ليس التقارب الجغرافي والحدودي وعلاقات التصاهر والحدود المفتوحة بين تونس وليبيا هي العوامل الوحيدة المحددة للعمق الاستراتيجي بين البلدين، فالعوامل الأكثر عمقا تتمثل أساسا في ما هو اقتصادي وتجاري وسياسي وأمني وخاصة في ما يمكن الاصطلاح عليه بالمصير المشترك بين البلدين.

ذلك أن ما يحصل في ليبيا لهو علاقة مباشرة وتأثيرات جوهرية على الداخل التونسي ويعود ذلك إلى عمق العلاقات بين البلدين تاريخيا وحاضرا ومستقبلا، وإن محاولات طمس هذا الإرث العلائقي بين البلدين من خلال التدخلات الخارجية.

تلك العلاقات وسّعت دائرة نفوذها على الأراضي الليبية لمآرب ومصالح شخصية وإقليمية لا يفوت علينا فرصة التذكير دائما بضرورة توحيد الصفوف ومزيد الجهود للمحافظة على العلاقات بين البلدين ومزيد تطويرها وتشبيكها لا بمنطق السعي الطبيعي الذي تفترضه المصالح بين البلدين وإنما انطلاقا من حتمية تفترضها حتمية تفترضها التحولات الاقليمية والدولية.

ويشهد العالم على ارتسامها بطريقة تجعل إعادة ترتيب البيت التونسي الليبي أمرا في غاية من الأهمية وتجعل من المقاربة الأمنية أمرا حتميا سيما في ظل تنامي ظاهرتي الارهاب والتهريب.

المصالح الاقتصادية بين تونس وليبيا

يتوفر الاقتصاد التونسي والليبي على الكثير من التشابكات التجارية المشتركة الموغلة في تاريخ التعاون والمعاملات والمبادلات في جميع الميادين وعلى جميع الأصعدة.

تحتل المبادلات التجارية النصيب الأكبر في الدورة الاقتصادية بين البلدين، إذ بلغت في سنة 2022 ما قيمته بالدولار 977، وجاء ذلك في سياق التعافي النسبي الذي تعيشه الدولة الليبية والذي ساهم من جهة في تفعيل العديد من الاتفاقيات المتوقفة وعودة حركة السلع إلى سالف نشاطها.

جاء ذلك بعد التمكن من إلغاء العديد من المشاكل البيروقراطية ومساهمة تطوير البنية التحتية في تسهيل حركة السلع برا وبحرا وذلك من خلال وضع خطوط بحرية وبرية على غرار الطريق السريعة راس اجدير ـ تونس، وتنظيم معارض تجارية بي البلدين.

بالإضافة إلى المساعي المشتركة الهادفة لإلغاء كل العقبات الجمركية وبحث سبل إنشاء المنطقة الصناعية براس اجدير باعتباره الحد الأكثر ديناميكية بين البلدين، وتعود هذه الاجراءات والتسهيلات إلى الاشتراك في تصور جوهري مفاده أن تونس وليبيا شريكان أساسيان اقتصاديا واستراتيجيا.

ولعل من يزيد من دعم هذا التصور أو هذه المقاربة أن ليبيا تعتبر بالنسبة للدولة التونسية، ووفق ما جاء على لسان مدير مركز النهوض بالصادرات عماد حفيظ، هي الشريك الخامس عالميا والأولى عربيا بنسية ناهزت 4.3% من إجمالي الصادرات التونسية وأن هذه الأرقام سوف تأخذ نسقا تصاعديا في السنوات القليلة المقبلة.

