كان متوقعاً أن يترشح خليفة حفتر وسيف الإسلام القذافي للانتخابات الرئاسية، ومع ذلك تسبب تقديمهما أوراق الترشح فعلياً في إرباك المشهد السياسي في ليبيا، كونهما متهمين بجرائم حرب، فإلى أين تتجه الأمور؟
ومن المقرر أن تجرى الانتخابات الرئاسية في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، وتليها مباشرة الانتخابات البرلمانية، وأعلنت مفوضية الانتخابات في ليبيا فتح باب الترشح رسمياً يوم 8 نوفمبر/تشرين الثاني، على أن يستمر الباب مفتوحاً للراغبين في الترشح للرئاسة حتى يوم 22 من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وحتى يوم 7 ديسمبر/كانون الأول بالنسبة للراغبين في الترشح للبرلمان.
ومن المهم هنا التذكير بأن هذه المواعيد والإجراءات نتجت عن المسار السياسي الحالي المسمى ملتقى الحوار الليبي، والذي رعته الأمم المتحدة بعد فشل الجنرال خليفة حفتر (زعيم ميليشيات شرق ليبيا الذي يسمي نفسه القائد العام للجيش الليبي) في احتلال العاصمة طرابلس وفرض نفسه حاكماً عسكرياً على البلاد.
لكن الواضح حتى الآن هو أنه لم يتم الالتزام بمخرجات ملتقى الحوار الليبي نفسها وما تم الاتفاق عليه بشأن المرحلة الانتقالية، التي يقودها المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، سواء ما يتعلق بتوحيد مؤسسات الدولة المنقسمة بين الشرق والغرب وخاصة المؤسسة العسكرية وخروج المرتزقة والمقاتلين الأجانب، أو ما يتعلق بالقواعد المنظمة لإجراء الانتخابات.
وعلى الرغم من العراقيل وعدم تنفيذ أغلب مخرجات ملتقى الحوار الليبي، يبدو المجتمع الدولي مصمماً على إجراء الانتخابات في موعدها دون تأجيل، وهذا ما خرج به مؤتمر باريس الأخير، والذي هدد بفرض عقوبات على أي شخص أو كيان يقف في وجه إجراء الانتخابات في موعدها.
الموقف القانوني لسيف القذافي وخليفة حفتر
وقبل الدخول في الشق السياسي لقائمة المرشحين المحتملين للرئاسة في ليبيا، في حال أقيمت الانتخابات بالفعل الشهر المقبل، من المهم التوقف عند الشق القانوني وموقف نجل القذافي بعد أن تقدم بأوراق ترشحه إلى مفوضية الانتخابات الأحد 14 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري.
سيف الإسلام القذافي، البالغ من العمر 49 عاماً، كان الابن المفضل للديكتاتور الذي حكم ليبيا بالحديد والنار لنحو أربعة عقود، وكان ينظر إليه في الغرب على أنه إصلاحي متعلم في لندن وأقنع جماعات حقوق الإنسان والناشطين السياسيين وحتى بعض المعارضين الليبيين بقدرته على إدخال إصلاحات ديمقراطية إلى البلاد حال توليه الحكم خلفاً لأبيه.
لكن عندما اندلعت الثورة ضد حكم والده عام 2011، دافع سيف الإسلام القذافي بشراسة عن حكم أبيه الدموي، بل وأصدر تهديدات دموية بحق المتظاهرين، قبل أن يتم القبض عليه من جانب أعدائه، وظل سجيناً لسنوات وحكمت عليه محكمة ليبية بالإعدام، وهو صادر بحقه أمر بالقبض من جانب المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب.
وكان الظهور الإعلامي الأول لسيف الإسلام القذافي قبل بضعة أشهر من خلال مقابلات أجرتها معه وسائل إعلام غربية تحدث فيها عن احتمال ترشحه للانتخابات الرئاسية في ليبيا. والأحد الماضي تقدم بالفعل بأوراق ترشحه في سبها من خلال مكتب تابع للمفوضية العليا للانتخابات، مرتدياً زياً شبيهاً بزي والده، وهو ما أثار ردود فعل متباينة داخل ليبيا وخارجها.
متحدث باسم المحكمة الجنائية الدولية قال إن أمر القبض على سيف الإسلام القذافي لا زال سارياً، ووجه المدعي العام العسكري الليبي خطاباً رسمياً إلى المفوضية العليا للانتخابات يطالب فيه بعدم قبول ترشح سيف الإسلام القذافي للانتخابات الرئاسية قبل التحقيق معه في الجرائم المتهم فيها. والخطاب نفسه حمل نفس الرسالة بالنسبة لخليفة حفتر، وذلك قبل تقدم الأخير رسمياً بأوراق ترشحه.
