مقاربة سوسيو سياسية للحالة التونسية

د. عبد الكريم العراجي (الجزائر)

في هذه الورقة البحثية لا يمكننا تشخيص الظاهرة السلفية المدخلية بمعزل عن المسار التاريخي والسياسي الذي عرفته تونس بداية مع دخول .المستعمر، وما أحدثه من تغيرات اقتصادية واجتماعية

الجزء الثاني

ثانيا: تأثير السياق الدولي على نشأة السلفية المدخلية في تونس

في هذه الورقة البحثية، سنعمل على دراسة السلفية المدخلية وفق باراديغم علم الاجتماع السياسي؛ ذلك لأننا سوف نشخص واقع العلاقة بين الفرد السلفي المدخلي والسلطة السياسية في تونس، وعلاقته كذلك بالفعل السياسي والظاهرة الحزبية وعلاقته بالفضاء الخارجي والجوار الإقليمي.

وهل يمكننا أن نستسيغ فرضية مفادها أن السلفية المدخلية هي رقم مهم في المعادلة الإقليمية للمد السلفي في المغرب العربي والمدعوم من قوى لها نفوذ مالي وسياسي في العالم العربي بهدف تجفيف منابع الإسلام السياسي الأصولي.

الباحث في حقل العلوم الاجتماعية لا يهتم بالمفاهيم الكلاسيكية للحركة السلفية، بل يهتم بالمسارات التي ساهمت في تكوينها وتكوين السلفية المدخلية كان نتاج رد فعل، فيوجه الصعود الصاروخي لحركة الإخوان المسلمين في مصر والأردن والجزائر والمغرب، وانتشار التشيع السياسي في العالم العربي تحت شعار تصدير الثورة كان المثقفون العرب الشيعة هم سدنة هذا المشروع وحراسه.

لذلك لم تتأسس السلفية المدخلية كرد فعل مباشر لهذه المستجدات الدينية والسياسية في العالم العربي والإسلامي، بل كانت خيارا استراتيجيا، وتأسست في مخابر فكرية وبحثية تعتمد على كوادر بحثية متفوقة في مجال العلوم الاجتماعية والدراسات السياسية واللاهوت وخبراء في مجال الإحصاء وسبر الآراء بسبب جدية المتغيرات التي عرفتها المنطقة العربية.

وهذه المؤسسات الفكرية ليس لها حدود مستقرة، بل تعمل على صياغة استراتيجيات هيمنة خارج حدود الدول التي تنتمي إليها، وتعمل بشكل مباشر من خلال تفاوضها مع الجهات الاجتماعية المؤثرة والفاعلة في دولها مثل الحركة السلفية.

وكانت الهيئات الشرعية في المملكة العربية السعودية بمثابة جهاز تبرير للحركة المدخلية، باعتبارها تيارا يعمل على صيانة الفكر السني من الأخطار الفكرية والعقدية التي تؤدي إلى الفتنة والخراب والخروج على الأنظمة الحاكمة التي تضمن الاستقرار لشعوبها.

ويعد غزو الكويت من طرف نظام البعث العامل الأساسي في نشأة السلفية المدخلية في تونس، وسبب نشوء هذه الفئة لم يكن نتاج جهد عمل دعوي أو اجتهادات فقهية، بل سياق دولي فرضه صراع عربي عربي بين نظام البعث العلماني في العراق ودول الخليج وعلى رأسها السعودية التي تمثل السلطة الروحية في العالم الإسلامي.

لذلك يمكن القول إن السلفية المدخلية تأسست بسبب فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز الذي أفتى بجواز الاستعانة بالأجنبي في دحر المفسدة، والمتمثلة في تحرير الكويت وسرعان ما تحولت هذه الفتوى إلى استراتيجية إقليمية معتمدة من طرف المملكة السعودية، وبتنظير وتخطيط مراكز فكرية متخصصة في توجيه العقل الجماهيري والرأي العام الدولي ضد الإسلام السياسي الطامح لتحقيق نموذج دولة وفق المعايير الإيرانية، وهذا يعد بمثابة تهديد لمصالح القوى الغربية في المنطقة العربية.

العامل المؤثر في السلفية التونسية هو العامل العقدي، حيث تتجرد المدخلية من البراغماتية السياسية مثل التيار الإخواني، بل هي تعتمد على الضوابط الشرعية التي تحول دون وقوع الفتنة؛ ذلك لأنها تفتقد للممارسة السياسية، والتي ترفضها شرعا ونصا، وهي تفتقد لآليات العمل السياسي والتعبئة الجماهيرية، بل تحصر جل أعمالها في العمل الدعوي وهذا ليس من باب الاستقالة السياسية، بل من باب طاعة ولي الأمر، وهو العالم أو الفقيه الذي يصدر الفتوى من خارج الحدود والالتزام بالاستراتيجية الإقليمية.