بالإضافة إلى ذلك فقد كان ملف الطاقة والتعاون بين البلدين في مجال النفط والغاز في سنة 2022 أهم محاور الاهتمام حيث جرى الاتفاق مبدئيا على ما اصطلح عليه آلية المقاصصةأي استيراد البترول الليبي مقابل تمكين الدولة الليبية من مختلف المنتوجات والسلع وحاجاتها من المواد الغذائية الأساسية، الأمر الذي سيوفر على الدولة التونسية مشكلات متعلقة أساسا بموارد الطاقة ويزيد من دعم صادراتها ويوفر على الدولة الجارة الليبية حالات الشح في المواد الأساسية ويزيد من تشبيك علاقاتها مع الدولة التونسية على جميع الأصعدة الأمنية منها والعسكرية لحماية هذه المكتسبات.

إن ما تفترضه طبيعة التقارب الجغرافي والحدود المتقاربة وعلاقات التصاهر والجوار وما تفترضه أيضا المصالح الاقتصادية والتجارية والتعاونية المشتركة تحتمه اليوم تحديات كبرى وعراقيل ناجمة عن الأوضاع السياسية في الداخل الليبي والتحولات العالمية الكبرى التي ألقت بضلالها على شمال افريقيا ودول المغرب العربي.

ذلك يطرح بطريقة ملحة الملفات الأمنية المتعلقة بالإرهاب والتهريب كمشكلين كريسيين ويدعم في الوقت نفسه ضرورة وضع أسس متينة لاستراتيجيات كاملة الأركان ومشتركة قادرة على تلافي ظاهرة تنامي الحركات الإرهابية وظاهرة الترهيب ومزيد دعم العلاقات الليبية التونسية في ظل التحولات العالمية الكبرى شكال التعاون على المدى القصير والمتوسط والبعيد.

الارهاب والتهريب والاستراتيجيات الأمنية الردعية

وجب بادئ الأمر العودة على العديد من الأسباب التي ساهمت في ظاهرة الاقتصاد الموازي وتنامي ظاهرة التهريب، حيث أن العودة على تاريخ الثقافة المحلية بين سكان ليبيا وتونس يضعنا مباشرة أمام الخيط الناظم الذي ساهم في تكوين هذه الظاهرة داخليا.

من تلك الأسباب أن المنظومات الانتاجية لسكان هذه المنطقة كانت تقوم أساسا على الريع وتجارة القوافل والتهريب والترحال إلى الدول المجاورة طلبا للرزق خارج أطر الدولة ومؤسساتها، الأمر الذي سمح بتأصيل ثقافة الاسواق العشوائية وتهريب السلع عبر الحدود وتكوين جماعات مختصة في تهريب السلع من الداخل وجلبها من الخارج عبر الحدود البرية والبحرية.

خارجيا، يكون السبب الأكثر تأثيرا، هو التغير في النظام الاقتصادي العالمي، حيث يكون ذلك دافعا لتنامي ظاهرة التهريب فيتمثل أساسا فيما تنتجه العولمة وطبيعة تحرير السوق من شبكات عابرة ساهمت في إفراغ الدولة من ثقلها وسيطرتها على حركة السلع والتجارة المقننة.

ذلك حوّل المهرّب وتاجر العملة إلى شريك موازي للدولة وأداة من أدوات التجارة الحرة التي لا تعترف بمؤسسات الدولة وعملية التجارة داخل أطرها القانونية.

عندما نتابع حيثيات عمليات التهريب والتجارة الموازية فإننا نجد تسميات مختلفة لشبكات التهريب تتوزع منها من يزود محلّه الخاص وصغار التجار والوسيط المهرّب أو ما يسمى بالوسيط الجمركي الموازي وصرّاف العملة وغيرهم.

لكن اللافت أن إشكالية التهريب لم تقتصر فحسب على تهريب السلع والتجارة الموازية، بل تحولت واقترنت في العشرية الأخيرة بالإرهاب لتصبح العلاقة بين الارهاب والتهريب علاقة متماهية من ذلك ان الأرهابييحصل على السلاح من المهرّب، وفي نفس الوقت يحصل الأخير على عمولته.

أصبحنا نتحدث أمنيا عن زواج المصلحةبين الطرفين وتحولت العلاقة بين المهرب والإرهابي إلى علاقة عضوية أي الى مصالح متبادلة على الحدود التونسية الليبية والجزائرية.

