عبد الحي مؤدن

على المستوى السياسي، كانت فكرة العدالة الانتقالية غير مسبوقة ليس في دفعها للتعايش بين الأعداء فحسب، والتي هي حالة عادية في الممارسات السياسية، ولكن في كونها لم تنزع المشروعية السياسية بشكل كامل عن جلادي الأمس، بل حُصرت الانتقادات الموجهة لنظامهم في حجم العنف المبالغ فيه، وفي جسامة الانتهاكات التي أشرفوا عليها أو سمحوا بها، أو خططوا لها وبرروها، والتي أعفي جلهم من تبعاتها القانونية.
تميزت تجربة المصالحة عن سابقاتها بكون أن التعايش بين الجلاد والضحية الذي حققته، لم يكن اعترافا بالهزيمة من أحد الأطراف المتخاصمة، بل اعتُبر مخرجا ضروريا لتحقيق عملية التجاوز السلمي للسلطوية، ولترسيخ شروط الانتقال إلى الديمقراطية. من الممكن قراءة هذا التعايش الذي تم تحمله على مضض، كمظهر آخر للسياسة ما بعد- الحداثية، والتي لا ترفض مبدئيا التعايش بين الأضداد في ظل ممارسات التعددية، والتسامح، والحرية الفردية، والاختلاف بين الهويات، والنسبية، واللامبالاة الأخلاقية، واللا- تسيس. في هذا الموزاييك من التناقضات، فإن التعايش السلمي بين الجلاد والضحية لا يثير نفس حدة الاستنكار والرفض والمعارضة التي تتسم بها السياسة الحداثية أو التقليدية.

لكن التقييم الأكثر أهمية لتجارب المصالحة لن يقتصر على مظاهر السياسة ما بعد- الحداثية هاته، والتي بدأت علامات عيائها تظهر في تراجع ثقافة التوافقات والحلول الوسطى، إلى تبني الصراع والمواجهة الحادة. يبرز هذا التحول سواء في الكونغريس الأمريكي المنشق بين جمهوريين وديمقراطيين لا يتفقون على شيء، أو في الساحة المصرية بعد الربيع العربي القصير العمر والعودة المفاجئة للاقتتال وللاعتقالات السياسية والمحاكمات العسكرية. إن تقييم تجارب المصالحة، باعتبارها مقتربا سياسيا للتدبير السلمي لعملية التغيير السياسي، وللتفكيك الدؤوب للمؤسسات وللأجهزة السلطوية، ولتعويض ثقافة التحكم والتسلط سواء على مستوى الدولة أو المجتمع بقناعات التعايش التعددي في ظل الحرية والتنافس السلمي، يتطلب قراءة وتحليل إنجازات وإخفاقات تجارب المصالحة في الميدان. يتطلب أيضا تحديد مدى توفر الحاجة إلى المصالحة في سياقات سياسية وتاريخية مختلفة عن سياقات نشأتها، وهي سياقات الدمقرطة في أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا.
أريد أن أنبه إلى أنه بالإضافة إلى سياق الانتقال الديمقراطي، فإن تجارب المصالحة تم تبنيها أيضا كوسيلة لتدبير الخروج من حروب أهلية دموية، والبحث عن تحقيق التعايش السلمي بين فئات مجتمعية عاشت فترة الاقتتال فيما بينها، وتوصلت إلى ضرورة وضع حد له والبحث عن صيغ لطي صفحة الماضي الدموي دون اللجوء إلى العدالة العقابية التي لم تكن ممكنة بسبب فظاعة حجم الجرائم والضحايا، والأعداد الهائلة للمتهمين بارتكاب المجازر. في رواندا مثلا، شهدت إبادة جماعية سنة 1994 ذهب ضحيتها حوالي مليون من مجموعة التوتسي، وهو ما يعدل 20 في المائة من سكان هذا البلد الإفريقي المنكوب. وشاركت في عملية القتل أعدد كبيرة من ميلشيات الهوتو، وبلغ عدد من ألقي عليهم القبض منهم لتقديمهم للمحاكمة 130.000 متهما، دون احتساب أعداد كبيرة إضافية من الهاربين، وهو ما جعل من اللجوء إلى العدالة أمرا مستحيل التحقيق، ودعت إلى البحث عن بدائل للعدالة العقابية وعن صيغ عملية للدفع إلى التعايش السلمي بين الجلادين والضحايا.
