كيف تتعامل الدول والمجتمعات مع إرث ماضيها السياسي العنيف، إرث الجرائم السياسية التي ارتكبتها أو ارتكبت باسمها؟ حتى سبعينيات القرن العشرين، كانت الأجوبة المتراكمة عن هذا السؤال هي إما المحاكمة أو النسيان.
لنبدأ بالمحاكمات؛ عملت أنظمة منذ قرون على تقديم من اعتبرتهم مسؤولين عن جرائم الماضي للمحاكمة، ونفذت في حقهم أقصى عقاب، كما حدث بالنسبة لإعدام الملك البريطاني تشارلز الأول في منتصف القرن السابع عشر أو الملك الفرنسي لويس السادس عشر في نهاية القرن الثامن عشر.

وفي منتصف القرن العشرين، وعلى إثر الحرب العالمية الثانية، تم تبني خيار غير مسبوق، وهو محاكمات المسؤولين عن جرائم الحرب، ليس باسم قوانين ومؤسسات الدولة الوطنية، ولكن من طرف هيئة مارست مهمتها في إطار القانون الدولي الإنساني لمحاسبة المتهمين الذين قدموا لمحكمتي النوربورغ (جنوب ألمانيا) وطوكيو عن جرائم اعتبرت أنها لم تكن موجهة ضد أفراد يحملون جنسية دولة محددة؛ ولكنها ارتكبت ضد الإنسانية جمعاء.
لكن ظروف الحرب الباردة حالت دون استمرار هذه التجربة الجديدة، ولم تستأنف إلا في سنة 1992 وبعد سقوط حائط برلين، لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم حروب يوغسلافيا المقسمة منذ 1991. وتتالت منذئذ محاكمات زعماء سياسيين متهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية من طرف محاكم دولية استهدفت قادة من كل من رواندا، سيراليون، تيمور الشرقية، الكوسوفو، كامبوديا، والسودان.
ومنذ 1985، عرفت بعض الدول اللجوء إلى محاكمها الوطنية لمتابعة قادتها في الجرائم التي اتهموا بارتكابها في كل من اليونان، والأرجنتين، والشيلي، أو في العراق الذي حُكم على رئيسه السابق صدام حسين بالإعدام شنقا نُفّذ في حقه في نهاية 2006.
لكن المحاكمة، كجواب على جرائم الماضي، تعرضت لانتقادات كثيرة، باعتبار أنها لم تحترم شروط المحاكمة العادلة، بل كانت تجسد عدالة المنتصر، أو أنها كانت انتقائية، أو أنها لم تقدم الجواب المناسب لكيفية التعامل مع جرائم الدولة.
استخلص أوتو كرشهايمر من دراسته المستفيضة لمحاكمات الزعماء السياسيين منذ الملك شارل الأول إلى محاكمات النوربورغ، بأن وظيفة المحاكم في النزاع السياسي ليست تحقيق العدالة، بل “القضاء على الخصم السياسي للنظام الجديد اعتمادا على قواعد مهيئة مسبقا.” ومارك أوزيل اعتبر هذا النوع من المحاكمات، مركّزا على حالتي النوربورغ وطوكيو، عديم الفعالية كوسيلة لترسيخ ذاكرة جماعية معادية لعنف الدولة. 
وجيم مالموت كوتي، أحد منظري تجربة المصالحة في الأرجنتين، تراجع عن موقف سابق حول الموضوع، ورأى أن محاكمات جلادي بلاده لم تحقق أهدافها، لأنها نُظمت في ظل نفس الثقافة السلطوية التي كان من المفروض تجاوزها. هذا بالإضافة إلى الانتقادات الموجهة لمحكمة العدل الدولية لكونها أنها انتقائية، لا تحاكم إلا جلادي إفريقيا والدول الضعيفة، أو أن تكاليفها الباهظة غير عملية، ولا تسمح بتعميمها.
وفي تلك الحالات الثورية التي لم تشهد محاكمات، كانت الثورات السياسية أو ثورات حركات التحرير هي المقابل لتحقيق العقاب على المسؤولين عن النظام القديم، والتي أعطت الانطباع بأن النظام الجديد والحصول على الاستقلال هو الجواب الشافي لتحقيق العدالة، حتى في غياب طقوس المحاكم ومساطر تنفيذ العقوبات.
