تبدو العدالة الانتقالية في تونس مقبلة على تطوّرات هامّة في المستقبل القريب، نظراً للاستحقاقات التي فرضها انتهاء عمل هيئة الحقيقة والكرامة، وبفعل زيادة حدّة الخلاف المجتمعي بشأنها.

الجزء الأول

المفكرة: هل اعتراضك على التصوّر التونسي كما يسمّى للعدالة الانتقالية كان سببه المنهجية المعتمدة في صياغة تصوّرات مساراته وبالتالي هو اعتراض مبدئي أم أنّه اعتراض سياسي نتج عن استخلاص الدرس من أثر تغيُّر المزاج السياسي والانتخابي على الموقف العامّ من هذا الاستحقاق؟

الغنوشي: موقفي مبدئي وكان منذ البداية وأكّدَته تالياً الوقائع التي كشفت صحّته. لقد عبّرت عن موقفي هذا بوضوح من البداية. أذكّركم هنا أنّي ولمّا كان مسؤولو النظام السابق موقوفين، استقبلت أسرهم في منزلي.

كما استقبلت بعد الإفراج عنهم عدداً منهم. أنا لا يعجبني التشفّي والانتقام. ولمّا فتحت منزلي لتلك اللقاءات التي كانت معلنة، بيّنت رفضي لكلّ أشكال التشفّي واجترار الأحقاد.

المفكرة: هل يعني هذا أنّك تعاطفت مع من ينسب لهم الانتهاك وشعرت بكونهم ضحايا للنظام الجديد الذي أنت جزء منه؟

الغنوشي: فيما يتعلّق بشعوري، أنا بكلّ بساطة شعرتُ أنّنا نتوارث الأحقاد وهذا لا ينفع المجتمعات. صحيح نحن ضحايا ولكن لا نريد أن نورث أحقاداً جديدة. في الحقيقة، أنا عارضت كثيراً من الإجراءات ومنها قانون المصادرة.

كان من الممكن التعاطي مع قضايا الفساد الماليّ بأسلوب آخر، منه ترك الأموال لأصحابها وتحميلهم مسؤولية دفع تعويضات عمّا سبق من خطأ منهم. مصادرة شركات ومؤسسات كانت سابقاً تنتج وتشغّل لم تنتفع منه المجموعة الوطنية وتحوّل إلى ملف فساد كبير ودليل فشل في الإدارة.

يكفي أن نعرف هنا أنّ مؤسّسة كـ”إسمنت قرطاج” كانت قيمتها السوقية يوم صودرت ملياراً ومائتي مليون دينار. وقد أصبحت اليوم جزءاً من القطاع المفلس وعاجزة عن توفير أجور أعوانها وقيمتها لا تتعدّى مائتي مليون دينار.

لو أبقيت تلك المؤسسة وغيرها لدى أصحابها وفُرضت على هؤلاء شروطٌ وإجراءات تحقّق جبر ما تسبّبوا فيه من ضرر كانت الجدوى ستكون أكبر.

المفكرة: ما تقييمك للتعاطي الرسمي مع حقوق الضحايا؟ وهل لديك تصوّرات لحلول ممكنة لهذا الملف الذي يبدو أنّ المالية العمومية كانت أحد أسباب تعثّر مساره زيادة طبعاً عن غياب الإرادة والتصوّر؟

الغنوشي: هناك حالياً أزمة أخلاقيّة تجاه المناضلين الذي أمضوا شبابهم في السجون والمطاردة والملاحقة والمنافي وعانوا الإقصاء الاجتماعي وغيرها من المظالم.

بعد انكسار الطغيان، لم يَعترف قطاع من النخبة التونسية بحقوق هؤلاء من منطلق إيدولوجي وحساسيات سياسية. لقد أنكر هؤلاء، وكانوا مؤثّرين، حقوقهم وحقّروا دورهم في تحقيق الثورة والانتصار لها.

لا بدّ من حلّ لهذه المظلمة المستمرّة، يكون منطلقه الاعتراف بحقوق الضحايا معنوياً أساساً ومادياً حسب الممكن. يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: “إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ”.

من لا نقدر على تعويضه مالياً، نكرّمه بخطوات فيها ردّ اعتبار له واعتراف بتضحياته. ربّما تكون تلك الأمور الرمزية مهمّة جدّاً لهم ولأسرهم. لا بدّ أن نقبل بتونس متعددة ولا ننكر إسهام أيّ طرف في بنائها.

