هنريك تراوتمان و أنطونيا ماري دي ميو

قد تم إجراء الكثير من البحوث من أجل إعداد هذا التقرير قبل نهاية عام 2020، ومع أن عددا من التغييرات السياسية قد حدثت في أوائل عام 2021، بما في ذلك إنشاء حكومة الوحدة الوطنية وتعيين الوزراء، فإن التوصيات الواردة في هذا التقرير يمكن أن تكون مفيدة لحكومة الوحدة الوطنية وكذلك للمسؤولين الآخرين وأصحاب المصلحة الدوليين

الجزء التاسع

تأثير وتكلفة التدفقات المالية غير المشروعة والجريمة المنظمة في ليبيا

التدفقات المالية غير المشروعة تستنزف الموارد التي يمكن استخدامها لتمويل الخدمات العامة التي تشتد الحاجة إليها، من الأمن والعدالة إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية مثل الصحة والتعليم، كما تضعف الأنظمة المالية والتنمية الاقتصادية، وتبطئ النمو الاقتصادي المستدام.

تحدث هذه الممارسات في معظم البلدان، ولكن في البلدان النامية تكون وطأتها الاجتماعية والاقتصادية أكثر حدة بالنظر إلى قاعدة مواردها وأسواقها الأصغر، فضلا عن الفساد الذي يؤدي إلى سوء إدارة هذه الموارد.

تقوض التدفقات المالية غير المشروعة في ليبيا الجهود المبذولة للانتقال من الحرب إلى السلام، وتزيد من ضعف الحوكمة وتغذي الفساد، كما أنها تؤثر سلبا على حياة المواطنين لأنها تقلل الموارد المالية المتاحة للاستثمار في الصحة والتعليم والإسكان والبنية التحتية وغيرها من القطاعات الحيوية الأخرى التي من شأنها تحسين الرفاهية.

قد يكون للتدفقات المالية غير المشروعة تأثير مباشر على قدرة الدولة على تعبئة مواردها الخاصة والاحتفاظ بها واستخدامها لتمويل التنمية المستدامة.

وبالإضافة إلى مناقشة حجم التدفقات المالية غير المشروعة، من الضروري فهم ومعالجة الأضرار البليغة ومتعددة الأبعاد التي تسببها. وإذا أخذ في الحسبان ما تسببه من آثار إلى جانب خسائر الإيرادات، فمن الواضح أن هذه التدفقات المالية غير المشروعة تكبد أضرارا واسعة النطاق ومتعددة الأوجه على أهداف التنمية وبالتحديد يمكن أن تضعف بشكل مباشر ومعتبر القدرة على تحقيق أهداف التنمية المستدامة لعام 2030 .

تؤثر التدفقات المالية غير المشروعة والجريمة المنظمة على الثقة في الموظفين العموميين والمؤسسات الحكومية وسيادة القانون. يمكن أن تؤدي المستويات المنخفضة من الثقة والمشاركة المدنية ورأس المال الإجتماعي إلى إعاقة التنمية وتدعيم الجماعات الإجرامية المنظمة.

ويحدث مثل هذا الوضع حلقة ضارة تزيد من عدم الاستقرار السياسي وتضعف الحوكمة، كما أن تكلفة الفساد على البلدان النامية باهظة، حيث يقدر المنتدى الاقتصادي العالمي تكلفته السنوية ب 1.26 تريليون دولار في البلدان النامية.

الفساد يولد بشكل مباشر تدفقات مالية غير مشروعة (مثل الاحتيال المصرفي والاختالس) ويخلق أيضا بيئة تساعد على ازدهار النشاط الإجرامي المنظم؛ وكلاهما يعزز الآخر.

تستغل الجماعات الإجرامية المنظمة ضعف السلطات العامة الناجم عن الفساد، كما أنها تحصل في كثير من الأحيان على فوائد ووصول إلى السلطة السياسية. وينتج عن هذا الوضع بيئة تستفيد فيها الجريمة المنظمة من الفساد، مما يضاعف ويعزز الجريمة والفساد، كما أن الفساد قد يقلل من العواقب القضائية والقانونية على النشاط الإجرامي، مما يضعف الإثر الرادع للنظام القانوني.

تركز معظم الدراسات على الأضرار الاقتصادية التي تسببها التدفقات المالية غير المشروعة، ومع ذلك فهناك عدد من الأنشطة غير المشروعة المدرة للدخل التي لها تأثير أكبر وأكثر ضرر على التنمية في بلد ما، وقد تحدث التدفقات المالية غير المشروعة الأضرار التالية في ليبيا ومجتمعها:

الضرر الاقتصادي

  • بشكل مباشر، تسحب التدفقات المالية غير المشروعة الأموال من الاقتصاد المشروع، وقد تجبر الدولة على تحويل الموارد من أجل منع النشاط الإجرامي والتصدي له. وبشكل غير المباشر، تضر التدفقات المالية غير المشروعة بالمناخ الاقتصادي والقدرة التنافسية والاستثمار وريادة الأعمال.

