محمد بن محمد الخراط

ما الذي يشرع للحديث عن العدالة: الواقع أم الحلم، الموجود أم المنشود؟ وما الذي يجيز حصر المفهوم في كلمات، إذا كانت المفاهيم نفسها تتحرك أسرع من اللغة؟ وكيف نضبط مفهوما هو من الاتساع، حيث لابد من محاصرته بمجال أو سياق؟ فالعدالة تنتمي إلى مقام القيم، وهو مطلب ينشد الكلي أكسيولوجيا، أضف إلى هذا أن للعدالة وجوها: في المجتمع والسياسة والقضاء والوجود وما بعد الوجود… ومن خصائص الإنسان، أنه يتجاوز الفعل إلى تقييم الفعل، ويتجاوز البحث عن الكائن إلى البحث عما يجب أن يكون.

الجزء الثاني

إذن، ماذا يقتضي تفعيل العدالة الانتقالية؟ من أجل أن تصبح العدالة الانتقالية مسألة راهنية مفعلة، لا بد في رأينا من أن نوفر أطرا وأسسا تضمن هذا التحقيق والتفعيل، حتى لا يصبح الشأن كمن يخرج للرماية ولم يملأ الكنائن. وأول الشروط التي من شأنها أن تفعل العدالة الانتقالية وتربط بين حلقتي البطان في موضوع التحول الديموقراطي، هو وجود نظام اجتماعي سياسي مستقر من جهة شعور الفرد بقوة الدولة، وشعور السلطة الحاكمة بخضوع الفرد.

وعلاقة الحكم بالطاعة هذه لا تنجح إلا حين تستطيع الدولة تلبية حاجات المواطن، ولا سيما الحياتية منها كالعمل وتحسين القدرة الشرائية وحرية التعبير وتوفر الخدمات الصحية… حينها يمتثل الفرد للهيئة الحاكمة ويقوم بما عليه من واجبات في الأداءات والانتخابات واحترام النظام العام. وفي مجتمعات، مثل تونس ومصر لا تبدو الأوضاع مهتزة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم مشوبة بالشك وانعدام الثقة فحسب، وإنما هي إلى ذلك ممزقة بفعل عودة النعرات القبلية والجهوية التي لم تغب في التاريخ العربي القديم والحديث خاصة “وأن أغلبية الأحداث السياسية والعسكرية والدينية التي تطبع الصراعات في بلدان الجنوب تحركها نوازع “ما تحت وطنية” كالقبلية والإثنية والطائفية.

هذه المحددات التي كثيرا ما تكون متداخلة أو متعاقبة، تمثل القاسم المشترك لأغلب هذه المجتمعات”[3] فضلا عن هشاشة تجارب البناء الوطني والتحريكات الخارجية التي تزيد من تعميق بؤر التوتر.

ومتى انعمنا النظر أكثر لاحظنا دون شك صعود تشكيلات دينية متصلبة هي إلى الانغلاق الفكري أقرب منها الى روح الايمان وسماحة الدين. والأنكى من ذلك أن هذه الحركات لا تدخل في مواجهة مع السلطة الحاكمة بقدر ما تدخل في صراعات مستترة مع المواطن العادي؛ أي مع الخيار التاريخي للفرد التونسي أو المصري ثقافيا ودينيا واجتماعيا، ذلك المواطن المعتدل الذي ورث إسلامه بعفوية وسلاسة وفهمه وتمثله تاريخيا بلا زرع قسري لمنظومات فكرية بدوية لا علاقة لها بمنطقة المتوسط وتاريخه المفتوح حضاريا.

أما تلك الحركات الدينية – السياسية، فغايتها مرتهنة باستلام السلطة أو باخضاع من يمتلكها لتنفيذ مشروعها الماضوي، وهو تطبيق الشريعة. وتتناسى هذه الحركات أو لعلها تنسى أن هدفها هذا لم يكن يوما وليد الضمير الإسلامي الجمعي، لأن إسلام المجتمع كان على الدوام معطى موضوعيا وأمرا تاريخيا وحقيقة تتحرك واقعيا، وليس وجهة نظر مسقطة أو تفرض قسر إرادة الإنسان.