ولعل ما أفادت به بعض شبكات التهريب التي تم القبض عليها والتي أكدت على تورطها في توفير وتموين وتقديم الدعم اللوجستي للجماعات الارهابية مساهمتها في إدخال السلاح عبر الحدود الليبية إلى الداخل التونسي، ناهيك عن توفير كل مواد التطبيب، هي خير شهادات على الاتساق والتلاحم بين شبكات التهريب والحركات الارهابية.

لم يكن ذلك مصادفة أن يرتبط الارهاب بالتهريب، فالطرف الأول في عملية تخريب أسس الدولة والدفع نحو حالة الإرباك، يعرف جيدا خبرة المهربين ودرايتهم الدقيقة بمسالك التهريب التقليدية وغير التقليدية وخاصة منها التي تتوفر على تضاريس وكثافة غابية.

إن زواج الدمبين الحركات الارهابية والمهربين أصبح اليوم أكثر من ذي قبل تحديا مشتركا بين الدولة التونسية والدولة الليبية، سيما في ظل تنامي هذه الظاهرة المنظمة جدا والتي يصعب في الكثير من الأحيان اختراقها أو الكشف عنها، إما لسريتها أو لارتباطها بدوائر أكبر تقدم لها كل الوسائل الحمائية والدعم اللوجستي والمادي، لذلك فإن مزيد من تشبيك العلاقات بين المؤسسات الأمنية بين الجارتين أصبح اليوم أكثر من ذي قبل ضرورة ملحة تقتضيها المصالح العليا للدولة التونسية كما للدولة الليبية.

لابد من مزيد الدفع نحو التعاون الأمني والعسكري والجمركي لوضع حد لهذه الظاهرة، وإذ أن الأمنية دائما ما تكون ناجعة خاصة إذا توفرت الارادة السياسية الخيرة.

إن الحلول الاقتصادية التي تسمح بتقنين هذه التجارة الموازية ومراقبتها له من الجدوى أيضا ما يكفي لسد الطرق أمام الإغراءات المالية الكبرى التي تقدمها الحركات الارهابية ودوائرها المالية الكبرى والعابرة للقارات.

لذلك فإن إقامة منطقة تجارية واقتصادية بين البلدين مع تكثيف الرقابة على حركة السلع خاصة في الحدود التي يحترفها المهربون ربما يكون الحل المشترك والتعاوني الناجع بين البلدين.

تقييم

إن الترابط التاريخي والجغرافي بين تونس وليبيا أفرز طيلة تاريخ زمني كبير علاقات تصاهر وجوار وعلاقات تجارية واقتصادية ساهمت في مزيد تشبيك العلاقات التعاونية على جميع الأصعدة وفي جميع المجالات وأصّلت لثقافة خير البلدين.

وقد تجلى ذلك في جميع الأزمات خاصة في العشرية الأخيرة حيث كانت الدولة التونسية خير ملجأ لأبناء الشعب الليبي خاصة في خضم الأحداث والتوترات التي عاشتها ليبيا في أعقاب الإطاحة بنظام القذافي واستشراء المنظمات الارهابية على كامل التراب الليبي تقريبا، إذ لم تبخل لا الدولة التونسية ولا منظماتها ولا أبناء شعبها ولا أبناء المناطق الحدودية بتقديم كل أشكال المعونة من أكل وشرب ومخيمات وأطباء بطريقة جعلت الأمم المتحدة تقدم مشروع إهداء الشعب التونسي جائزة نوبل للسلام.

كل هذه العوامل وكل هذه الأحداث تجعل من تونس وليبيا تتشاركان مصيرا واحدا يحتم على كل الأطراف مزيد الدفع نحو كل أشكال التعاون والتشاركية في جميع المجالات وتقديم المقاربات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية لدرأ كل محاولات إرباك الجارتين.

_____________

المركز الدولي للدراسات الاسترتيجية الأمنية والعسكرية بتونس

مواد ذات علاقة