القطيعة فكرة خطرة تجعلنا كما لو كنّا في جهنم: “كلّما دخلت أمّة لعنت أختها”. لا يجب أن يسود هذا المنطق في كتابة تاريخ وطننا. من واجبنا أن نسجّل لدولة الاستقلال ورجالاتها إنجازاتهم وأن نعترف للمناضلين ضدّ الاستبداد بفضلهم وبحقوقهم. فلولاهم، لاستمرّت المحاكمات السياسية الجائرة التي لا تخلو منها فيما مضى أي سنة من السنوات.

المفكرة: بمناسبة حديثك عن المحاكمات السياسية ما تقييمك للقضاء؟ وما ردّك على الاتّهام الذي يوجّه لحزبك أي حركة النهضة بالتدخّل فيه وبجرّه لإعادة استيلاد المحاكمات السياسية؟

الغنوشي: قبل الثورة، كان دور القضاء يقتصر على التصديق على عمليات التصفية السياسية. وفي سجوننا ومنافينا، لم نكن نرى عدالة القضاء إلّا في أمثلة قليلة أهمّها القاضي المرحوم مختار اليحياوي.

بعد الثورة وعلاوة على الإصلاحات المؤسّساتية الهامّة التي عرفها القضاء، يجب أن ننتبه إلى أنّ ضعف الحكومات منع ما كان يمكن أن يكون من إعادة إنتاج سيطرة السلطة التنفيذية على القضاء.

وبذلك، إن كان من فضل لعدم الاستقرار السياسي، فهو أنّه قاد إلى تعزيز استقلالية القضاء. ونحن مع هذه الاستقلالية ونرفض أي مسّ بها.

وما يتمّ الحديث عنه من اتّهامات ليس إلّا من قبيل المناكفات السياسية التي يجب أن نتجاوزها. يجب أن نتصالح فيما بيننا ونقبل ببعضنا ولن يتحقق هذا إلّا بقراءة نقدية للمواقف والتاريخ.

المفكرة: هل تقبل أن تشمل مثل تلك القراءة تاريخ حركتكم؟ فالبعض يتّهمكم كما يتّهم غيركم من معارضي النظام السابق بالتلبّس بدور الضحية والتغطية عمّا قد يكون لكم من دور في العنف السياسي؟

الغنوشي: نحن مع قراءة موضوعية ومنصفة للتاريخ تكون مؤسّسة وتقطع مع الثنائيات السائدة والتي تقسم المجتمع إلى وطنيين وخونة وديمقراطيين وإخوانجية.

المفكرة: أنتم تقدّرون وكما جاء فيما سبق من قولكم إنّ تجربة العدالة الانتقالية لم تحقّق المطلوب منها بشكل مرضٍ. هل ما يتمّ الحديث عنه من مشروع بديل يقال إنّكم ستطرحونه كمبادرة ويسمّى المصالحة الشاملة سيكون كفيلاً بتجاوز ذلك. وما هي خصائص هذا المشروع؟ وهل سيكون في حال اعتماده بداية جديدة تقطع مع ما مضى؟

الغنوشي: لا أحبّذ فكرة القطيعة. يجب أن نبني دائماً على القائم. فنصحّح ما كان فيه من خطأ ونتجاوز ما كان به من نقيصة ونبني على ما يمثل من إيجابيات. ففي العمل على العدالة الانتقالية كثيرٌ من الإيجابيات والمكاسب التي يجب أن نحافظ عليها وندافع عنها، ومنها ما تمّ الكشف عنه من حقائق وما تمّ إقراره من حقوق للضحايا في موازاة ذلك.

إلّا أنّنا نرى بالمقابل أنّ ما كشف عنه من حقائق يبقى محدوداً ونحن بحاجةٍ لمصالحة تضمن طيّ صفحة الماضي. وعليه، المطلوب اليوم المصالحة الشاملة والتي تقوم في نظري على ثلاث ركائز هي:

أوّلاً كشف الحقيقة

ثانياً إنصاف الضحايا

ثالثاً العفو.

حالياً، هناك مختصّين في القانون ومهتمّين بملف العدالة الانتقالية يعملون على بلورة هذه الأفكار ويتدارسونها. وسنتقدّم به كمبادرة متى تمّت صياغتها وحصل توافق حولها. ومن المهمّ أن أؤكّد على أنّه لن تكون في هذه المبادرة وكما أسلفت قطيعة مع ما سبق.

لكن سيكون فيها حتماً إصلاح وتطوير وتكامل بين المشاريع، بما يخدم هذه القضية العادلة وينهي ما كان من سير في طريق لا يخلّف إلا الضغائن.

____________

مواد ذات علاقة