إلا أن المحاكمات لم تكن إلا أجوبة استثنائية، جد محدودة عدديا لجرائم الماضي؛ إذ أنه ومقابل الملايين من الجرائم التي ارتكبت باسم الدولة حتى حدود مطلع القرن الواحد والعشرين، لم يتجاوز عدد الأحكام التي صدرت بهذا الشأن المائة، ولم تنفذ العقوبات إلا في حق 17 رئيس دولة، معظمها كانت لتهم ارتكاب جرائم مالية، وليس لانتهاكات حقوق الإنسان.
لهذا، فإن نسيان الجرائم السياسية وليس العقاب على ارتكابها، كان ولا يزال، المقترب السائد الذي اتبعته الدول والمجتمعات، لتدبير هذا الإرث المحيّر. حدث هذا بغض النظر عن نوع النظام السياسي؛ فإذا كان متوقعا من الأنظمة السلطوية والشمولية أن تعمل على إخفاء أسرار ماضيها عن طريق وسائل الرقابة والتحكم التي تمتلكها، إلا أن الديمقراطيات أيضا لم تكن أكثر استعدادا لمواجهة إرث تاريخها العنيف، كما يعكسه التصلب الذي ظلت تظهره القوى السياسية المهيمنة في إسبانيا، حتى بعد انتقالها للديمقراطية، في معارضة فتح ملفات الماضي الدموي لحربها الأهلية. ولا تزال فرنسا لحد اليوم مصرّة على نسيان ماضي جرائمها في الجزائر.
تم تبني المصالحة كممارسة سياسية على ضوء التجربة الأرجنتينية الرائدة في مسار الانتقال الديمقراطي سنة 1983 كخيار بدليل للمحاكمة وللنسيان، أو كحل مؤقت في انتظار تحقيق شروط المحاكمات كإحدى المكونات الرئيسة للعدالة الانتقالية، عوض العدالة العقابية، في تدبير الماضي السياسي الأليم.
وتشمل هذه الصيغة العمل على تطبيق عدالة تعويضية في حق ضحايا جرائم الدولة والبوح بالحقيقة، والاعتراف من طرف الدولة بالظلم الذي ارتكبته، وإعادة الاعتبار للضحايا، والقيام بالإصلاحات المؤسساتية التي تحول دون تكرر الجرائم. ولهذا الغرض، أنشئت هيئات اشتهرت بهيئات الحقيقة والمصالحة وتبنته حوالي أربعين دولة. وتراكمت لدينا اليوم تجارب في المصالحة لفترة تناهز ربع قرن عرفتها دول مختلفة عبر العالم. ونظرا لكون التجارب المؤسسة لفكرة المصالحة تبنتها بداية الدول التي كانت تعيش مسلسل ومخاض التحول الديمقراطي، فقد ارتبط هذان المصطلحان، المصالحة والانتقال الديمقراطي، في الأدبيات السياسية حول هذا الموضوع.
يُفسر هذا الترابط بخصائص هذا الانتقال الديمقراطي الذي طبع التغيير السياسي الذي شهده العالم منذ بداية الثمانينيات، والذي تميز بتحول الأنظمة السلطوية إلى ديمقراطيات بدون ثورات، وبصيغ تم فيها تهييئ المشاركة المجتمعية الواسعة عن طريق الانتخابات ومأسسة فصل السلط، ولكن بدون التصفية الجذرية لبقايا النظام القديم، بل عن طريق الاعتراف لرموز النظام السلطوي ونخبه بمكانتها ودورها في التشكيلة الديمقراطية المستحدثة.
كانت الرموز المعبرة بشكل واضح عن هذه الوضعية هي أوغوستو بونتشي ودكليرك. فبيونتشي الذي ارتبط اسمه بالجرائم التي ارتكبت في الشيلي، منذ الانقلاب الشهير لسنة 1973 استمر في منصب رئيس الدولة حتى 1990 وكقائد لللقوات المسلحة حتى تقاعده سنة 1998، وحافظ على مقعده كسيناتور مدى الحياة إلى حين وفاته سنة 2006.
وبالرغم من المحاولة الشجاعة والمثيرة إلى جره للمحاكمة التي قادها القاضي الإسباني بلتازار كارزون (Baltazar Garzon) بتهم الجرائم السياسية التي ارتكبها، إلا أنها كمحاولات عددية مشابهة أخرى، فشلت جميعها، لينتهي الأمر بببينوتشي أن يموت وقد أفلت من العقاب.