كانت أهم إنجازات المصالحة هي أنها واكبت الانتقال الديمقراطي، وجنبت مجتمعاتها المواجهات الدموية التي هناك قناعة بأنه ما كان بالإمكان تجنبها كثمن للتغيير السياسي، ووفرت في حالات الحروب الأهلية مخارج من أوضاع بالغة التعقيد. ارتكز الجدل في قراءة هذه التجارب في مرحلة أولى على مدى كون أن إفلات الجلادين من العقاب كان هو الثمن الضروري للمصالحة، لكن، في البلدان التي قُدّم للمحاكمة فيها مسؤولون كبار عن جرائم سلطوياتها على غرار الأرجنتين والشيلي، خفت حدة هذا الجدل أو تغيرت إشكالاته للتساؤل عن جدوى المحاكمات وشموليتها ودورها الفعلي في ضمان ترسيخ ثقافة العدالة الليبرالية.[10] أما بالنسبة لجنوب إفريقيا، والتي تجنبت المحاكمات، فإنه، وفي الوقت الذي لا يزال مانديلا يمثل رمز النهاية السلمية للأبارتايد، ويحظي من أجل ذلك بالكثير من التقدير، إلا أن حصيلة إنجازات دولة ما بعد الأبارتايد لا زالت هدف انتقادات حادة، ليس فقط لكونها شرعنت إفلات الجلادين من العقاب، ولكن أيضا لأن المصالحة لم تقدم بدائل مقنعة للتفاوت الاجتماعي بين السود والبيض، والذي كان يعتبر أبرز مظاهر العنف البنيوي المؤلم في النظام القديم، واستمر مترسخا في ظل النظام الديمقراطي الجديد.
تخرُج تجربة المصالحة في المغرب عن سياق المصالحة ما بعد الحروب الأهلية، لأنها لم تعش تطاحناً مجتمعيا في ظل دولة ضعيفة أو غائبة. وتختلف التجربة المغربية عن أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا، لكونها لم تتم خلال مرحلة ترسيخ الدمقرطة، بل إنها تمت في إطار “لبرلة السلطوية”، والتي تعني الإصلاحات التي تهم توسيع حرية التعبير والتنظيم والتعددية الحزبية وإجراء انتخابات تشريعية ومحلية. إلا أن هذه الإصلاحات لا تمس صلب النظام السلطوي الذي يبقي في يد حاكم مركزي غير منتخب يحتكر القرارات الاستراتيجية، ومؤسسات لا تعرف ممارسة فعلية لفصل السلط، وانتخابات لا تهدد هذه الاستمرارية السلطوية.
وكما كان الأمر بالنسبة لتجارب المصالحة على المستوى العالمي، فإن الفكرة كانت جديدة كل الجدة على المؤسسات والممارسات والثقافة السياسية في المغرب. يقترب تبني مسلسل المصالحة في المغرب من منطق فكرة الانتقال، والتي تبلورت بدايتها مع تحقق قناعة لدى الإصلاحيين في قلب النظام السياسي بقيادة الملك، والمعتدلين البراغماتيين من فصول المعارضة بقيادة ادريس بنزكري، واللذين كان لهم الدور الحاسم في تدبير مراحل المصالحة إلى حدود وفاة بنزكري سنة 2007.
وعلى غرار ما حصل على المستوى العالمي، فإن الأفكار المرتبطة بالمصالحة والعدالة الانتقالية والحقيقة كانت تخلو في المغرب من ترسيخ فلسفي، وظل النقاش محصورا في المغرب في الجدل حول المساطير القانونية وحول تأويل وتقييم حسابات البراغماتية السياسية. لكن الطابع المميز على المستوى العالمي للصيغة المغربية للمصالحة هو تفردها بأنه تم تبنيها في ظل نفس النظام القائم، بالرغم من أنها اعتبرت أن مهامها والتوصيات التي خلصت إليها تشكل خطوات عملية في خلق توافق بين المجتمع والدولة حول ضرورة التخلص من ممارسة العنف اللا- مشروع، وتبني حقوق الإنسان كإطار للتدبير السياسي، وهي كلها التزامات توفر مبدئيا أرضية عملية صلبة لانتقال ديمقراطي سلسل عند تبنيه.
على المستوى العالمي، ظل الجدل حول قيمة تجارب المصالحة في العالم ينصب على تقييم مدى مساهمتها في مواكبة الانتقال الديمقراطي الذي كان انطلق قبلها، وبدورها في تضميد جراح الحروب الأهلية وإعادة ترميم التلاحم الوطني السلمي، وبأهمية التكاليف التي تطلبتها هذه المصالحة على مستوى التضحية بالعدالة العقابية وبالمساواة الاجتماعية. أما بالنسبة للمغرب، فإن الجدل حول تجربة المصالحة ظل يركز على مدى كون المصالحة، وضعت حدا نهائيا لعنف الدولة اللا- مشروع، ودورها في إعطاء انطلاقة لانتقال فعلي للديمقراطية، أم أنها لم تكن لا توهيما سياسيا سعى إلى شرعنة سلطوية ودفعها إلى تبني إصلاحات شكلية تعفيها من الرضوخ لشروط الدمقرطة التي تتطلب فصل السلطات وتقييد كل الفاعلين بسلطة القانون.