هذا الشق المتعلق بمدى قانونية ترشح نجل القذافي للرئاسة تسبب في حالة من الإرباك لدى المفوضية العليا للانتخابات، التي بثت منشوراً عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك تقول فيه إنه تم رفض أوراق ترشح سيف الإسلام القذافي، قبل أن تحذفه لاحقا. وقال مصدر في المفوضية إن القرار النهائي بشأن قبول أو رفض أوراق ترشح سيف الإسلام القذافي قد يصدر خلال أيام.
وأمس الثلاثاء 16 نوفمبر/تشرين الثاني، سارع خليفة حفتر بتقديم أوراق ترشحه للمفوضية العليا للانتخابات، ليزداد الموقف تعقيداً وإرباكاً، خصوصاً أن حفتر هو الآخر مطلوب للتحقيق بتهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب داخل ليبيا، وخارجها أيضاً على الأراضي الأمريكية بصفته مواطناً أمريكياً.
وعلى الرغم من اتخاذ محكمة فيدرالية أمريكية قراراً بتأجيل إجراءات محاكمة حفتر أمامها بتهم جرائم حرب إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الليبية، يظل الرجل من ناحية الشق القانوني البحت متهماً خاضعاً للمحاكمة، مما يثير تساؤلات بشأن مدى قانونية ترشحه من الأساس.
إرباك المشهد السياسي وتعقيده
لكن بعيداً عن الشق القانوني، فالمؤكد أيضاً أن ترشح نجل القذافي تحديداً قد تسبب في مزيد من الإرباك على المسرح السياسي في ليبيا، رغم أن هذا المسرح يعج بالفعل بعناصر الإرباك والغموض.
“إنه (سيف الإسلام القذافي) يشارك في عملية ديمقراطية سعى هو وأبوه بمنتهى الوحشية إلى القضاء عليها في مهدها مما تسبب في عقد كامل من الحروب والانقسامات داخل البلاد”، بحسب ما قاله أنس الجوماتي المحلل السياسي لصحيفة The Independent البريطانية.
كما تسبب توقيت دخول نجل القذافي، المتواري عن الأنظار منذ سنوات، إلى المسرح السياسي قبل أسابيع قليلة من موعد الانتخابات، في بعثرة الأوراق بالنسبة للاعبين الآخرين الطامحين إلى الفوز بالرئاسة، والذين باتوا مضطرين لإعادة حساباتهم مرة أخرى.
وكان حفتر أول من سارع بتقديم أوراق ترشحه رسمياً بعد يومين من خطوة سيف الإسلام القذافي، معلناً عبر تصريح تليفزيوني من مقره في الشرق الليبي أنه “بعد سنوات كثيرة من المعاناة، فتحت أبواب الأمل أمامكم لإعادة بناء بلدكم”، واصفاً ترشحه بأنه “ليس سعياً وراء سلطة أو وضع اجتماعي بل لقيادة الشعب في هذه المرحلة الحساسة نحو الفخر والتقدم والازدهار”.
وعلى الرغم من أن حفتر نفسه، بحسب أغلب المحللين، كان يمثل العقبة الرئيسية أمام المسار السياسي في ليبيا ويسعى للسيطرة على البلاد بقوة السلاح -مدعوماً بقوى إقليمية ودولية– فإن فشله المتكرر في تحقيق نصر عسكري أجبره الآن على أن يسعى لتحقيق هدفه عبر صناديق الانتخابات.
وعلى الأرجح ستشهد الأيام القليلة المقبلة تقدم عقيلة صالح رئيس البرلمان وعبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة الوطنية بأوراق ترشحهما للرئاسة، على الرغم من أن أحد شروط الترشح التي أعلنتها مفوضية الانتخابات قد لا تنطبق عليهما، وهو الشرط المتعلق بشاغلي مناصب رسمية وحتمية توقفهم عن ممارسة مهام المنصب رسمياً قبل 3 أشهر من موعد الانتخابات، فالدبيبة وصالح يمارسان مهامهما رسمياً حتى اللحظة.
لكن يبدو أن المفوضية العليا للانتخابات ملزمة بقبول ترشح كل من يتقدم بأوراقه، بحسب تحليل صحيفة الإندبندنت البريطانية، وبحسب ما ظهر حتى الآن بعد تقديم نجل القذافي وحفتر -المطلوبين للمحاكمة- لأوراقهما.
أي المرشحين أقرب للفوز إذن؟
قبل قراءة سيناريوهات الأسابيع القليلة المتبقية على موعد الانتخابات وما إذا كانت ستتم في موعدها أم ستتأجل، يبدو من الصعب التكهن بفرص المرشحين المحتملين -من تقدم بأوراقه بالفعل ومن ينتظر- نظراً لتعقد الموقف على الأرض ومرارات سنوات الحرب الطويلة التي خصمت من رصيد بعض المرشحين وأضافت لرصيد البعض الآخر.
