محمد بن محمد الخراط

ما الذي يشرع للحديث عن العدالة: الواقع أم الحلم، الموجود أم المنشود؟ وما الذي يجيز حصر المفهوم في كلمات، إذا كانت المفاهيم نفسها تتحرك أسرع من اللغة؟ وكيف نضبط مفهوما هو من الاتساع، حيث لابد من محاصرته بمجال أو سياق؟ فالعدالة تنتمي إلى مقام القيم، وهو مطلب ينشد الكلي أكسيولوجيا، أضف إلى هذا أن للعدالة وجوها: في المجتمع والسياسة والقضاء والوجود وما بعد الوجود… ومن خصائص الإنسان، أنه يتجاوز الفعل إلى تقييم الفعل، ويتجاوز البحث عن الكائن إلى البحث عما يجب أن يكون.

يذهب أفلاطون في محاوراته إلى أن العدالة هي رأس الفضائل، ويجزم أرسطو بأن العدالة هي الفضيلة التامة؛ أي مجموع الأخلاق التي تجعل المرء يتجاوز في تصرفاته الفاضلة رعاية مصالحه إلى رعاية مصالح الغير. فهذا التصرف وحده هو الذي يكفل للإنسان أن يكون عادلا. إن العدالة في التصور الأرسطي هي ذلك النور المشع الذي يتخطى الإنسان إلى غيره من بني جنسه؛ فلا يجوز أن يكون مقصورا على مصلحة فردية، ولذلك فالعدل عند أرسطو هو أعظم صفات الفعل الإلهي.

وقد تعرض المتكلمون المسلمون لقضية العدل الإلهي، ولا سيما أهل الاعتزال؛ ففي الوقت الذي اعتقد فيه الأشاعرة أن أبرز صفات الله هي أن يكون عالما قادرا مريدا يفعل ما يشاء، ألح المعتزلة في أن أولى صفات الله بالاعتبار هي العدل، بل هي صفة مقدمة عندهم على التوحيد؛ لأن موضوع التوحيد مقصور في النظر إليه على الذات العلية. أما العدل، فصفة مجال تصورها هو المخلوق؛ أي عدالة الله في الكون وما برأ من الخلق.

خلاصة التفكير الفلسفي والنظري للعدالة أنها قيمة ذات تمثّلين:

-التمثل الأول هو العدالة بوصفها قيمة مطلقة؛ أي هي الصفة التي تؤسس المطابقة مع الحق وتبني التجسيد له. وإذا اعتبرنا الحق قيمة أخلاقية، مؤسسا لها عقليا، صار بإمكاننا اعتبار العدالة ذات طبيعة عقلانية كما تصورها أفلاطون في الجمهورية لما ذهب إلى اعتبارها فضيلة شاملة أسها المواءمة بين قوى النفس وقوى المجتمع؛ حيث يكون العدل هو أن يقوم كل فرد بالوظيفة التي أنيطت إلى عهدته، والتي وجد من أجلها بغية كمال المدينة.

-التمثل الثاني هو العدالة بوصفها قيمة نسبية مرتهنة بالواقع والتاريخ، بالآن والهنا؛ أي مرتبطة بمرجعية ثقافية وأنظمة قانونية من أجل تحقيق مبدأي المساواة والإنصاف. فإذا كانت المساواة اليوم مطلبا طبيعيا من عوارض البداهة، فإنها بالأمس لم تكن كذلك حين كان صاحب الدار مقدما على الغريب، والمؤمن أولى من الكافر، والرجل أحق بالاعتبار من المرأة، والحر قبل العبد….

وإذا كانت المساواة في الحقوق والحريات والفرص وأمام القضاء تغري بتبني هذه القيمة على أساس أنها مطلب شمولي كوني، فإن كثيرا من الفلاسفة أعلنوا إفلاسها في مجال المنافسة الاقتصادية والتملك؛ لأنها أدت إلى هبوط مادي وتنافسي اقتصادي مريع، ونشرت روح التواكل والخذلان.

يقول إيريك فايل: “إن العدالة دون مصلحة وهم”. فهل نلوذ بخيار جون راولس الذي تمثل العدالة كإنصاف واشترط لها شرطين؛ الأول هو المساواة في الحقوق والواجبات والحريات؛ والثاني هو اللا مساواة في الثروة والسلطة؟ هل نؤكد ما سبق لأرسطو أن بينه في كتابه عن الأخلاق النوقوماخية من أن “العدالة مساواة فقط بين المتكافئين واللا مساواة عدالة بين اللا متكافئين”؟

الأمر المؤكد في حاصل نظرنا، أن العدالة موضوع إشكالي، بل مفهوم ملتبس ومترجرج لا بين اعتبارها من جنس الحق الطبيعي من جهة، واعتبارها من جنس الحق الوضعي من جهة أخرى فحسب، وإنما أيضا من جراء تلون مدلولها بين مختلف التشريعات والقوانين. فإذا كان القانون تمليه أوليغارشية غاشمة أو كان موضوعا بين يدي طبقة مستبدة، فإن العدالة تتلاشى وتخبو جذوتها،

وهذا يعني أن العدالة تستمد كنهها من طبيعتها الإلزامية المفروضة عبر منظومة قانونية شرعية، تضمن الحقوق في نطاق الوجود الاجتماعي على أساس أنها قيمة إنسانية وحق مشروع للحياة الحرة التي أسس لها العقل لا القوة وقبل بها الجميع منظومة تحقق المساواة والإنصاف، وتضمن الاستقرار والاستمرار. وهذا الإطار السياسي – القانوني هو الذي تضمنه الديموقراطية كنظام اجتماعي وسياسي يأمل من خلاله الناس في الوجود والعيش المشترك في كنف الاحترام والحرية.

