ضياء عودة

تعكس طبيعة الوفود التركية التي تزور طرابلس الليبية بين الفترة والأخرى حجم الاهتمام الكبير الذي توليه أنقرة للملف الليبي، والذي بات أبرز الملفات التي تسعى أنقرة للتمسك بها، في خطوة لتثبيت مصالحها على الأرض، والتي دفعت ثمنها غاليا بتدخل عسكري واسع، في السنوات الماضية

آخر الزيارات كانت منذ أيام، وجاءت بـتوجيهات من الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بحسب ما ذكرت وسائل إعلام تركية، وضم الوفد كل من وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار ووزير الداخلية، سليمان صويلو ورئيس الأركان العامة، يسار جولر.

كما ضم الوفد وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو ورئيس جهاز المخابرات، هاكان فيدان ومدير الاتصالات الرئاسية، فخر الدين ألتون.

وبالنظر إلى هذه الأسماء لا يبدو هذا الحراك السياسيالعسكريالاستخباراتيالإعلاميالأمني وكأنه حراكا عابرا، بل تقف ورائه أهداف ترتبط بجزء كبير منها بأنقرة، والتي تتحسس بحسب مراقبين وجودها العسكري على الأرض، لاسيما في ظل الدعوات الأوروبية لخروج جميع القوات الأجنبية من الأراضي الليبية. وكذلك المرتزقة“. 

وهناك عدة سياقات يمكن الاستدلال من خلالها إلى أسباب تلك الزيارة المفاجئة، والتي أعلن عنها في وقت حساس قبل يومين فقط من قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) واللقاء الأول بين الرئيسين التركي، رجب طيب إردوغان والأمريكي، جو بايدن

كما أنها تستبق مؤتمر برلين 2″ والمقرر انعقاده في الثالث والعشرين من يونيو الحالي في مدينة برلين الألمانية، في جولة جديدة لبحث سبل استقرار البلاد ومناقشة التحضير للانتخابات المقررة في 24 ديسمبر المقبل، وخروج الجنود الأجانب والمرتزقة“.

تصريحات عمومية وذات دلالات

زيارة المسؤولين الأتراك الكبار منذ يومين كانت قد سبقتها زيارة مماثلة في الثالث من شهر مايو الماضي. زيارةٌ لم تختلف تفاصيلها كثيرا من حيث الشخصيات التي تصدرتها والوقت الذي جاءت فيه أيضا

ومنذ الإعلان عن تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا كان لافتا اتباع أنقرة سياسة جديدة بشأن الملف الليبي، حيث اتجهت لتثبيت مصالحها على الأرض من خلال عدة اتفاقيات عسكرية وسياسية وإعلامية واقتصادية أعلن عنها مؤخرا في العاصمة التركية

ليس ذلك فحسب بل حاولت التأكيد على وجودها في طرابلس الليبية، رافضة وصف نفسها بـالقوة الأجنبية، وهو ما أكد عليه وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار في تصريحات له قبل أيام

واستخدم آكار في بيان أدلى به خلال زيارته لقيادة مجموعة العمل الليبية في العاصمة الليبية طرابلس عبارات تطرق إلى بها طبيعة الزيارة، وقال: “ستواصل تركيا الوقوف إلى جانب أشقائها الليبيين برباط أخوي تاريخي عمره 500 عام. تركيا ليست قوة أجنبية في ليبيا. تركيا تسعى جاهدة لجعل ليبيا مكتفية ذاتيا“.

بدوره قال وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو في تدوينة عبر تويتر“: “التقينا برئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة. أكدنا دعمنا لحكومة الوحدة الوطنية قبل مؤتمر برلين الثاني. سوف يستمر تعاوننا من أجل ليبيا آمنة ومستقرة ومزدهرة “.

غير عادية

الزيارات المتكررة والرفيعة إلى طرابلس الليبية وصفتها وسائل الإعلام التركية، في الأيام الماضية، بأنها تندرج في إطار استمرارية التعاون القائم بين الجانبين. لكن الواقع على الأرض يشي بأنها تأتي في إطار ترتيبات جديدة قادمة على الساحة الليبية.

وأمام التطورات التي تشهدها الساحة الليبية يجمع المراقبون أن أنقرة تحاول بأقصى طاقتها الحفاظ على موطئ قدمها في المنطقة، من خلال تثبيت الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية التي سبق وأن أبرمتها في السنوات الماضية مع حكومة الوفاق الوطنيةالمعترف بها دوليا

وهذه الاتفاقيات كانت قد ازداد عددها في الثالث عشر من أبريل الماضي، في أثناء الزيارة التي أجرتها حكومة الوحدة الوطنية إلى العاصمة التركية أنقرة، وشملت حينها مجالات مختلفة على صعيد الاقتصاد والسياسة وحتى الإعلام أيضا.

ويربط الكاتب التركي، محمد آجات في مقالة له على صحيفة يني شفقالمقربة من الحكومة التركية زيارة المسؤولين الأتراك إلى طرابلس منذ يومين بقمة حلف الناتوالتي انطلقت صباح الاثنين.

ويقول آجات الاثنين: “زيارة الوفد برئاسة وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو لم تكن زيارة عادية. هناك تعاون بين تركيا وليبيا في العديد من المجالات. ومع ذلك فإن وجود مثل هذا الكادر قبل قمة الناتو له معاني أخرى بالطبع“.

ويشير الكاتب التركي إلى ضغوط تتعرض لها تركيا لإخراج قواتها من ليبيا، ونقل عن مسؤول تركي قوله: “نعم، إنهم يضغطون على خروج جميع القوى الأجنبية. قلنا لا يمكن مساواة الجندي التركي الذي ذهب إلى ليبيا بالاتفاق بين البلدين وغير مسار الحرب وأنقذ طرابلس من احتلال حفتر بفاغنر ومرتزقة تشاد والسودان“.