  • قد تزيد التدفقات المالية غير المشروعة من عجز ميزانية الدولة ومن الاعتماد على المصادر الخارجية للتمويل من أجل التنمية، كما أنها تضعف الأنظمة المالية وتسمح للأفراد بإخفاء الأصول المسروقة والتهرب من الضرائب وتجنب الآثار السلبية لانخفاض قيمة العملة.

  • وبدلا من إفادة الناس والاقتصادات المحلية، قد ينتهي الأمر بالأموال في الملاذات الضريبية الخارجية. في بعض الحالات، تبرز أقلية لها نفوذ سياسي ونفوذ على معظم السكان، وليس لها حافز كبير لتطوير الاقتصاد المحلي والخدمات الاجتماعية.

  • وبالإضافة إلى ذلك، فإن استنزاف الموارد والإيرادات الضريبية بسبب التدفقات المالية غير المشروعة له تأثيرات كبيرة على الميزانية ويزيد من العجز. ويؤدي فقدان الموارد المالية إلى منع توسيع الخدمات الاجتماعية الأساسية وبرامج البنية التحتية التي تهدف إلى تحسين رفاهية وقدرات جميع المواطنين، بما في ذلك فئة المجتمع التي تعيش في فقر مدقع.

  • لقد تمت دراسة الأسباب الجذرية للتدفقات المالية غير المشروعة على نطاق واسع (تتراوح من ضعف أنظمة الإدارة المالية، إلى عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي الكلي، والإفتقار إلى التحرير المالي، والبحث عن عائدات أعلى للاستثمار)، ولا يمكن الاستهانة بتأثيرها على التنمية الاقتصادية في أفريقيا.

  • تعتبر العواقب المباشرة وغير المباشرة للتدفقات المالية غير المشروعة (أي انخفاض الاستثمار والإيرادات في مجالات الصحة والتعليم والتوظيف والدخل، وما إلى ذلك) من المعوقات الرئيسية للتنمية في ليبيا. الفساد المتفشي المقترن بالمخاطر والمخاوف المحدقة بالاقتصاد المحلي كلها عوامل تضعف التدابير الاقتصادية والاجتماعية المتخذة، ومن ثم فإنها تحد من احتمالا تحقيق نمو أكثر .

الضرر المجتمعي والإنمائي

  • يؤدي الضرر المجتمعي والإنمائي إلى حدوث أو تفاقم التوترات المجتمعية، فضلا عن التهميش الاقتصادي أو الاجتماعي. وقد تؤثر التدفقات المالية غير المشروعة على المجتمعات من خلال تسهيل النشاط الإجرامي المنظم. ولهذا السبب، قد يساعد التصدي للتدفقات المالية غير المشروعة في تحسين تلبية الاحتياجات المجتمعية والإنمائية.

  • المجتمع الليبي ممزق، ويتم استبعاد العديد من فئات المجتمع من الحياة العامة والاجتماعية والاقتصادية. تشمل هذه الفئات نسبة كبيرة من النساء والشباب، وكذلك المهاجرين واللاجئين وطالبي اللجوء. يؤدي عدم الاندماج في الحياة الاجتماعية والسياسية إلى زيادة التهميش الاجتماعي والاقتصادي ويظل عقبة أساسية أمام توحيد ليبيا.

  • كما يرتبط الفقر والتفاوتات الاجتماعية بزيادة الجريمة المنظمة وبصورة رئيسية الإتجار بالبشر وتهريب السلع المقلدة والفساد. في ليبيا، ينتج عن اجتماع مجموعات الاتجار والتهريب، وكذلك المتورطين في غسل الأموال والفساد، تأثير كبير على التنمية البشرية.

  • ويحذر تقرير الأمم المتحدة عن التنمية البشرية من أن التدفقات المالية غير المشروعة تشكل عقبة أمام التنمية البشرية من خلال ”إضعاف الحوكمة، وتقليل الاستهلاك والاستثمار والإنفاق الاجتماعي، مما يضر ببناء القدرات الجماعية على المدى الطويل وتوسيع التنمية البشرية“.

  • وعلاوة على ذلك، تدهور الوصول إلى الخدمات العامة في ليبيا. الوزارات التنفيذية غير قادرة على تلبية الطلب على الخدمات لأنها تعاني في كثير من الأحيان من نقص القدرات والخبرة وآليات التنسيق. كما أن تكاليف البنية التحتية غير الملائمة والمرتفعة (الطاقة والمياه) تعرقل التنمية الاجتماعية.

