د. أحمد علي الأطرش
تبين هذه الورقة كيف أنه لا ينحصر السبب في عدم القدرة على بسط السيطرة، بل يكمن في توجس وعدم رغبة بعض الأطراف في إقرار وتفعيل قانون عدالة انتقالية شامل وغير انتقائي موضحة الأسباب ومناقشة تأثيرها.

الجزء الثالث

عند التمعن في الجزء المتعلق بالعدالة الانتقالية من هذا القانون، وخاصة المادتين الأولى والثانية (المشار لهما أعلاه)، يتضح جليًّا ما يكتنفه من ضبابية وانتقائية ومثالب (بعمد أو دونه)؛ مما أدى إلى خضوعه للتأويل والامتعاض، بل والرفض والإلغاء في مرحلة لاحقة. لذا، يمكن بلورة ما حدث من جدال حوله في السياق التالي:

أولًا: لقد حصر القانون، وبصياغة مبهمة، المدى الزمني لسريانه على الأفعال الإجرامية وانتهاكات حقوق الإنسان منذ تولي النظام السابق الحكم (1 سبتمبر/أيلول 1969)، وحتى تحقيق الأهداف المرجوة منه، متجاهلًا بذلك التضمين الصريح لما حصل من وقائع إجرامية من كل الأطراف، وخاصة تلك التي حاربت وأسقطت النظام السابق.

ثانيًا: لقد استثنى القانون من تطبيقاته شريحتين، يستوجب تسليط الضوء عليهما، وذلك لاعتبارات موضوعية، ووفق تقديرنا هما:

  • أن المعنيين من الأشخاص الذين تصالحوا مع النظام السابق، هم أولياء الدم لمن أُعدموا، أو ممن كانوا في السجون، أو من المطلوبين، من المعارضين له. لقد تركزت هذه الشريحة على الجماعات الإسلاموية، وعلى رأسها جماعة “الإخوان المسلمين” (التي تبنت الوسائل السلمية لتمكنها من تحقيق أهدافها وغاياتها)، و”الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة” (التي انتهجت ودعمت القوة المسلحة من أجل الإطاحة بالنظام السابق)، مع جماعات إسلامية أخرى، تعد نسبيًّا أقل تأثيرًا وانتشارًا.

عقب صراع مع النظام السابق -منذ أن استولى معمر القذافي على دفة الحكم في ليبيا عام 1969- وخاصة خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم (بشكل سري أو علني)، ونتيجة للظروف والتطورات الإقليمية والدولية المصاحبة، ومع نزوع “الإخوان المسلمين” للحوار مع النظام السابق، وتخلي “الجماعة المقاتلة” عن مقارعته بالعنف وقوة السلاح، والتي حصلت في نهاية الألفية الماضية ومطلع هذه الألفية، وإثر انطلاق ما كان يسمى “مشروع ليبيا الغد” برعاية “مؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية والتنمية” التي كان يترأسها ويوجهها سيف الإسلام القذافي (نجل “معمر القذافي”، تم التتويح الرسمي للمصالحة بين النظام السابق والجماعات الإسلاموية المعارضة له في منتصف العقد الأول من هذه الألفية.

في عام 2005، وبعد حملة اعتقالات واسعة ومكثفة طالت عناصر من “الجماعة المقاتلة”، بادر سيف الإسلام القذافي، وبتوجيه ومباركة من والده -معمر القذافي- لا محالة، بعقد جولات من المفاوضات الداعية للمصالحة ونبذ العنف والتطرف. وفي عام 2009، نجم عن هذه المفاوضات التوصل إلى اتفاق أفضى إلى إصدار “…قادة «الجماعة المقاتلة» في ليبيا “مراجعات” جديدة للجهاد في شكل وثيقة دينية من 417 صفحة بعنوان “الدراسات التصحيحية”. لقد أوضحت المراجعات الجديدة أن الكفاح المسلح ضد نظام القذافي غير شرعي من منظور الشريعة الإسلامية وأعدت إرشادات جديدة تبين متى وكيف يصح الجهاد. ومع ذلك، ذكرت هذه المراجعات أن الجهاد جائز إذا غزا العدو بلاد المسلمين، وتم ذكر أفغانستان والعراق وفلسطين كأمثلة. وقد أدى ذلك في النهاية إلى إطلاق سراح الكثير من قادة «الجماعة المقاتلة» وأعضائها من السجون في مارس/آذار 2010…”.