وتحدث المسؤول أن أنقرة كانت تدرك في الأيام الماضية أنها ستتعرض لضغوط في قمة الناتوبشأن ليبيا، لذلك أخذت زمام المبادرة بزيارة وفدها الرفيع. وهنا نقلت رسالة مفادها أننا لا نقبل النقاش في هذه القضية“.

أهداف متعددة

في تصريحات لموقع الحرةيقول الباحث في الشأن التركي، مهند حافظ أوغلو: “عمليا الحكومة التركية بمجملها ذهبت إلى طرابلس قبل يومين. هذا الوفد الضخم المتعدد له أهدافه، وكأنه عنوان تركي بالخط العريض أن أنقرة لن تقبل بأي انتكاسة سياسية أو عسكرية في الوضع الليبي“.

ويضيف الباحث التركي أن الزيارة يمكن وصفها بـرسالة بعث بها الرئيس إردوغان في توقيت شديد الأهمية وشديد الحساسية، سواء على مستوى الداخل الليبي والذي يبدو أنه يشهد خلافات من جديد“.

أما على المستوى الخارجي فيرى حافظ أوغلو أن زيارة المسؤولين الأتراك لها رسائل في هذا السياق أيضا.

ويتابع: “على مستوى الخارج نشهد مطالبات من جهات عدة بإخراج القوات الأجنبية من ليبيا. هذه المطالبات تركز فقط على الوجود التركي رغم شرعيته وعدم شرعية الآخرين“.
ومن المقرر أن يكون الملف الليبي على رأس الملفات التي سيناقشها الزعماء في قمة الناتو، سواء بين الرئيسين إردوغان وبايدن أو في القمة المرتقبة بين بايدن ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين، أو حتى إردوغان ونظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون

ويشير حافظ أوغلو: “هي زيارة ترسل من خلالها أنقرة رسائل للداخل والخارج مفادها أن ليبيا وما وصلت إليه من بداية استقرار سياسيبفضل تركيالن تترك الحكومة الليبية المؤقتة دون سند حقيقي كامل“.

رسالتان متناقضتان

في غضون ذلك يؤكد الكاتب والمحلل السياسي الليبي، إبراهيم بلقاسم وجود رسائل تركية من وراء زيارة الوفد الرفيع إلى طرابلس، لكنه يراها متناقضة

ويقول بلقاسم في تصريحات لموقع الحرة“: “أظن أن الزيارة تحمل رسالتين متناقضتين“.

والرسالة الأولى لها علاقة بضرورة مواجهة التواجد الروسي في المنطقة بشكل مباشر أو من خلال منظومة حلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية بشكل غير مباشر، باعتبار أن تركيا عضو في الناتو وشريكة للأخيرة.

أما الرسالة الثانية يضيف بلقاسم: “أعتقد أن الزيارة التي عقدت قبيل قمة الناتو تحمل رسائل واضحة جدا، بينها إقناع الجانب الليبي بأن يقبل الشراكة مع الناتو وأن يكون التواجد التركي في ليبيا ممثلا لذلك، وأن يكون أيضا ضمن الشراكة الاستراتيجية بين ليبيا ومحيطها الجيواستراتيجي فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب“. 

ما سبق يؤكد عليه أيضا الباحث التركي، مهند حافظ أوغلو، ويشير إلى نقطة مهمة جدابحسب تعبيره

ويقول: “موسكو يبدو أنها متخوفة من أي بداية استقرار للعلاقات التركيةالغربية عموما والتركيةالأمريكية خصوصا من بوابة بروكسل“.

ويضيف حافظ أوغلو: “أنقرة تعلم تماما كيف تفكر موسكو، حيث أنها تصعّد ميدانيا لكسب نقاط سياسية، وهذا ما عاشته تركيا مع روسيا سيما في الملف السوري، لذلك كان وصول وفد تركي بهذه الرفعة طرابلس مهم جدا لأكثر من اعتبار“. 

هل يتقلص التواجد العسكري؟

وأمام ما سبق وفي ظل الدعوات المتكررة لخروج جميع القوات الأجنبية من الأراضي الليبية، بما فيها قوات الدول وقوات المرتزقة تطرح تساؤلات عن حجم الهامش الذي ستحاول فيه أنقرة المناورة من أجل الإبقاء على نفوذها في الأرض

وبحسب المحلل السياسي الليبي، إبراهيم بلقاسم فإن الولايات المتحدة الأمريكية ضغطت في الأيام الماضية لخروج المقاتلين الأجانب والمرتزقة من ليبيا، بغض النظر عن شكل تواجدهم سواء من خلال الشراكات أو الاستغلال والتوظيف“.

ويضيف: “هناك صوت واضح في الداخل الليبي شرقا وجنوبا بأن الليبيون لا يرغبون بتواجد أي قوة أجنبية في الداخل“.

ويشير بلقاسم: “تركيا تحاول إقناع المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية للذهاب إلى قبول شراكة مع الناتو قد تشمل وتضمن تواجد وإعادة تموضع للقوة التي تم الاتفاق على تواجدها من خلال اتفاقيات أمنية وغير ذلك“.

ويتابع المحلل الليبي في حديثه لموقع الحرة“: “في ذات الوقت تبحث تركيا عن ضامن حقيقي قبل أن تتراجع على المستوى العسكري، وتستثمر بالمستوى التجاري والاقتصادي“.

***

ضياء عودة – مراسل الحرة في إسطنبول

___________

مواد ذات علاقة