إن المختبر السياسي المغربي لا زال لم يفرز بعد إجابات جازمة. وحتى الإصلاحات التي تبناها دستور 2011، وتجربة أول انتخابات وحكومة في ظل الدستور الجديد، لا تسمح باستنتاجات نهائية محسومة. بالرغم من ذلك، يمكن الإقرار بأن الصيغة المغربية للمصالحة تُعرف على المستوى العالمي بإنجازاتها في مجال جبر الضرر، حيث إن جل الضحايا حصلوا على تعويضات، على خلاف التعثر الذي شهدته باقي التجارب الدولية في هذا المجال.
بالمقابل، لا يمكن الجزم في كون أن أسباب التعثر الذي يعرفه التنفيذ الكامل لتوصيات الهيئة في مجال الإصلاحات المؤسساتية المتعلقة بالأجهزة الأمنية، ومشاريع حفظ الذاكرة، تعود إلى موقف مبدئي نهائي رافض لهذه البرامج، أو إلى بطء بيروقراطي لا يحتاج تجاوزه إلا للمتابعة المثابرة.
لكن الإشكال الأكثر أهمية يتعلق بالعلاقة بين المصالحة والدّمقرَطة على المستوى النظري، وعلى مستوى التحولات السياسية التي يشهدها العالم، منذ نهاية موجات الانتقال الديمقراطي للأنظمة العسكرية اللاتينية، ونهاية الأبارتايد، تسمح الأحداث السياسية المرتبطة بالموضوع بإثارة قضايا جديدة. إن مسلسل الانتقال الديمقراطي الذي عرفته أوربا الشرقية على إثر سقوط حائط برلين، أظهر غياب الحاجة إلى فكرة المصالحة؛ ففي الوقت الذي انهار فيه النظام الشمولي، لم تتبن أية دولة في أوروبا الشرقية خيار المصالحة. وعوض مساءلة جرائم الدولة الشمولية، فقد عملت أوربا الشرقية، مع بعض الاستثناءات، على طي صفحة الماضي بسرعة.
وفي الاتجاه المعاكس، فإن مسار المحاكمات الدولية لم يحقق إلا نجاحات محدودة، إذ لا يزال العديد من رؤساء الدول المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية يتمكنون من التحصن بحدود دولهم، وبحماية حلفائهم للإفلات من العقاب. وبالرغم من الحماس الذي يعبر عنه المدافعون عن المحكمة الجنائية الدولية، والتفاؤل الذي يبدونه بشأن آفاق المحاكمات الدولية كأداة لمواجهة جرائم الدولة، بديلة أو موازية لمسارات المصالحة والعدالة التعويضية، إلا أن هيمنة القوى الكبرى على مسلسل المحاكمات الدولية، واستمرار توفر الإمكانيات للدولة القومية للتهرب من القانون الدولي وحماية رؤسائها، يؤدي إلى التوظيف الانتقائي والمحدود، بل والمتنافي أحيانا مع شروط المحاكمة العادلة والشاملة.
منذ مطلع 2011، نادت العديد من الدعوات في غمرة الرجة الثورية التي يشهدها العالم العربي إلى تبني المصالحة والعدالة الانتقالية كوسيلة لتدبير الانتقال السياسي ومعالجة ماضي الدولة العنيف في تونس، ومصر واليمن وليبيا. إن مصير هذا التوجه نحو المصالحة في هذه البلدان يبقى غامضا، بسبب التقلبات السريعة في مواقف الفاعلين الرئيسيين ما بين البحث عن صيغ التعايش السلمي في ظل التعددية والعمل على إضعاف وإنهاك الخصم، بل واستئصاله. في حالة أجرأة خيار المصالحة، سيكون التحدي هو الدور التي ستلعبه في تدبير مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، أو مواكبة الانتقال الديمقراطي. سيبقى النموذج المغربي في المصالحة متميزاً على هذين المسارين، ذلك أن الظروف السلمية البعيدة عن التطاحن السياسي المتوتر الذي يصل إلى الاقتتال الدموي الذي أفرزته الثورات، سمحت في المغرب بالاستقرار المناسب للتفكير في شروط المصالحة وتهييئها وأجرأتها.
إن المصالحة سمحت في المغرب بالتعرف على حقيقة عنف الدولة، وأسهمت في توسيع الوعي بآلام هذا العنف وضرورة نبذه، وهذه كلها شروط ضرورية لتفكيك الاستبداد وثقافته، وبالرغم من أنها لا تضمن انتقالا ديمقراطيا سلسا وبدون توترات ومخاطر، إلا أنها وبكل تأكيد، لا تعرقل تحقُّقه.
____________________

مواد ذات علاقة