د. أحمد علي الأطرش

تبين هذه الورقة كيف أنه لا ينحصر السبب في عدم القدرة على بسط السيطرة، بل يكمن في توجس وعدم رغبة بعض الأطراف في إقرار وتفعيل قانون عدالة انتقالية شامل وغير انتقائي موضحة الأسباب ومناقشة تأثيرها.

الجزء الاول

من البديهي أن تفضي الثورات الشعبية على النظم الأوتوقراطية إلى مرحلة تستدعي جهود حثيثة لبناء الدولة، وليبيا ليست باستثناء، فالشواهد على ذلك كثيرة. إلا أن الحالة الليبية تستوجب قدرًا أكبر من الاهتمام والتركيز، ولعل أبرز مسوغات ذلك أن ليبيا شهدت عقودًا من العبثية والظلم والاستبداد المطلق (1969-2011) حيث جرى خلالها توظيف كافة خيراتها وإمكاناتها للتمترس في الحكم، وتكريس ذلك الواقع على حساب التنمية والحياة الكريمة للمواطنين.

كما أن الحرب للقضاء على هذه الحقبة (فبراير/شباط 2011-أكتوبر/تشرين الأول 2011)، وبغضِّ النظر عن مبرراتها وتصنيفاتها والأطراف المنخرطة فيها، كانت باهظة الكلفة، وذلك من حيث الخسائر في الأرواح والممتلكات، ناهيك عن الجرحى والمفقودين والانتهاكات والدمار، مع انتشار الأسلحة وإطلاق سراح السجناء؛ والأخطر من ذلك؛ تكلس وتفشي ثقافة ناجمة عن مناخ وسلوك استبدادي ممنهج، لعل من تداعياتها انحطاط في منظومة القيم تتمثل في الأنانية والشخصنة والانتهازية والجشع والمصالح الضيقة والفساد، وغيرها من رواسب ممارسات الأنظمة الشمولية، أي “ثقافة القبح” التي تتشكل تحديدًا من “ثالوث إهدار المال العام والشخصنة والإقصاء”.

اللافت للنظر أيضًا أن عملية الانتقال في ليبيا ليست كما هي الحال عليه في عديد الدول الأخرى التي تمر بظروف مشابهة؛ حيث تستوجب العمل على تجاوز ثلاث مراحل، وهي: من لا دولة إلى الثورة ثم إلى الدولة. كما أنه من الجدير بالملاحظة في هذا الصدد أن التجارب، وخاصة في إطارنا الإقليمي، تشير إلى أنه كلما تكرس الاستبداد، من حيث التمترس والحدة والانتشار، استعصت سبل القضاء عليه وعلى تكلساته. ولتأكيد هذه الفرضية، يمكن إجراء مقارنة لما يجري من انفلات واحتراب في سوريا والعراق واليمن وليبيا، مع الاستقرار النسبي للأوضاع في كل من مصر وتونس. هذه هي الحقيقة التي تفند أي تعميم في المقارنات الخاطئة بين دول ما تسمى “ثورات الربيع العربي” تحديدًا، والتي يجري تناولها دون مراعاة لهذه الرؤية.

تسعى هذه المساهمة إلى تسليط الأضواء على عنصر بالغ الأهمية والإلحاح، وخاصة في هذه المرحلة التاريخية الحساسة التي تستدعي مزيد الجهود للسعي من أجل صناعة وبناء السلم/الدولة، وهو: “العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية”. إن هذا العنصر/المرتكز لا يزال يشكل عائقًا كبيرًا في المسارات التفاوضية، وجهود التحول الديمقراطي وبناء الدولة، وذلك بعد انقضاء ما يناهز العقد من العبث وعدم الاستقرار، أو بالأحرى الانقياد نحو تصنيفات “الدولة الفاشلة”.

من هذا المنطلق، نحاول في هذه الورقة البحثية استجلاء السجال الحاصل في ليبيا فيما يخص الجدال حول إشكالية حسم الأولويات بين العدالة والمصالحة، وكيفية التوصل إلى رؤية تنجلي فيها هذه الضبابية المعيقة للاستقرار والتنمية، وذلك بغية المساهمة في مساعي تجاوز المأزق الراهن.