الضرر الجسدي

  • يمكن أن تسبب التدفقات المالية غير المشروعة أيضًا ضررا لسلامة الأفراد الجسدية والنفسية. مثلا، تؤثر التدفقات المالية غير المشروعة والجريمة المنظمة على تحقيق الهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة (ضمان الصحة الجيدة وتعزيز الرفاه للجميع في جميع الأعمار) في ليبيا بعدة طرق.

  • وبسبب الاضطرابات السياسية والأمنية المستمرة التي بدأت في عام 2011 ، تعتبر البلاد في حالة طوارئ معقدة. خلال السنوات القليلة الماضية، عانت البلاد من صراع واسع النطاق خلّف العديد من القتلى والجرحى والمشردين. ومع أن ما يجري في البلاد لم يسمح بإجراء تقييم دقيق للوضع الفعلي على الأرض، يعتقد أن عدد الإصابات الجسدية والصدمات النفسية في ارتفاع مستمر.

  • وتعتبر الصدمات المرتبطة بالحرب إحدى أهم المشاكل الصحية في البلاد. لقد أثر النزاع الحالي على تقديم الرعاية الصحية والإمدادات الطبية بشكل كبير. كما أدى تزايد عدد المهاجرين غير الشرعيين، معظمهم من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، الداخلين البلاد إلى تدهور المشاكل الصحية والأمنية أثناء الصراع.

  • تسبب الصراع في تفاقم انقطاع الإمدادات في البلاد، مما أدى إلى نقص حاد في الأدوية والإمدادات الطبية واللقاحات. ونتيجة لهذا الوضع يفتقر ما يقدر بنحو 1.1 مليون شخص إلى الرعاية الصحية المنقذة للحياة.

ومن جهة أخرى، فقد ارتفع تعاطي المخدرات خاصة بين الشباب، كما تنتشر أشكال مختلفة من سوء التغذية لدى الأطفال دون سن الخامسة.

الضرر في الهياكل والحكومة

  • تتضرر سمعة الحكومة عندما يتم انتهاك القانون وتبدو الحكومة عاجزة عن الرد على النشاط الإجرامي. وتتضرر الهياكل والحوكمة بفعل تدني جودة الحوكمة وشرعية العقد الإجتماعي، وسيادة القانون، وعملية التنمية نتيجة للفساد والجريمة المنظمة والتدفقات المالية غير المشروعة والإفلات من العقاب.

  • يمنع هذا النوع من الضرر، على سبيل المثال، تحقيق الهدف السادس عشر من أهداف التنمية المستدامة، المتمثل في التشجيع على إقامة مجتمعات مسالمة لا يهمّش فيها أحد، من أجل تحقيق التنمية المستدامة، وإتاحة إمكانية وصول الجميع إلى العدالة، وبناء مؤسسات فعالة وخاضعة للمساءلة وشاملة للجميع على جميع المستويات.

  • على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي التدفقات المالية غير المشروعة المرتفعة والمستويات العالية من الفساد إلى إضعاف تقديم الخدمات واستخدام األموال العامة في غير ما تحتاج إليه برامج الحكومة الليبية. ويمكن أن يساهم أثر غسل الأموال في انهيار سيادة القانون، وفساد الموظفين العموميين، وزعزعة استقرار الهياكل الاقتصادية للدولة، كما يهدد االستقرار السياسي والديمقراطية والأسواق الحرة.

  • وعلى نفس المنوال، فإن الحاجة إلى زيادة الإنفاق على الأولويات الأمنية لمكافحة الجريمة المنظمة يمكن أن تحول الموارد الحكومية المحدودة بعيدا عن الاستثمارات في الخدمات الاجتماعية، مثل الصحة والتعليم. كما يمكن أن تؤدي التدفقات المالية غير المشروعة أيضًا إلى تفاقم الصراع، والعكس صحيح، حيث أن ضعف مؤسسات الدولة قد يكون سبباً ونتيجة. تظل الحوكمة المحلية أولوية رئيسية بالنسبة للسياسيين والمواطنين الليبيين، إذ في غياب دولة مركزية قوية قادرة على ضمان التوزيع العادل للثروة وتقديم الخدمات، يتجه الناس إلى المستويات الحكومية الوسيطة لتلبية احتياجاتهم ومطالبهم.

يتبع في الجزء التالي

***

هنريك تراوتمان ـ المدير بالنيابة للجوار الجنوبي، مديرية سياسة الجوار الأوروبية ومفاوضات التوسع

أنطونيا ماري دي ميو ـ مديرة معهد الأمم المتحدة الأقاليمي لبحوث الجريمة والعدالة

_____________

مواد ذات علاقة