والشرط الثاني لنجاح هذه العدالة والتمكين لها في أرض الواقع هو توفر نظام قضائي صلب ومحل ثقة؛ على أن النظام القضائي الموروث عندنا قد لاثته يد النظام السابق بلوثة الارتشاء، حتى بات الفرد عاجزا عن تصديق أي قاض ولو أقسم في محراب الأنبياء. والأنظمة السياسية التي تحكمنا في هذه الفترة الانتقالية بعد الثورات العربية الأخيرة، لم تستطع أن تقاوم التيار السابق لأنها بحكم العدوى صارت جزءا منه، وكأن المعارضة التي يطول أجلها في مربع المعارضة لابد أن تصيب شيئا من أخلاق النظام الذي طالما حاربته، بل تجد نفسها بعد وجيز أمد جزءا من آليات متناغمة للبيروقراطية والحسابات الحزبية وتلبية استحقاق الولاءات وتصفية الحسابات، وتغرق في غمرة انتصار الأغلبية لينتهي المواطن إلى محاربة ما سماه جون ستيوارت ميل استبداد الأغلبية. يقول الفيلسوف الانجليزي: “…

في إطار التأملات السياسية نضيف الآن استبداد الأغلبية إلى عدد الشرور التي يجب أن نحمي منها المجتمع. وشأن استبداد الأغلبية شأن غيره من أنواع الاستبداد أنه يوحي منذ البدء بالرعب ولا يزال عموما كذلك، لأنه يتراءى قبل كل شيء من خلال أعمال السلط العمومية”[4]. والتنظيمات السياسية الحاكمة الموجودة في مصر وتونس الآن- وهي تنظيمات ذات مرجعية دينية- ترفع باستمرار شعار الأغلبية على أساس أنه مبدأ ديموقراطي، وهو إنما يخفي لونا من ألوان العسف والاستبداد الذي حدثنا عنه جون ستيوارت ميل.

ولا بد من إصلاح القضاء حتى نضمن حرمته، ونجعل أحكامه مسلكا إلى تحقيق المساواة والإنصاف وضمان الحقوق بعيدا عن الإكراهات المادية والنفسية، لأن استقلال القضاء قيمة أولية في العمل الديموقراطي وضمان حقيقة دستوريتة، وهي القيمة التي تساعد على الاستقرار والتماسك الاجتماعي والأخلاقي، فضلا عن القيم الكلية السامية. فإذا انفلت القضاء من استبداد الفرد ووقع في براثن استبداد الأغلبية كان أمره كمن يستجير من الرمضاء بالنار.

إذن، لا بد من تقوية القضاء كمؤسسة دستورية والعمل على تحييد النيابة العمومية عن وزارة العدل، وتحييد وزارة العدل عن أي مجلس أعلى للقضاء ينتخب ليكون ضامنا لاستقلال المهنة، بل لا بد من تكوين إطار جديد للقضاء لا يكون متشبعا بفصول القوانين فحسب، وإنما إلى ذلك متشربا لروح القوانين، بل ولا مفر من جعل هذا الإطار ممتلئا بثقافة حقوق الإنسان؛ فلعل ذلك يكون ردءا من كل تورط أو انسياق.

أما الشراع الثالث من أشرعة الانتهاء بالعدالة الانتقالية إلى مرافئ التحقيق، فهو توفر العدد والعدة والعتاد المادي واللوجستيكي من جهة، وتوفر الرصيد البشري المختص من جهة ثانية. ورغم أن هذا الأمر يبدو قابلا للتحقق نظريا، فإنه في المستوى العملي لا يبدو صحيحا؛ فتونس ومصر – على الأقل في هذه الظروف وهذه الأوقات – لا يملكان جهازا بشريا وإداريا قادرا على القيام بمسار العدالة الانتقالية، ولا غنى لهما عن الاسترفاد بما تقدمه كتلة الاتحاد الاوروبي مع ما في ذلك من استنزاف سياسي وسيادي للبلدين يعرفه الضعفاء والأقوياء على حد سواء في مجال اللعبة السياسية.

