مسار مفاوضات الأعلى والنواب

منذ فشل إنجاز الانتخابات في موعدها المحدد بحسب اتفاق جينيف في الرابع والعشرين من ديسمبر من العام المنصرم دخل المشهد السياسي في مراحل تجاذب قصوى نتج عنها حجب الثقة عن حكومة الوحدة الوطنية من قبل مجلس النواب كما تم تكليف فتحي باشاغا من قبل مجلس النواب ليدخل في شراكة سياسية مباشرة مع خليفة حفتر.

في ظل هذه المعطيات، شهد الوضع السياسي محاولات تقارب بين عقيلة صالح وخالد المشري، رئيسي المجلسين الأعلى والنواب، وقد التقيا في المغرب لمحاولة التوافق على تمرير حكومة باشاغا وإعطائها الثقة والموافقة عليها من قبل المجلسين.

ولكن سرعان ما انهار هذا المسار بعد إعلان التشكيلة النهائية للحكومة، والتي كانت جدلية قي انحيازها لمعسكر حفتر ما أثار حفيظة القوة الفاعلة على الأرض التي ساهمت بدورها في الضغط على رئيس المجلس الأعلى للدولة لتكبح حماسته للحكومة بشكل مؤقت.

مع بزوغ حكومة فتحي باشاغا أصبحت مؤشرات واحتمالية اندلاع اشتباكات أكثر من السابق، وهو ما أكدته محاولة الدخول للعاصمة من قبل قوات تتبع لحكومة باشاغا والتي تم منع دخولها دون وقوع اشتباكات ولتدخل وساطات اجتماعية نتج عنها انسحاب القوات التابعة لباشاغا ورجوعها إلى مقراتها.

في ظل التأزم أعلنت البعثة الأممية عن مبادرتها لإنتاج قاعدة دستورية والتي كانت آليتها انتخاب كل من المجلسين لإثني عشر عضوا للمشاركة في صياغتها، وهو ما تم بالفعل من قبل المجلس الأعلى للدولة، فالتحق وفد المجلس بدعوة البعثة الأممية في العاصمة التونسية دون التحاق مجلس النواب مدة ستة أيام ليعلن السفير المصري في اليوم الختامي رغبة القاهرة في استضافة حوارات الأعلى للدولة والنواب، وهو ما وافقت علية المستشارة الأممية لتخرج من حرج مقاطعة النواب وفشل مبادرتها.

ولقد كانت الاعتراضات داخل المجلس الأعلى للدولة للمشاركة في القاهرة كبيرة إلا أن رئيس المجلس استطاع تجاوزها ليتماها مع القاهرة ويلتقي هناك تمهيدا لهذه اللقاءات برئيس جهاز المخابرات العامة المصرية.

إبتداء حوارات القاهرة على أرضية مشتركة بين المجلسين. فقد جاء وفد الأعلى للدولة للمساهمة في إنتاج قاعدة دستورية وفق مبادرة وليامز في الوقت الذي تحدث فيه أعضاء مجلس النواب عن تعديل للدستور وعرضه على الاستفتاء وفق التعديل الدستوري الذي صوت عليه مجلس النواب والمعروف بالتعديل الثاني عشر.

هذه الخلافات الجوهرية في حوارات القاهرة مع الجدل المصاحب لها وإلقاء رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية الكلمة الافتتاحية أكدت هذه التفاصيل عدم وجود قاعدة مشتركة في الحوار ستفضي لنتيجة تذكر، وهو ما استدعى إنقاذ البعثة للحوار باستضافة رئيسي المجلسين في جينيف لإنجاز الحوار وإنقاذه بحسب البعثة.

رغم حديث وسائل الإعلام عن نقاش الرئيسين وخلافاتهما حول مواد الدستور أو القاعدة الدستورية إلا أن التسريبات تتحدث عن حديث الرئيسين المباشر مسألة الحكومة وطلب رئيس المجلس الأعلى للدولة من رئيس مجلس النواب تعديل وزاري على حكومة باشاغا لتكون قابلة للعمل من العاصمة في ظل أسماء ذات ثقل ووزن في المنطقة الغربية، وهو ما لم يصل فيه الرجلان لنتيجة أعلنت عنها وسائل الإعلام بعنوان “انهيار المفاوضات” في الوقت الذي يتفق فيه الرئيسان في المسار العام على عدم الرغبة والجدية في انجاز الانتخابات إلا أن هنالك تحديات قادمة تواجه الرئيسين.

المجلس الأعلى للدولة

في المجلس الأعلى للدولة تنتظر خالد المشري انتخابات رئاسة المجلس الشهر الحالي، وهي التي ستكون ذات استقطاب حاد ومن المحرج ألا يتم إعادة انتخاب خالد المشري رئيسا للمجلس من جديد.

ومن جهة أخرى فقد وصل استقطاب المجلس الأعلى للدولة داخليا مراحل لم يصل إليها الوضع من قبل، خصوصا من جهة كتلة متماهية مع إجراءات مجلس النواب تصرح باسم المجلس وبإسم لجانه وهي الكتلة التي لم تستطع إمضاء رأيها في التصويت على الموافقة على إجراءات مجلس النواب، فيما يتعلق بتكليف باشاغا برئاسة الحكومة، والتعديل الدستوري الثاني عشر في الوقت الذي تشكلت فيه كتلة رافضة لإجراءات مجلس النواب وتماهي المشري مع جزء منها، وهي كتلة ذات الفاعلية الأوسع في المجلس، إلا أختيار الرئيس يخضع بشكل واضح لتفرق الأصوات وانقسامها ما يرجح انقسام كتلة التوافق والداعمين للمشري حول المرشحين.