  •  أما الشريحة الثانية، المستثناة من القانون رقم (17)، المشار له أعلاه، فتشمل المواطنين الخواص الذين قبلوا التعويض (المادي أو العيني)، ممن صودرت ممتلكاتهم بشكل تعسفي من قبل النظام السابق، وذلك تأسيسًا على “الأفكار الاشتراكية” المستمدة من توجيهات معمر القذافي، والمقولات الواردة في “الكتاب الأخضر”.

بعد فترة وجيزة من صدور القانون (17)، أي في 2 مايو/أيار 2012، استدرك “المجلس الانتقالي” الجانب المتعلق بمن يشملهم العقاب، وذلك بقناعة منه أو تحت ضغط من قبل “الثوار” الذين شاركوا ومارسوا انتهاكات إبان حرب الإطاحة بالنظام السابق، وأصدر “قانون رقم (35) لسنة 2012 بشأن العفو عن بعض الجرائم”.

لقد نصت المادة (1) من هذا القانون على أن الإعفاء لا يسري على ما يلي:

1- الجرائم المرتكبة من زوج المدعو، معمر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي، وأبنائه وبناته أصالة أو بالتبني وأصهاره وأعوانه.

2- جرائم الحدود متى رُفعت إلى القضاء.

3- جرائم الخطف والتعذيب والمواقعة بالقوة.

4- جرائم جلب المخدرات والمؤثرات العقلية والاتجار بها.

5- جرائم تسميم المياه أو المواد الغذائية والاتجار بالأغذية والأدوية الفاسدة.

أما المادة (2) منه، فأشارت إلى أن العفو يشمل “الجرائم المرتكبة قبل نفاذ هذا القانون، وتنقضي الدعاوى الجنائية بشأنها، وتسقط العقوبات المحكوم بها، والآثار الجنائية المترتبة عليها، وتُمحى من سجل سوابق المشمولين بهذا العفو، متى توافرت الشروط التالية:

1- في جرائم اختلاس المال العام يشترط رد الأموال المختلسة.

2- التصالح مع المجني عليه أو وليه أو عفو ولي الدم حسب الأحوال.

3- تسليم المحكوم عليه أو المتهم الأشياء والأسلحة والأدوات المستعملة في ارتكاب الجريمة.

4- إعلان التوبة أمام دائرة الجنايات المختصة.

بينما ألغت المادة (3) حق العفو بموجب الأحكام الواردة في هذا القانون “إذا عاد الأشخاص المشمولون به إلى ارتكاب جناية عمدية خلال خمس سنوات من تاريخ نفاذ هذا القانون، ويعادون للسجن لتنفيذ العقوبات المحكوم بها أو ما تبقى منها بالنسبة للمحكومين منهم، وتستأنف الإجراءات الجنائية ضد من انقضت الدعاوى الجنائية بشأنهم طبقًا لأحكام هذا القانون، على أن يعلن ذلك في وسائل الإعلام المختلفة”.

عقب تولي “المؤتمر الوطني العام” السلطة التشريعية في ليبيا بتاريخ 7 يوليو/تموز 2012، وانتهاء مهام “المجلس الانتقالي” وفق ما جاء في “الإعلان الدستوري”، وذلك عبر انتخابات ديمقراطية غير مسبوقة منذ العهد الملكي، وتماهيًا مع موضوع الدراسة فيما يتعلق بما دار في أروقته، أصدر “المؤتمر”، في 2 ديسمبر/كانون الأول 2013، القانون رقم (29) لسنة 2013 في شأن العدالة الانتقالية، والذي أُلغي بموجبه القانون رقم (17) المشار له أعلاه.

نص القانون رقم (29) في مادته الأولى على مفهوم العدالة الانتقالية، وأشار إلى أن القصد في تطبيق أحكامه هو: “…معالجة ما تعرض له الليبيون خلال النظام السابق من انتهاكات جسيمة وممنهجة لحقوقهم وحرياتهم الأساسية من قبل الأجهزة التابعة للدولة، عن طريق إجراءات تشريعية قضائية واجتماعية وإدارية، وذلك من أجل إظهار الحقيقة ومحاسبة الجناة وإصلاح المؤسسات وحفظ الذاكرة الوطنية وجبر الضرر والتعويض عن الأخطاء التي تكون الدولة مسؤولة بالتعويض عنها”. كما أضاف القانون، وضمن نفس المادة منه، وفي مسعى من المشرع لتجنب الانتقائية في تطبيق أحكامه، مع قدر من التحفظ يتعلق بمن يستهدفه، أنه يشمل تداعيات “انتفاضة فبراير”، وحددها نصًّا في الوقائع التالية:

1- موقف وأعمال أدت الى شرخ في النسيج الاجتماعي.

2- أعمال كانت ضرورية لتحصين الثورة شابتها بعض السلوكيات غير الملتزمة بمبادئها.

