويرون أن وقف إطلاق النار لايعني سوى القضاء على مصادر أموالهم مما يقلل او يقضي على مكاسبهم.

وعلى رأس أولائك نجل حفتر الذي يبيع الخردة ويبرز دور مهربي البشر والوقود وعصابات سرقة الأسلاك الكهربائية فضلا عن الموظفين الفاسدين الذي استغلوا مناخات الحرية التي لم يتعودوا عليها سابقا.

كل هؤلاء تجار الحروب سيدفعون مختلف الأطراف نحو توتر جديد قد يكون فتيلا لحرب جديدة يحددون هم مناطق اندلاعها وزمن نشوبها والمؤسف أن الحكومة الحالية ليس بيدها الكثير لمواجهتها، وبالتالي يكفيها نجاحا تمهيدها أرضية للمصالحة وحكم نزيه للقادة الجدد.

جتهيئة مناخ الانتخابات:

رغم كون حفتر سابقا قام بتجميد الإعلان الدستوري خلال بداية انقلابه ثم قبيل العدوان على طرابلس قام بإزاحة ما تبقى من رؤساء بلديات منتخبون بالجنوب الليبي وتعويضهم بعسكريين إلا أن الأمل قائم في حصول انتخابات عامة في البلاد بحكم عدة معطيات أولها عدم تحمس الليبيين للقتال وظهور ذلك بشكل واضح في مناطق تفوذ حفتر وفي زعماء قبائله.

لكن ذلك لايمنع إعادة تمظهر حفتر من جديد بزي مدني ليتقدم للانتخابات، وهو مايبقى أمرا مشروعا إذا أجازته القاعدة الدستورية.

ومن أوكد مهام حكومة الوحدة الوطنية هو العمل على ترتيب الظروف لإجراء الانتخابات، ويعد قبول حفتر بوصول عدد لا محدود من الحاويات التي تحمل معدات وأجهزة إلكترونية لصالح المفوضية الوطنية العليا للانتخابات الى بنغازي إلى حد ما قبولا بسير العملية الديمقراطية التي كان سابقا يرفضها بالحرابة.

لذلك يبدو الضامن الغربي الأمريكي تحديدا عازما هذه المرة على سير العملية الانتخابية إلى آخرها، ولعل مباشرة الأطقم الأجنبية فعليا في تنفيذ وتطوير البنية التحتية للمفوضية خير دليل، ناهيك عن كون أول الواصلين لبنغاوي هو الطاقم الفني الأمريكي، وهو وأول المباشرين في تجهيز المواقع والقاعات الفنية للانتخابات.

كما يبدو الموقف الأوروبي حريصا على توفير مناخات الاستقرار اللازمة للعودة للأمن والأمان في ضوء خارطة الطريق الجديدة كما سمتها المفوضية الأوروبية من أجل التوصل إلى سلطة جديدة تقود المرحلة الجديدة مابعد الانتخابات العامة في 24 ديسمبر المقبل.

***

مختار غميض (صحفي تونسي)

____________

مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية

مواد ذات علاقة