إذن، نحن في الواقع أبعد ما نكون عن تحقيق العدالة الانتقالية رغم تأكيد معظم المثقفين على أهمية أن تنجز هذه العدالة. فإذا كان لابد لها أن تنجز، فإن الأمر يجب أن يخلو في نظري من تصفية الحسابات. لا بد أن يكون ذلك في إطار تصور آخر للتحول الديموقراطي، ولابد أولا من استفتاء الشعب لمعرفة رأيه في آلية العدالة الانتقالية وطرائق تحققها، ثم النظر في مدى موافقتها لروح الدساتير الوطنية التي لم ينجز بعضها بعد.

إنني على يقين أن من أهم طرائق تضميد الجراحات القديمة هي تنمية ثقافة الحوار وتطوير سلوك التفاعل الإيجابي بين المواطنين، تعميقا لقيم حقوق الإنسان ونشرا لروح المواطنة.

كنت قد دعوت سابقا إلى تعويض مفهوم التسامح الذي يفترض المن بمفهوم السماحة الذي من معانيه الحلم والنسيان،[5] رغم أن معظم الحقوقيين يرفضون صيغة السماحة هذه، لأنهم لا يؤمنون الا بالمحاسبة مع يقينهم. إن مفهوم المحاسبة لا يخفي ضمنا غير مفهوم الانتقام، ولا تستطيع مجتمعات – في رأيي – أن تكفكف دمعها وتضمد جراحها بالتشفي والانتقام. قد يرى البعض أن فكرة طي الصفحة ليست إلا مناورات من الأنظمة السابقة حتى تغطي جرائمها. قد يكون ذلك صحيحا ولكن فكرة المحاسبة هي أيضا من المناورات وإن كانت من الأنظمة الحالية التي تريد أن تغطي حقيقة انتقاماتها.

إننا بالبحث عن المحاكمات والمحاسبات، نخشى أن ننسى العدالة بما هي قيمة أخلاقية إنسانية كونية، وبما هي جزء من مطلب الكلي، ولا نستبقي غير تابعها من الوصف، وهو “الانتقالية”. ونخشى أكثر أن تتحول العدالة الانتقالية إلى عدالة انتقائية أو انتقامية. فمن يتكفل بتحقيق هذه العدالة؟ من يضمن حياد القائمين عليها؟ وهل الحياد حقيقة ممكنة أم أن الإيديولوجيا قدر الإنسان حتى حين لا يريد ذلك؟

إن موضوع القيم ليس فقط هو ما نتطلع إليه ليتحقق، بل هو في تجاوز ما تحقق أيضا. يقول بول ريكور: “أن تكون إنسانا ليس معناه أن تعمل عملا محددا فحسب، وإنما أيضا أن تدرك الموضوع وتجنح إلى أفق كلي للوجود الإنساني”، وأساس هذا الكلي الإنساني هو الحرية، الحرية المسؤولة التي تصبح مبدأ إيطيقيا وأسا أنطولوجيا لكينونة الإنسان. “يشعر الشخص أنه حر أخلاقيا عندما يشعر بأن عاداته ونزواته لا تتحكم فيه، وإنما هو الذي يتحكم بها… وأنه إذا رغب في كبح جماح نزواته لا يلزمه من أجل ذلك قوة رغبة أكبر مما يعرف أنه قادر عليها”[6]. لذلك فلا بد أن نترك للمواطن حريته ونحمله مسؤوليته بعيدا عن جر الأهواء ودفع الرغائب، وإنما عبر الإحساس بالسلوك المدني وروح المواطنة، واستلهام القيم الدينية السمحة ونبذ الحس الانتقامي، وجعل الواقع والتاريخ كفيلين بتحقيق العدالة.

إننا نريد للعدالة أن تظل قيمة عليا وخلقا مثاليا يسير في ظل الحِلم والسماحة لا في ركاب التشفي والقصاص، وهل أرفع خلقا من العفو عند المقدرة؟ فلولا الظلم ما فقهنا للعدل معنى، ولولا الحلم ما بات للندم مرارة.

***

محمد بن محمد الخراط ، باحث تونسي حاصل على الدكتوراه في الحضارة حول موضوع: “تأويل التاريخ العربي عند بعض المفكرين المغاربة المعاصرين”. عضو بوحدة البحث “اتصال العلوم وانفصال في الثقافة العربية” كلية الآداب بسوسة، وأستاذ الحضارة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس. نشرت له مجموعة من المقالات والدراسات العلمية.

__________________

مواد ذات علاقة