لكن الديمقراطية لم تكن هي النظام الذي يعم معظم أرجاء المعمورة ولا كانت المنظومات القانونية والحقوقية منظومات ذات أولوية في كثير من دول العالم؛ لقد عرف التاريخ أكثر ما عرف الأنظمة الامبراطورية والأنظمة الملكية، وهي في معظمها أنظمة سياسية استبدادية فردية، سواء أضفت على نفسها مبدأ التفويض الإلهي أو مارست القهر عنوة أو اتخذت تبريرا آخر.

ولم تصبح الديموقراطية مطلبا فعليا في مستوى القواعد كما في مستوى هرم السلطة السياسية، إلا مع انهيار الديكتاتوريات في العصر الحديث وبداية انتقال الكثير من البلدان والأمم إلى مسارات التحول الديموقراطي؛ فكان ذلك مدعاة للخوض في قضية العدالة الانتقالية.

هي إذن، قضية حديثة ارتبطت بالبلدان والأمم التي تتطلع إلى القطع مع ماضيها الاستبدادي من أجل إعادة البناء السليم والمهيكل في ضوء المسار الحقوقي والديموقراطي، وهذا يعني أن مفهوم العدالة الانتقالية لم يتبلور إلا بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما منذ بدأت المحاكمات المتصلة بحقوق الانسان في أمريكا اللاتينية ثم في أوربا الشرقية، وعبر إنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة في جمهورية جنوب إفريقيا التي كان هدفها الرئيس فضح جرائم الميز العنصري.

وبعد تجربة رواندا ويوغسلافيا، تشكلت منظومة من المعايير القانونية لتحقيق العدالة التي تساعدها على المضي قدما نحو البناء الديموقراطي، فضلا عن التجربة المغربية الرائدة في هذا المجال.

وهكذا اتخذت العدالة صفة “الانتقالية” لوسم المرحلة الزمنية لا لوصف العدالة بما هي قيمة إنسانية كونية. وباتت هذه العدالة الانتقالية اليوم مطلبا لهذه الأصقاع التي هبت عليها رياح الربيع العربي، وسقطت فيها ديكتاتوريات من أعتى ما عرف التاريخ الحديث ظلما وقمعا وانتهاكا لحقوق الانسان.

كانت صنوف القمع والاستعباد والاقصاء التي مورست على الإنسان بآلة البطش البوليسي والتضييق السري إبان تلك الديكتاتوريات تتجاوز العذاب المادي بواسطة الحبس الانفرادي والتنكيل بحرمة الجسد، وتتجاوز التعدي على حقوق الإنسان بحرمان من اعتبر مذنبا من أبسط حقوقه المدنية، وهي المحاكمات العادلة والترافع للدفاع عن النفس؛ فقد كان السجن آليا والنفي جبريا والحصار علنيا وسريا، كانت صنوف التعذيب وضروبه تتجاوز ذلك إلى المراهنة على منع القوت وتسليط سياط البطالة القسرية أنى يممت، وتوسيع دائرة التنكيل والتسلط والابتلاء لتشمل الأهل والصحب الأقرب فالأقرب.

كانت العدالة الانتقالية إذن، مجموعة من الخطوات الإجرائية والآليات التي تتبعها دول خرجت لتوها من ذلك العسف والاستبداد من أجل مواجهة إرث ثقيل من الجرائم والانتهاكات الاخلاقية والحقوقية، حتى نحاسب من ظَلم ونرد الاعتبار لمن ظُلم، ونمنع عودة أشباح الجور والقهر والظلم.

إن الديموقراطية لا يمكن لها أن تترسخ وتشد أزرها – في سياق ما تبلور من تصور عن العدالة الانتقالية – إلا بعد تصالح البلد المكلوم مع نفسه وآلامه، وبناء المستقبل لا يطيب لأحد، ما لم ينقشع ضباب الفظائع السالفة، ويكون ذلك عبر مسار قضائي وغير قضائي وبواسطة مراحل أهمها:

-المحاكمات (التحقيق في جرائم حقوق الانسان ومحاسبة المتورطين…).

-البحث عن الحقيقة والتقصي الدقيق لما حصل من انتهاكات بشرية ومالية وأخلاقية وفكرية ونفسية…

-التعويض وإعادة الاعتبار للضحايا.

-اتخاذ التدابير والإجراءات الكفيلة بعدم تكرار سيناريوهات الماضي، واتخاذ الوسائل اللازمة لإصلاح المؤسسات.

-تكريم الشهداء والضحايا وتخليد ذكراهم.

لكن دون تحقيق هذا المطمح عراقيل وملمات، لابد من الوقوف عندها حتى لا تصبح العدالة الانتقالية مجرد شعار سياسي يرفع مع الحملات الانتخابية، ويعود الى الحياة مع كل طلب للمعونات الدولية.

***

محمد بن محمد الخراط ، باحث تونسي حاصل على الدكتوراه في الحضارة حول موضوع: “تأويل التاريخ العربي عند بعض المفكرين المغاربة المعاصرين”. عضو بوحدة البحث “اتصال العلوم وانفصال في الثقافة العربية” كلية الآداب بسوسة، وأستاذ الحضارة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس. نشرت له مجموعة من المقالات والدراسات العلمية.

__________________

مواد ذات علاقة