وعاشت جنوب افريقيا وضعية مشابهة، حيث إن دوكليرك، F.W. de Klerk  آخر رئيس لجنوب إفريقيا العنصرية، أصبح ما بعد الأبارتايد نائب الرئيس لمدة سنتين. وتتويجيا للانتقال الديمقراطي غير الثوري وغير المسبوق الذي عرفته جنوب إفريقيا، حيث يتصالح فيه الضحايا مع الجلادين، وهم يتعايشون جنبا إلى جنب في ظل النظام الديمقراطي الجديد، حصل كل من ماندلا ودوكليرك، الضحية السابق جنب الجلاد السابق، على أكبر اعتراف عالمي من طرف العالم الليبرالي بحصولهما معا على جائزة نوبل للسلام سنة 1993.
خلقت هذه الوضعية تعايش الضحية مع جلاد لم يلق أي عقاب في ظل نظام سياسي يرد الاعتبار للجلاد، إشكالات قانونية وفلسفية وأخلاقية محيرة. ونُظم سنة 1988 لقاءا عُرف بندوة آسبن، وهي بلدة في وسط أمريكا، جمعت عددا من المتخصصين في العلوم السياسية والقانون، للبحث عن إجابات لهذه الإشكالات، وانتهت ببلورة مقاربات المصالحة في ظل عدالة انتقالية تقدم بدائل لمعاقبة المسؤولين عن جرائم الماضي، وتسمح بتحقيق التعايش السلمي بين الجلاد والضحية، وتوفر المشروعية الأخلاقية والسياسية لهذه الوضعية المتناقضة.
وكانت هذه الوصفة تهدف إلى تحقيق المصالحة التي تضمن الانتقال الديمقراطي، وتجنب العنف الثوري وتبعاته. وبالرغم من أن هذه البراغماتية السياسية التي انبنت عليها فكرة المصالحة، فقد ساعدت على الانتقال السياسي إلا أنها لم تضع حدا للإشكالات الفكرية التي لا تزال موضوع جدالات وتقييمات.
على المستوى القانوني، ظلت العدالة العقابية تشكل ركنا أسياسيا في صلب مبدإ العدالة. وتعتبر العدالة الأنوارية التي أسهم الفيلسوف إيمانويل كانط في التنظير لها، أن الجريمة يجب أن تعاقب لأن الجرائم متنافية مع فكرة العدالة، وجزاء الجريمة هو العقاب الجنائي، وأنه وانطلاقا من المساواة، وهو مبدأ أنواري آخر، فلا يمكن أن يكون هناك تمييز بين مرتكبي الجريمة. وبما أن الجميع متساوون أمام القانون، فيفترض أن يشمل مبدأ المساواة هذا الدولة، الدولة أيضا عندما تكون مسؤولة عما ترتكبه، وأن تتلقى الجزاء المستحق عن أفعالها.
ولم تجد بدائل العدالة العقابية موقعا لها في العدالة الليبرالية. ولذلك، فإننا لا نعثر على إحالات مباشرة لفكرة العدالة الانتقالية في النصوص الرئيسة حول الموضوع. ليس هناك إشارة لها مثلا في النقاش العميق والغني حول العدالة بين جون رولس وأمارتيا سن. 
لكن، وبالرغم من هذه اللامبالاة من طرف الفلاسفة، إلا أن مقاربة أمارتيا سن العملية، تسمح بمنح الاعتبار للعدالة الانتقالية، انطلاقا مما تتمكن من تحقيقه من إنجازات على الواقع،وليس من معيار الطموح الطوباوي لفكرة العدالة المثالية التي يتبناها رولس وينتقدها سن.
وجد الفلاسفة صعوبة في ترسيخ فكرة المصالحة. اعتبر كل من جاك داريدا وبول ريكور بأن الدين، ونصوص وطقوس الديانات الإبراهيمية بالخصوص، وفرت مخرجا لعجز الفلسفة العلمانية على ترسيخ فكرة المصالحة. لكن يبدو أنهما بالغا في تأثير الدين على مسلسل المصالحة التي شهده العالم منذ الثمانينيات. إذ، وباستثناء جنوب إفريقيا، فإن باقي التجارب لم تستلهم ممارساتها في المصالحة من الدين إلا بشكل ثانوي، أو أنها، وكما الأمر في المغرب، وهي الدولة الإسلامية السباقة في هذا المجال، كانت تجربة في مصالحة علمانية بامتياز.

___________________

مواد ذات علاقة