واقع المنطقة الشرقية وتحديات مجلس النواب

تعيش المنطقة الشرقية حالة غضب عارم راجع للعامل الاقتصادي المتردي وتململ الناس من القبضة الأمنية المفروضة عليهم، وهو ما دلت عليه الاجتماعات القبلية في سلوق المطالبة بإجراء انتخابات برلمانية في اقرب فرصة، في الوقت الذي استطاعت حكومة الوحدة الوطنية تجفيف الدعم المالي لحفتر وقواته ما يجعلها في حالة تأهب وحذر.

تتحدث معلومات دقيقة عن بداية تفاوض بين حكومة الوحدة الوطنية وحفتر برعاية إماراتية تبني حكومة اشتراطاتها ببساطة على تخلّي معسكر حفتر عن باشاغا من جانب والسماح للمهجرين العودة وتسليمهم أملاكهم وتعويضهم عن أرزاقهم، بشرط تعديل وزاري جديد يقوم بها رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة.

وبناء على هذا فإنه من غير المتوقع أن يحقق أي مسار بين مجلس الدولة والنواب أي نوع من التقدم في حواراتهما أو تحقيق أي نتيجة حقيقية في ما لا يتعلق بإقرار قاعدة دستورية لإنجاز الانتخابات في الوقت القريب.

يأتي ذلك بناء على الظروف السياسية والواقع الدولي والإقليمي، فبالنظر لانعكاس الأزمة الأوكرانية الروسية على الوضع السياسي في المنطقة وليبيا تحديدا، خصوصا مع وجود قوات الفاغنر التي تمثل اليد الطولى للنفوذ الروسي بالبلاد، والتي تثير تحفزا غريبا هذه الأيام.

ومن جانب أخرى فإن مسألة خطوات مجلس النواب ومساراته السياسية في المحطات الرئيسية هي خطوات محسوبة من الجانب المصري بشكل دقيق وهو ما أكده عقيلة صالح في محطات سياسية رئيسية فلهذا لا يمكننا التعاطي مع مفاوضات المجلسين كمسألة بسيطة تتعلق بإرادة المجلسين أو رئيسيهما بل هل مسألة تتعلق بإرادات إقليمية على المدى القصير والإرادة الدولية على المدى الأبعد.

غضب الشارع وحراك الشعب

من أبرز الضغوطات التي تواجه المجلسين والتي تجعل من تآكل شرعيتهما السياسية هو الغضب الشعبي العارم في الشارع الليبي مع اليوم الأول في الشهر الجاري يوليو 2022، خصوصا مع تردي الأوضاع المعيشية والخدمات وأزمة الكهرباء التي تفتك بالمواطن في هذه الأجواء الحارة.

وقد خرجت المظاهرات في كل من طرابلس وطبرق ومصراتة والبيضاء وسبها، ونتج عنها أعمال حرق وتكسير لمقرات مجلس النواب بطبرق، والمجلس البلدي بمصراتة، ومقر الخزانة في سبها، مطالبين برحيل كل الأجسام السياسية من مجلسي نواب والأعلى للدولة تحديدا، وذلك تعبيرا عن حالة السخط والحنق التي أصبحت بارزة في الشارع للأسباب السالف ذكرها، إضافة إلى العامل الاقتصادي المؤثر والفساد المستشري في الطبقة السياسية.

بالرغم من عفوية الحراك والمظاهرات إلا أن التسييس يظهر في جزء منه بشكل واضح خصوصا في العاصمة طرابلس إلا أن التوقعات حول مستقبل هذا الحراك يمكن تلخيصها في المسارات الآتية:

ـ خفوت الشارع ورجوع الوضع على ما كان عليه واعتبار ما حصل عبارة عن فورة غضب يمر بها الشارع يمكن للطبقة السياسية امتصاصها، وهو الأرجح حتى اللحظة لعدم وجود قيادة سياسية حقيقية تتبنى رأي الشارع وتقدود الحراك الداعم له، ولعدم وجود طبقة وسطى حقيقية في المجتمع كحال حراك عام 2011 والذي جاء نتيجة لظروف سياسية واقتصادية انتجب طبقة وسطى ساهمت في إنجاز الثورة على القذافي لتختفي هذه الطبقة السياسية نتيجة للظرف السياسي ما بعد عام 2015.

ـ استمرار الحراك بشكل أقل عنفا وتنظيم أكثر فاعلية وهو ما يمكن أن يتم في حالة تبنت القوى السياسي هذا الحراك وأحسنت توجيهه نحو الوجهة المناسبة لها في ظل غياب قيادة لهذا النوع من الحركات الشعبية.

ـ أن ينكس هذا الحراك بفاعل القوة كما جرى لحراك مكافحة الفساد فترة حكومة السراج والذي استطاع مسلحو الكتائب الأمنية فضة بالقوة وإنهائه بشكل جذري.

ومع اختلاف هذه المسارات فإن الواقع السياسي بعد حرق مجلس النواب لن يكون كالواقع السياسي الذي سبقه بل سيجعل من موقف مجلس النواب السياسي أضعف مما سبق وسيكون هذا الحراك إشارة للسياسيين أن تململ الشارع قد يؤدي لإنفجار مدوي في أي لحظة ولن يكون احتواء نتائج هذا النوع من الغضب الشعبي أمرا ممكنا.

وربما الأيام القادمة تظهر لنا تغيرات في المواقف السياسية للفرقاء الليبيين من تقارب لوجهات النظر أو ربما ظهور بعض المعالم لأحد السيناريوهات التي تكلمنا عنها في تقارير سابقة.

___________

المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية

مواد ذات علاقة