وذلك بهدف الوصول الى المصالحة الوطنية وإصلاح ذات البين وترسيخ السلم الاجتماعي والتأسيس لدولة الحق والقانون.

أما المادة (2) من القانون فقد عرَّفت مصطلح “الانتهاك الجسيم والممنهج” بأنه: “انتهاك حقوق الإنسان من خلال القتل أو الاختطاف أو التعذيب الجسدي أو مصادرة الأموال وإتلافها إذا ارتُكب نتيجة توجيه أمر من شخص يتصرف بدافع سياسي، وكذلك التعدي على الحقوق الأساسية بشكل يرتب آثارًا مادية أو معنوية جسيمة”. في حين نصت المادة (3) على عنصر جدلي جوهري ضمن جهود المصالحات الوطنية -وهذا ما سنتطرق إليه لاحقًا في هذه الدراسة- وهو المتعلق بالجانب الزمني لمدى سريانه، حيث أشار بأن أحكامه تسري على “…الوقائع التي حدثت اعتبارًا من 1 سبتمبر/أيلول 1969 إلى حين انتهاء المرحلة الانتقالية بانتخاب المجلس التشريعي بناء على الدستور الدائم. هذا يؤكد ويضمن حق الجميع في رفع الدعاوى المتعلقة بالانتهاكات الواردة فيه حتى اللحظة، لأن إقرار دستور دائم للبلاد لم يتحقق حتى تاريخ إعداد هذه الورقة البحثية.

لقد أكد القانون في مادته الرابعة أنه يهدف إلى ما يلي:

1- الاعتراف القانوني بعدالة ثورة السابع عشر من فبراير وكونها حقًّا للشعب الليبي والإقرار بفساد وطغيان وتجريم العهد السابق.

2- الحفاظ على السلم الأهلي وترسيخه.

3- المحاسبة على انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت تحت غطاء الدولة أو إحدى مؤسساتها أو الأفراد الذين يتصرفون بالاستمداد منها.

4- بث الطمأنينة في نفوس الناس وإقناعهم بأن العدالة قائمة وفعالة.

5- تحديد مسؤوليات أجهزة الدولة أو أي أطراف أخرى عن انتهاكات حقوق الإنسان.

6- تحقيق الوقائع موضوع العدالة الانتقالية وتوثيقها وحفظها وتسليمها للجهات الوطنية المختصة.

7- إلغاء القوانين الجائرة التي انتهكت حقوق الإنسان ومكَّنت للطغيان في البلاد.

8- جبر الضرر الواقع بالضحايا والمتضررين نتيجة الوقائع التي يشملها مفهوم العدالة الانتقالية وفق هذا القانون وتعويضهم عن الأضرار التي تكون الدولة مسؤولة بالتعويض عنها.

9- تحقيق مصالحات مجتمعية.

10- كشف وتوثيق أوجاع معاناة المواطنين الليبيين في النظام السابق.

11- إصلاح مؤسسات الدولة.

كما نص القانون، فيما تبقى من مواد في فصله الأول، على مكونات وجوانب تحقيق العدالة الانتقالية، والتي شملت “المصالحات الاتفاقية” و”العفو التشريعي والعفو العام” (المادة 5)؛ وبطلان ومعالجة آثار “التشريعات الظالمة” التي صدرت في حقبة النظام السابق (المادة 6).

في سياق أهمية إجراءات متابعة وتنفيذ أحكام القانون رقم (29)، وفق رؤية المُشرع، خُصص حيز كبير منه لاستحداث آلية مستقلة تحت اسم “هيئة تقصي الحقائق”، تعرَّض خلالها لجملة من التفاصيل المتعلقة بأهدافها ومهامها واختصاصاتها وسلطاتها وإدارتها ومدة عملها وميزانيتها. أما ما تبقي من نفس القانون من مواد ونصوص فقد تطرقت لمسائل التعويضات المادية والمعنوية المترتبة على الانتهاكات التي حصلت (الفصل الرابع)، ودعم العدالة الانتقالية عبر إنشاء “هيئة رد المظالم العقارية”، وسحب الجنسية من الأشخاص الممنوحة لهم من قبل النظام السابق بالمخالفة”، و”التشجيع على رد الأموال المكتسبة بطريقة غير مشروعة” (الفصل الخامس)؛ بالإضافة إلى “أحكام ختامية” تطرقت نصوصها إلى “تجريم الامتناع عن مساعدة الهيئة” و”إلغاء القانون رقم (17)”، وإصدار لائحة تنفيذية تخص “هيئة تقصي الحقائق والمصالحة”.

يتبع في الجزء التالي

***

______________

مواد ذات علاقة