ما يمكن استنتاجه بخصوص التشكل الإيديولوجي للسلفية المدخلية في تونس هو أنها كانت متأثرة تأثر عضوي ومباشر بطبيعة الفعل السياسي الدولي للمعارضة التونسية في الخارج المتمثلة في القوى العلمانية التي كانت ممثلة من طرف الحقوقيين؛

وكذلك حركة النهضة بزعامة الغنوشي الذي كان يقوم بتغطية دبلوماسية لحركة النهضة، وكان يعرف بقضية الحركة في عدة منابر إعلامية دولية بهدف كسب التأييد؛ ذلك لأنه كان متمرسا في السياسة وكانت له حنكة واسعة في مجال الاستقطاب الإعلامي والسياسي، وكانت له جرأة في نقد سياسات المملكة السعودية في المنطقة العربية ودعمها المباشر والصريح لنظام بن علي.

لذلك، فإن الفاعلية السياسية لحركة النهضة هي التي فرضت على السلفية حتمية سياسية وواقعية جعلتها تتعامل مع النشاط الدولي لحركة النهضة كامتداد للمشروع الإيراني وإمكانية تغلغل فكر الإخوان المسلمين في المجتمع التونسي.

والعامل الأساسي والرئيس الذي فرض تشكل السلفية المدخلية من وجهة نظرنا كباحثين في حقل سوسيولوجيا العلاقات الدولية هو أن موقف الغنوشي الداعم لنظام صدام البعثي إبان غزو الكويت جعل السعودية وحلفاءها يتخوفون من تقارب استراتيجي بين نظام البعث وحركة الإخوان المسلمين بسبب الموقف الحرج الذي عرفته المملكة السعودية، عندما استعانت بقوات التحالف الدولي من أجل مواجهة النظام العراقي.

وبذلك كانت السلفية المدخلية في تونس بمثابة وسيط بين المملكة والمجتمع التونسي، حيث عمدت على تفسير الموقف السعودي، باعتباره حافظا للوحدة الإسلامية وحاميا للمقدسات في تحديد نموذج الدولة الإسلامية، وبالتالي جاء التيار الجامي والمدخلي كحركة مضادة للصحوة الإخوانية.

هذه الثورة المضادة ضد الصحوة الإخوانية، كانت ثورة داخلية في الفضاء الاجتماعي السعودي لكنها كانت مبرمجة للتصدير من طرف الحكومة السعودية لكل الدول العربية، بعد وأد مشروع الصحوة التي كانت تعارض التقارب السعودي الأمريكي، وكانت هذه الثورة ممثلة من طرف تيار عقائدي معين، وهو تيار الجامية والمداخلة الذين كانوا يمثلون مدرسة الحديث الحليف الجديد للعائلة المالكة.

ولم تتوان المملكة العربية السعودية في نشر هذه المستجدات في باقي أصقاع العالم العربي. لذلك سخرت لكل الوسائل من أجل التعريف بالتيار المدخلي والجامي، وكانت تساهم في نشر الكتب والمطويات التي تؤكد على ضرورة اتباع هذا التيار الجديد الذي يعد بمثابة المخرج من الفتنة.

وهذا ما جعل السلفية المدخلية في تونس تلتزم بمبدأ الولاء والطاعة لولي الأمر من باب حفظ الدين وحفظ الوطن، وهنا تأسس مخيال للمداخلة يقتضي محاربة التحزب، وتقويض كل الحركات الاحتجاجية.

وهذا ما جعلها تدخل في هدنة هي عبارة عن اعتراف بسلطة النظام الحاكم، وتسخير الجهود في التغلغل في الفضاء الاجتماعي، وهذا يعود إلى حداثة السلفية في تونس من حيث النشأة والمسار التاريخي.

لذلك لم تتأثر بالنشاط الحركي للإخوان على الصعيد السياسي، بل اعتمدت على العمل الدعوي وتميزت بالخصوصية المجتمعية، وهذا راجع إلى تركيبة المجتمع التونسي الاجتماعية والثقافية التي ساهمت في تحديد معالم الحركة السلفية بكل تجلياتها وفروعها في المجتمع وعلاقتها مع الدولة ومؤسساتها.

***

د. عبد الكريم العراجي ـ أكاديمي من الجزائر

____________

مواد ذات علاقة