جدلية الأولويات

عند تفحص الأدبيات ذات الصلة، بما في ذلك النظر إلى الحالات المماثلة، نجد أن هناك عدة مقاربات ومدارس فكرية بخصوص مسألة الأولويات فيما يتعلق بموضوع الدراسة، والتي يمكن حوصلتها في السياق التالي:

  • هناك رؤية تؤكد على أولوية العدالة الانتقالية، وذلك من خلال وضع مرجعيات قانونية تضمن الحقوق الناجمة عن الأضرار والانتهاكات التي ارتُكبت، وتتضمن الإجراءات والأطر المؤسساتية الرسمية الراعية والداعمة لجهود المصالحات، وما ينجم عنها من توافقات ونتائج.
  • وعلى النقيض من المسار القانوني سالف الذكر، هناك رؤية أخرى تستند على فرضية مفادها أن المصالحة عملية استباقية للعدالة الانتقالية، وبالتالي لا يمكن تحقيق وتفعيل الأخيرة إلا بإجراء مصالحة وطنية شاملة. يبدو أن هذه المقاربة مستمدة من موروث ديني ثقافي مجتمعي متجذر منذ القدم. وفق هذا الفهم، نجد من يجزم بأن المصالحة يجب ألا تشمل الانتهاكات المتعلقة بالشرف والعِرض، ومن أبرزها حالات الاغتصاب والتحرش الجنسي. ومن خلال هذا التباين في الرؤى برزت مطالبات تمهيدية/احترازية مفادها ضرورة العمل على الشروع في حوار وطني يشمل كافة أطياف الشعب الليبي، وتُطرح من خلاله أبرز القضايا الخلافية، ولكن هذه المطالبات أفرزت إشكالات جديدة تدور حول عناصر جوهرية تنصب حول ماهية الجهات والأطراف المخولة لإدارة الحوار والضامنة لمخرجاته، بما في ذلك إشكالية تحديد المفاهيم، ومدى مؤامة المناخ والظروف المصاحبة لإجرائه، والتوصل من خلاله إلى مخرجات نتائج توافقية وقابلة للتطبيق.
  • وهناك توجه يمزج بين الرؤيتين السابقتين؛ أي يؤسس منطلقاته الفكرية على تلازم متوازٍ لعمليتي العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، بحيث لا يمكن تحقيق إحداهما دون الأخرى. هذا المنحى يعول أساسًا على التفسيرات والاجتهادات القانونية لهذه العلاقة، والتي تؤكد أن المصالحة جزء لا يتجزأ من منظومة العدالة، ويؤكد على حتمية التماهي بين الموضوعين، وذلك من حيث درجة الترابط والتشابك والتداخل والاعتمادية. أي بمعنى، أنهما (العدالة والمصالحة) تدخلان ضمن إطار بنية متكاملة تتمثل في العدالة الاجتماعية، ولهذا لا يمكن تحقيق نجاح لأي منهما بمعزل عن الآخر.

في تقديرنا، ومع مراعاة الحساسية المفرطة للموضوع، يمكن القول: إن توافر الإرادة والمصارحة واستجلاء الحقائق، وتجسير الهوة في وجهات النظر بغية خلق أرضية حوار وبناء الثقة، مع العمل على ترتيب الأولويات في التوافق ومراعاة الظروف النفسية الناجمة عن مرحلة النزاع، وما بعده، يشكِّل العامل الحاسم لخلق مناخ ملائم لتحقيق نجاحات بالخصوص، ولو بشكل نسبي ومرحلي.

مما سبق من توطئة، فإن المغزى من تضمين “جدلية الأولويات” في عنوان الموضوع محل البحث، هو التوصل إلى استنتاجات وأفكار مجدية، سنتطرق من ثلاث زوايا بحيث سنتناول في الجزئية الأولى العدالة الانتقالية، وفي الثانية المصالحة الوطنية، وفي جزئيته الثالثة والختامية، سنسعى إلى طرح مقترحات تتضمن محاولة لحسم إشكالية/جدلية الأولويات، لعلها تسهم في توضيح بعض اللبس الحاصل في التعاطي مع مثل هذه القضايا الحساسة.

يتبع في الجزء التالي

***

______________

مواد ذات علاقة