فسيف الإسلام القذافي قد لا يمتلك فرصة كبيرة للفوز، بحسب كثير من المحللين، لكن ذلك لا يعني أن فوزه مستحيل. داخلياً، يعتقد مراقبون أن الأصوات التي قد يحصل عليها نجل القذافي ستكون خصماً من أصوات كان سيحصل عليها حفتر، حال عدم ترشح الأول.
وكانت وكالة بلومبيرغ الأمريكية قد نشرت مستندات كان يحملها اثنان من مرتزقة فاغنر الروس، أظهرت وجود دعم روسي لسيف الإسلام القذافي، وأظهرت أيضاً ملاحظات جاءت على لسانه يتفاخر فيها بأن 80% من أنصار حفتر سيدعمونه (يدعمون سيف) كحاكم لليبيا.
ويقول الجوماتي للصحيفة البريطانية إن “خطة سيف الإسلام القذافي واضحة تماماً. فهو يعتقد أن الانتخابات يمكن التحكم في نتائجها عبر توظيف مشاعر بعينها من خلال منصات التواصل الاجتماعي. ونظرة سريعة الآن على تلك المنصات في ليبيا تظهر منشورات كثيرة تحمل حنيناً إلى الماضي المستقر في ليبيا والرغبة في التخلص من أجواء الحرب والانقسام، وبعض تلك الحسابات مزيفة أصلاً”.
أما حفتر، فيرى أغلب المراقبين أن شعبيته في شرق ليبيا قد تآكلت خلال العامين الماضيين بفعل فشله في الهجوم على طرابلس من جهة والفظائع التي ترتكبها الميليشيات التابعة له من جهة أخرى. وفي الغرب الليبي، الأكثر كثافة سكانية، ينظر إلى حفتر على نطاق واسع على أنه مجرم حرب، وبالتالي فإن فرص حصوله على أصوات ذات معنى في السباق الرئاسي قد لا تكون كبيرة.
هل تتأجل الانتخابات؟
يرى كثير من الليبيين والمراقبين أن الإصرار على إجراء الانتخابات في ظل الأجواء الحالية يمثل وصفة مثالية لعدم تحقيق الاستقرار المنشود في البلاد، وذلك لعدد من الأسباب.
أول هذه الأسباب هو أن السباق الانتخابي الحالي ليس إلا انعكاساً لنفس الجبهات المسلحة، وهو ما يعني أن النتائج أياً كانت قد تكون سبباً في تفجير الصراع مرة أخرى، وليس إضفاء شرعية على الطرف الفائز.
ورصد تقرير الإندبندنت مقطع فيديو للشيخ صادق الغرياني يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني يشجع فيه الليبيين على حمل السلاح لوقف الانتخابات. “من المستحيل أن يتم إجراء الانتخابات في السياق الحالي، بمشاركة سيف الإسلام القذافي أو بدونها”، بحسب ما قاله فيرجيني كولومبير خبير الشأن الليبي في معهد الجامعة الأوروبية في إيطاليا للصحيفة البريطانية.
ولا يمكن تجاهل موقف المجلس الأعلى للدولة، وهو سلطة نيابية استشارية بحسب مخرجات ملتقى الحوار الليبي، الذي رفض قانوني الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الصادرين عن مجلس النواب برئاسة عقيلة صالح.
إذ عقد أعضاء بمجلسي النواب و”الأعلى للدولة” وعمداء بلديات وممثلون عن مؤسسات مجتمع مدني، مؤتمراً في طرابلس وأصدروا بياناً قال إن “إجراء الانتخابات الرئاسية بدون دستور أو قاعدة دستورية (بنود قانونية تنظم إجراءها) هي مشروع ديكتاتورية مهما كانت النتائج”.
وأكد البيان “أهمية إجراء الانتخابات في موعدها في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، وعدم السماح بعرقلتها أو إفراغها من مضمونها”، مضيفاً: “يجب أن تكون الانتخابات على قاعدة دستورية وفق ما نصت عليها خارطة الطريق والتعامل معها وتطبيقها كحزمة واحدة”.
كما دعا رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري إلى “عدم المشاركة في الانتخابات سواء عبر الترشح أو الانتخابات”. وقال المشري، في كلمة له خلال الملتقى، إن “العالم كله يعرف أن قوانين الانتخابات الحالية معيبة لكنه يتعامل مع الأمر الواقع”. وأضاف: “السماح للمجرمين (في إشارة إلى حفتر) بالترشح وممارسة العمل السياسي في ليبيا يعادل السماح للنازية بممارسة العمل السياسي في ألمانيا والفاشية في إيطاليا”.
وفي هذا السياق يرى بعض المراقبين أن تأجيل الانتخابات لعدة أشهر بغرض الوصول إلى مستوى أعلى من التوافق بين الأطراف المتصارعة قد يكون المخرج الأفضل، بدلاً من الإصرار على إقامة الانتخابات في الأجواء الحالية من الانقسام والتمترس خلف السلاح؛ لأن النتيجة الحتمية هي عودة الصراع مرة أخرى.
__________________

مواد ذات علاقة